في الثامن من شهر كانون الثاني / يناير هذا العام، أشار تقرير موقع “BUSINESS INSIDER”، نقلًا عن الوكالة الإيرانية “تسنيم”، عن الرئيس الإيراني، حسن روحاني، أنه قال صراحةً، إن الاحتجاجات التي هزت إيران ليست موجهة للاقتصاد فقــط، بل أضاف أن الأمر قد يكون تشويهًا للأحداث، وإهانة أيضًا للشعب الإيراني عندما يقال عنهم أنهم منتفضون لأسباب اقتصادية فقط، ومضيفًا أن الشعب لديه مطالب اقتصادية وسياسية واجتماعية.
ووصل روحاني لمستوى أعلى من تصريحاته عندما ذكر إنه ينبغي السماح للشعب بانتقاد جميع المسؤولين الإيرانيين دون استثناء. وزاد من الشعر بيتًا عندما قال روحاني: “لا أحدًا بريء، ومسموح للناس بانتقاد الجميع”.
ماذا يقصد روحاني؟
إنها وطأة النزاع المحتدم بين معسكره كرجل إصلاحي، وبين الواقفين على الضفة الأخرى من أبناء المعسكر المحافظ المتشدد، روحاني نفسه ذكر أن هذه المظاهرات والاحتجاجات كان هدفها هو التيار المحافظ القوي الذي يعارض خططه الخاصة بترسيخ الحريات الفردية في الداخل، وتعزيز الوفاق في الخارج.
تبدى لاحقًا لروحاني، بل لخامنئي نفسه وهو رأس المحافظين أيضًأ، أن المتشددين من المحافظين هم من أججوا الاحتجاجات وكانوا يشعلونها مرارًا وتكرارًا عبر موجة من التصريحات التي راجت بين رجالهم، لاسيما رجال الدين ونخبة القادة والسياسيين منهم: إثارةً للبلبلة حول روحاني، وتقويض سلطته، وإخباتًا لمخططه الإصلاحي في السيطرة على الجمهورية.
المحافظون لا يريدون أن تستتب الأمور على الأرض لروحاني، ويريدون إبطاء مسيرته بأكبر قدر ممكن، وقد بيتوا النية لذلك، هذا على إثر ما قد أبداه روحاني من عداء واضح معهم، وقد كان روحاني أثناء حملته الانتخابية لانتخابات الرئاسة، التي تمت في أيار / مايو 2017، شن هجومًا لاذعًا على مؤسسات رئيسة يتحكم فيها أذرع خامنئي من المحافظين.
وقد قطع للجماهير وعودًا أنه في حالة انتصاره سيتولى الدخول معهم في نزاع لتخليص هذه المؤسسات منهم بهدف إعادتها لصورتها الصحيحة، خاضعةً للدولة، وكان أبرزها قوة الحرس الثوري الإيراني، ومؤسسة القضاء، ومؤسسة استان قدس رضوى الوقفية التي يرأسها المحافظ الشرس، إبراهيم رئيس.
وهذا أرسى في وجدان المحافظين عدم نسيان هذا الأمر لروحاني، فقرورا ألا تكون فترة رئاسته الثانية هنيئةً قط، وقد أضافوا هجومه هذا لرصيد كبير من الاحتداد بينهم وبين روحاني في فترة رئاسيته الأولى الذي ظهر في أداء حكومته وسياستها الاقتصادية الليبرالية، بالإضافة إلى نجاحه في إبرام الاتفاق النووي مع مجموعة 5+1، وإذابة جبال الجليد مع الغرب والولايات المتحدة الأمريكية، ومحاولة روحاني إخراج بلاده من كم العقوبات والآثار الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي رزحت أسفلها. فظهر المحافظون الإيرانيون وهم يعملون على هدم أكبر إنجازات روحاني في حكمه بصفة عامة، وأصبحت لديهم رغبة جامحة في إلغاء هذا الاتفاق.
روحاني جند كافة ملكاته التي اكتسبها أو كانت فطرية لديه، في هذا المعترك العسير، ووظف إجمالًا الميكانزمات التي يحوزها كرجل سياسي في المقام الأول، ورغبته في استقلالية قراراه بصفته كرئيس جمهورية في مقام آخر؛ في سبيل الانتصار أمام المحافظين والذين كانوا يعوولون بقوة على هذه التظاهرات لإخبات جهود الإصلاحيين هذا إن لم نضع في الحسبان أنهم كانوا يرغبون في إطناء وإبعاد الإصلاحيين وعلى رأسهم روحاني عن الحياة السياسية بالكلية.
لأنهم أصبحوا يمثلون “صداعًا” في رأس المحافظين؛ على إثر محاولاتهم المتكررة للوصول إلى سدة الحكم ثم إحكام السيطرة على مفاصل الجمهورية والتحكم في القرار السياسي فيها، وذلك عقب تغيير استراتيچيتهم بعد ما عانوه في مظاهرات الحركة الخضراء 2009 من قمع وبأس شديدين فضت فيها المظاهرات بلا هوادة.
