عرضنا في الجزء الأول من تقرير “إلى أي مدى وصلت أزمة المياه في إيران”، عرضًا عامًا وبانوراما لطبيعة الوضع المائي في إيران، فحددنا مصادر المياه في إيران لاسيما العذبة منها، وسردنا قضية الجفاف وشُح المياه في الماضي القريب في الجمهورية وأرجعناها إلى أقرب فترة ضرب فيها الشُح المائي البلاد منذ عام 1999، واستعرضنا معدلات الاستهلاك شديدة الارتفاع من قبل الإيرانيين للمياه في بلادهم، متوازيًا مع حجم النُضُوب في معدلات هطول الأمطار التي تتناقص عام عن آخر.
يمكنكم الاطلاع على التقرير من هُنا
بحيرتا أورميا وهامون
الناظر للوضع المائي الطبيعي في إيران يستشعر حجم التدهور الذي تعاني منه البيئة المائية في إيران، وأيضًا مدى الانحدار والتراجع في معدلات المياه الذي وكأنه صخرة تسقط من ربوة جبل بسُرعة فائقة ستصل إلى السفح قطعًا، وسيصل هذا النضوب بالجماهير يومًا إلى حد الانفجار.
تمتلك إيران بحيرة تمدها بالمياه العذبة بصورة شبه دائمة، غير أنها تمُد البلاد بثروة سمكية ضخمة، وهي بحيرة هامون الواقعة بين محافظتي سيستان وبلوشستان، فقدت نضارتها وباتت جافة وشاحبة وأُصيبت البحيرة بموجات جفاف وغُيوم عواصف ترابية متلاحقة، التي تضرب إيران سنويا بالإضافة إلى انخفاض معدلات سقوط الأمطار التي استعرضناها سلفًا، هذا بجانب أمر شديد الأهمية وهو أن النظام الإيراني سعى بصُورة حثيثة إلى التوصُل إلى حل لأزمة المياه في مُدن الجمهورية الكبرى، إذ قامت بتحويل مياه البحيرة عبر أنابيب إلى هذه المدن، وضربت الدولة عرض الحائط بمواطني المحافظتين التي “حلبت” مياههما، بالإضافة إلى الضرر المادي الهائل الذي لحق بالمتكسبين والعاملين على هذه البحيرة لاسيما العاملين في مهنة الصيد. هذا أثر على مياه البحيرة حتى جفت كُليا.
بحيرة أورميا أيضًا، أكبر بحيرة مالحة في الشرق الأوسط ذات طول يبلغ 90 ميلًا وعرض يُقدر بــ 35 ميلًا، والواقعة غربي البلاد، البحيرة التي كانت تصخب بكثير من الحياة، فقد كانت لا تكف المراكب عن أن تمخر فيها، ولا يتوقف السُياح عن الركون إلى الفنادق الممتدة على ضفافها.
والتي لم تكُن تُستخدم مياهها في الزراعة أو الأغراض الشخصية كالشُرب وغيرها، أعلن مسؤولون إيرانيون، في 2014، أن زُهاء 93 % – 95 % من مياه بحيرة “أورميا” قد جفت، وهي بحيرة ذات أهمية قُصوى، لأنها مقصد سياحي من الطراز الأول، فهي توفر الحياة لأنواع عدة من الطيور النادرة، لاسيما طيور النحـام “الفلامينجو”، وأيضًا الغزلان، وكانت توفر لقمة عيش لقُرابة خمسة ملايين إيراني يقتاتون على ما يخرج منها. كما أنها كانت يومًا ما مزارًا استشفائيًا نظرًا لأهمية طينتها السوداء طبيًا.
والتوقع الغالب لدى النظام الإيراني أن البحيرة ستجف بالكامل في أقرب وقت ممكن، فقد صرح فارس كرامي، أستاذ العلوم البيئية، في جامعة الإمام الخُميني، لموقع منشور: “ستخسر إيران البحيرة كاملة، فقد زادت نسبة الملوحة فيها، وماتت أغلب الطيور. ورغم أن الرئيس روحاني أشار خلال حملته الانتخابية في 2013 إلى أنه سيُولي البحيرة اهتمامًا أكبر، ويوفر ميزانيةً خاصةً لها، فإن الحكومة لم تفعل أي شيء حتى الآن”.
تفاقم أزمة الجفاف، دعا مستشارة رئيس الجمهورية، حسن روحاني لشؤون البيئة، معصومة ابتكار، لئن تُصرح لجريدة العربي الجديد قائلةً أن: “حكومة نجاد مسؤولة عن حفر 50 ألف بئر في المنطقة المحيطة ببحيرة أروميا؛ مما أدى إلى جفاف البحيرة”.
كما صرح علي رضا سيد غوريشي، عضو في مجلس إدارة المياه المحلية، مطلع عام 2014، أن متوسط درجات الحرارة حول بحيرة أروميا ارتفع أكثر من ثلاث درجات خلال العقد الماضي، وهذا مما أزاد من مستوى التبخُر للمياه.
الغريب في الأمر، أن العديد من القرويين قد سجلوا منذ ما يُقارب من 10 – 15 سنة انحسار مياه البحيرة مرات متتالية، حتى تكاد قد تكون طُمست ملامح خط الشاطئ، كما أن المياه بالضرورة لم تعُد إلى صورتها الأولى، والأغرب أن الدولة لم تُظهر اهتمامًا تنفيذيًا فعليًا لمعالجة الأمر، رغم تواتر التصاريح من قبل نجاد سابقًا، وروحاني حاليًا، على أنهما عازمان على إنقاذ أورميا، ولكن هذه تصريحات السُدى.