وأصبح الإصلاحي مير موسوي تحت الإقامة الجبرية على إثرها منذ عام 2011، واستغل المحافظون هذا الأمر وزادوا من السيطرة والتفشي في أجهزة الدولة، لكن عقب فترتي نجاد القاحطتين واللتان عانى فيهما المواطنون، تغيرت البوصلة شطر الإصلاحيين الذين مثلهم روحاني وصعد على الساحة السياسية متفقهًا مما عانى منه أسلافه الأوائل منذ قيام الثورة الإسلامية مرورًا بحكم هاشمي رفسنجاني، ومحمد خاتمي.
وانتهاءً بمظاهرات الحركة الخضراء، وقرر روحاني ألا يكون ظلًا لرئيس على كرسي الرئاسة، وشن غارات على المحافظين، في مؤسساتهم، كمؤسسة الإذاعة والتليفزيون، ونظام الملالي وإمبراطوريتهم في مدن كقم ومشهد، وعلى قوة الحرس الثوري الإيراني، ومؤسسة القضاء التي يسيطر عليها لاريجاني، وناچز خامنئي في أكثر من موقف للتملص منه.
روحاني قام بالالتفاف على المحافظين، ولم يقف ضد المتظاهرين إجمالًا، بل ظهر وكأنه يرفع مطالبهم للنظام ويوضحها له، وأيد مطالبهم وأن لهم أصوات لا بد أن تسمع ويتم بحث مطالبها، وفي الوقت نفسه لم يتحدث وكأنه واحدًا منهم وطالبهم بألا يلووا ذراع الدولة، وألا يلجأوا للتخريب والدخول في معارك يعتريها العنف مع مؤسسات الدولة، وذلك حتى يفوت الفرصة على المحافظين بأن يوسموه بأنه وتياره هم من أطلقوا صفير الاحتجاجات لنفخ النار في الجمهورية وإثارة الوعثاء عليهم كمحافظين.
كما أظهر روحاني تعاطفًا وجدانيًا مع المتظاهرين، إذ كتبت نائب الرئيس الإيراني، معصومة ابتكار، إن روحانى أصر على الإفراج عن جميع الطلاب المحتجزين. وقال وزير التعليم، محمد بطحائي، إن هناك العديد من أطفال المدارس بين المعتقلين، وطالب بالإفراج عنهم قبل موسم الامتحانات.
كما أضاف روحاني قائلًا: “يجب عدم تقييد وصول الناس إلى وسائل الإعلام الاجتماعية بشكل دائم، ولا يمكننا أن نكون غير مكترثين لحياة الناس وأعمالهم”. وهذا على إثر الحظر الذي فرضه النظام على تطبيق التليجرام، وحال دون الوصول إليه أو استخدامه في عموم البلاد، بالإضافة إلى القيود التي شددها وأزادها على تطبيق إنستجرام.
وكانت هذه الطريقة هي ميكانزم وتكتيكٌ جديد أضافه روحاني إلى استراتيچيته، وهي معهودٌ بها، وهي أن الانسحاب الذي تخلفه في أرض ما يستغله طرفٌ آخر ويضع قدمه فيها، وهو عين ما يفعله روحاني مع المحافظين، فاستغل وتيرة الخطاب المتعالية من قبل المحافظين على المتظاهرين ومطالبهم ونفذ منها لتدعيم أرضه وإزادتها صلابةً، واستطاع أن يسيطر على ميدان التصريحات في وسائل الإعلام وفرض لهجة خطابه الناعم لتهدئة المتظاهرين، وتنحيتهم عن مطالبهم السياسية أوامتصاص غضبتهم عبرها.
فعل ذلك أيضًا عندما تبين له أن هذا التصدع الذي حدث داخل بنية المحافظين، من تدعيم نجاد للتظاهرات وتوقيفه من قبل قوة الحرس الثوري، أو حتى هذا التمرد البسيط الذي حدث في صفوف قوات الباسيچ وقيامهم بالانضمام للمتظاهرين. هذا ما لم يحدث على الجانب الآخر في الإصلاحيين والذين أصبح لديهم هدفًا حتميًا قائمًا على إصلاح النظام السياسي في إيران من داخله نفسه عبر السيطرة على مؤسساته ذات القرار مثل البرلمان أو الحكومة أو الرئاسة.
روحاني أصبح بمثابة قالب القرميد الذي ألقي به في مياه بركة ما، أو كمحلول صوديوم قذف يه في مياه عذبة، فأثار كثيرًا من الفرقعات ولم تصبح المياه هادئةً كما كانت عليه سالفًا، إن ذلك هو ما يغضب المحافظين الذين يدركون إن استمرار روحاني على سياسته الباسمة تلك، ونجاحاته الخارجية، وخطته الداخلية التي تميل لترجيح كفة المواطنين على التيار المحافظ ومصالحه؛ قد تعبد الأرض لمن وراءه من الإصلاحيين لئن يسيطروا على القرار مكتسبين زخمًا شعبيًا سيجعل منهم مدفوعين إلى الأمام دومًا.
يصبح لدى المحافظين أحچية دائمة وهي محاولة تقييد روحاني وإشغاله بأمور أخرى لا تنطوي على التحدي لسلطاتهم، وهذا يبرز لنا الصراع القائم بين السياسة التقليدية التي تحيا فيها إيران منذ ما يقارب على أربعة عقود، وبين التفكير السياسي خارج الصندوق تقريبًا وصفات السياسة الميكافيلية التي لم تن قائمة قبيل روحاني.