سدود إيران التي أهدرت مياهها
مطلع عام 2014، كانت تحتل إيران المرتبة الثالثة في منطقة الشرق الأوسط في مجال بناء السدود لتوليد الطاقة الكهرومائية، بطاقة تشغيلية تصل إلى 56 ألف ميغا واط. وتقُم إيران بتصدير هذه الكهرباء، والاستفادة من عائداتها المالية الوفيرة، وهي الأُولى إقليميًا في هذا المجال.
تُولي إيران اهتمامًا جما بمجال السُدود، بل في دراسة مركز الخليج العربي للدراسات الإيرانية في مادة مترجمة عن موقع راديو فردا، أوضح أن الاستثمار في السدود في إيران احتل المرتبة الثانية بعد النفْط منذ عام 1979، حتى أن هاشمي رفسنجاني، كان يفتتح بشكل متوسط، خلال فترة رئاسته للجمهورية، سدا كل 45 يومًا، وكان ذلك سببًا في تسميته “چنرال الإعمار”.
نشرت مؤسسة “small media” عام 2017، تقريرًا باسم “الچنة المفقودة”، حول أزمة البيئة المستمرة في إيران، ويشير فيه عدد من الأكاديميين والمنظمات إلى جفاف البحيرات والأنهار في إيران، على أنها نماذج بارزة لسوء إدارة مصادر المياه خلال هذه السنوات. قام الفريق بالبحث والتقصي في موقع شركة إدارة مصادر المياه في إيران -من الهيئات التابعة لوزارة الطاقة- وتحصل الفريق على بيانات 1155 سدا في إيران، توصل إلى أن هناك معلومات أساسية مفقودة، علما بأن قاعدة البيانات لم تقدم معلومات كاملة سوى لــــ 100 سد فقط من هذه السدود.
بغض النظر عن هذا الأمر، فقد أتت هذه السُدود على خلاف مقصدها تقريبًا، فأثرت على مسار الأنهار التي تمر في البلاد، وكمية المياه فيها، حتى تسببت في جفافها، وأضرت الأراضي الزراعية.
حتى أن عضو لجنة الزراعة في البرلمان الإيراني، محمد سادات إبراهيمي، صرح لموقع جام جم الإيراني أن بناء السدود يُكلف البلاد يحتاج لميزانيات باهظة دون تحقيق فائدة عملية.
سنجد على سبيل المثال في طهران، هُناك أربعة سدود توفر مياه الشرب للمواطنين وأُضيف إليها سد جديد، لكن مؤخرًا اختلف الوضع نسبيًا، فقد بدأ انقطاع المياه لساعات طويلة، واضطر قاطنو المرتفعات من المباني السكنية إلى استخدام مضخات للحصول على الماء.
حتى أن أستاذ علوم المناخ في جامعة طهران، شهريار مطهري، أكد أن السدود الأربعة التي تغذي طهران بالمياه تهالكت بسبب سوء إدارة الحكومة لها. وأضاف أنه عوضًا عن معالجة السدود، فإن الحكومة تهرع في حفر الآبار؛ في محاولة جديدة لتدارك الأزمة، متجاهلةً أخطار الآبار الصحية، نظرًا لتهالُك البنية التحتية، واختلاط مياه هذه الآبار بمياه الصرف الصحي. عوضًا عن أن المياه خلف ثلاثة سدود من بين الخمسة قد اختفت تقريبًا من إثر الجفاف.
في مثال آخر، فهناك سد صُمم لنقل المياه، شُيد في عهد حكومة أحمدي نجاد، وهو سد “كتوند” أصبح يُشكل خطرًا على كافة الأراضي الزراعية في المنطقة بأكملها، فقد أُنشئ بالقرب من منجم غاتشساران للملح؛ فتشكل جبل من الملح خلف السد، وبالتبعية أثرت هذه الملوحة على المياه المُعدة للزراعة والشُرب. وأظهرت الدراسات المبكرة، أن السد سوف يُسبب دمارًا بيئيًا.
على سبيل المثال أيضًا، يُلقي الناس باللوم على عشرات السدود الكبرى التي شيدتها الحكومة، والتي تسببت في اختفاء بحيرة أورميا. فقد ساهمت تلك السدود في انخفاض كبير في تدفُق المياه من 11 نهرًا كانت تُغذي البحيرة.
لماذا تُشيد السدود إذًا؟
تسببت هذه السلاسل والأعداد الضخمة من السُدود غير مجدية النفع إلى الاستفسار الدائم عن جدواها، وفائدتها، فالهدف المُخصص لها لم تحققه، بل أتت على النقيض من ذلك، فقد نفذت الكثير من المياه في زراعة محاصيل اقتصادية مثل قصب السُكر والعنب والتمر، لا تُحقق أي أمن غذائي لمواطني البلاد الذين يعيش ملايين الملايين منهم في فقر وعدم القدرة على تحصيل القُوت اليومي، والري العشوائي غير المُقنن والذي تُهدر فيه ملايين المترات المكعبة من المياه العذبة سُدىً.
يُفيد تقرير لموقع المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية، أن الرئيس المهندس السابق محمود أحمدي نجاد، كان مهووسًا بتشييد المشاريع الكبرى. وقد كان للحرس الثوري الإيراني دور في هذا الأمر بقوة، إذ أن شركة “خاتم الأنبياء” للإعمار التابعة له، هي من قامت بتشييد الكثير من السدود في إيران، والدول المجاورة.
تناثرت أقاويل عدة عن أن الحرس الثوري قام بتشييد هذه السدود بالإضافة إلى عوائدها المالية الوفيرة التي سيتلقاها منها، فهو سيستخدمها كأداة دفاعية، للتأكد من أن الدولة تسيطر على مصادرها المائية بشكل كبير إذا حدثت مواجهة عسكرية طويلة المدى.