يطغى على إيران حالة التقارُع والاحتداد الدبلوماسي بينها، وبين دُولٍ عديدة كانت تنتظر أي زعزعةً أو حجر يُلقى في بُحيرة الداخل الإيراني الراكدة منذ 2009، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية التي ما فتأت تطرُق كل باب، وتستغل نُفُوذها وسطوتها؛ لتأليب المجتمع الدولي على إيران، وحثّه على تدعيم التظاهرات للمحتجين في إيران وصِياغة مصطلح الثورة؛ في محاولةٍ لصبغ الأحداث بصُورةٍ تدفع تحرُك وسيرورة دول العالم الأول بالأخصّ لتنفيذ رغبة ترامب في القضاء على وضع إيران السياسي.
إلى جانب انشغال النظام الإيراني بكافة أذرعه لاسيما الأمنية منها في حفظ الأوضاع في الشارع، والقضاء على الاحتجاجات بصُورةٍ نهائية، وإعادة الاستقرار الاجتماعي والهيبة الحكومية جبرًا، في ظِل دعمٍ روسيًا تركيًّا للنظام الإيراني، بل وقف الاتحاد الأُوروبي ممثَّلًا في أقوى دوله مطالبين بإبقاء قنوات الاتصال مفتوحة مع طهران وعدم معاداتها، نكايةً في الولايات المتحدة التي أصبحت شبه وحيدة دوليًا في عِراكها الدبلوماسي مع إيران، وأضحت فريسة واقعة تحت التهكُم الإيراني المستمر.
في خضم هذا المعترك، كانت هُناك رُواية جديرة بالاهتمام لئن تُعرَض وهي مطمورةٌ أسفل هذا الكم من التحليلات والعُرُوض والقراءات ولم تلق من الأهمية للحديث، وهو هل من الممكن أن يكون أحد طرفي الصراع من المحافظين والإصلاحيين أسهم في هذه الاحتجاجات؟، أو أتت رياحها بما تشتهي سُفُنه؟.
تقريران لجريدة وموقع The guardian، Buzz Feed News على الترتيب، تواترا على الإشارة إلى أن المتشددين من المحافظين هم من يقفون وراء هذه الاحتجاجات، بهدف إثارة البلبلة حول الرئيس روحاني، وتقويض سلطته، وإخبات مخططه الإصلاحي في السيطرة على الجمهورية ومحاولات استلابها من أيادي المحافظين والذين يسيطرون على مفاصل البلاد، لاسيما وأن روحاني أثناء حملته الانتخابية لانتخابات الرئاسة، التي تمت في أيار / مايو الماضي، شنّ هُجومًا لاذعًا على مؤسساتٍ رئيسة يتحكم فيها أذرع خامنئي من المحافظين، وقد وعد الجماهير أنه في حالة فوزه سيتولى الدُخول معهم في نِزاع لتخليص هذه المؤسسات منهم بهدف إعادتها لصُورتها الصحيحة، خاضعةً للدولة.
ونقلت وكالة أنباء الطلبة الإيرانية ISNA عن إسحاق جهانغيري، نائب روحاني وحليفه الصدوق، قائلًا: ” أن المسؤول عن اندلاع تلك الاحتجاجات السياسية في الشوارع ربما لن يتمكن من إخمادها، لأن غيرهم من الذين يصطادون في الماء العكِر قد يستغلون الأمر لصالحهم. وبالتالي، يجب أن يدركوا جيدًا أن عملهم سيعود عليهم بالوبال”. كانت إشارة جهانغيري شديدة البيان، ولم تكُن في حاجةٍ للتفسير، أن المقصود من الذين يصطادون في الماء العكِر هم أبناء التيار المحافظ في الجمهورية.
في مقالةٍ لليلي نيقولا، أستاذة العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية، على موقع الميادين، تحت اسم احتجاجات إيران: هل هي ثورة مُلوَّنة؟، كانت تُفنِّد فيه حُجج عدم توافق الأحداث في إيران مع طبيعة الثورات المُلوّنة، أشارت فيه إلى سبب أو حُجة هامة، وهي أن المُحافظين الإيرانيين يعملون على هدم أكبر إنجاز لحسن روحاني في سياساته الخارجية خاصةً، وحُكمه بصفةٍ عامة، وهو إلغاء الاتفاق النووي الذي أبرمته إيران مع مجموعة 5+1، وتوجيه ضربةٍ قاصمة للإصلاحيين في رأسهم، حسن روحاني، فتُطنِيهم عن الحياة السياسية تمامًا، عقب المعضلات التي أحدثوها جنبًا بجنب مع الاعتداليين ضد المحافظين، مثلما ظهر في شُخُوصِ أمثال كروبي، وموسوي، وخاتمي وغيرهم.
إنهم يتفقون بشكلٍ أو بآخر مع بُغية ترامب وهدفه في التنصُل من هذا الاتفاق، وهذا بالطبع لا يعني بالضرورة أن هدفهما واحد، ولكن هذا من جُملة المُسبّبات، التي يمكن الاعتداد بها.
أما بعد، ففي ورقةٍ صادرة عن وحدة تحليل السياسات في المركز العربي للسياسات، مُهِرت تحت اسم: (تقدير موقف)، “احتجاجات إيران: سؤال الشرعية وخيارات النظام”، أثارت أن هُناك اشتباكًا سياسيًا واقع بين دوائر المحافظين وحكومة روحاني، عبر انتقاداتٍ موجَّهة من قِبل المحافظين لروحاني تتعلق بأداء حكومته وسياستها الاقتصادية الليبرالية والانفتاح الخارجي سياسيًا واجتماعيًا، وهذا غذّى الاعتقاد الخاص بتشجيع المحافظين على المظاهرات، لا سيما أن المحافظين دومًا ما يضعون أنفسهم في صُورة المدافعين عن الفقراء والمنافحين عن حُقُوقهم.
في ظِل موازنة العام الفارسي الجديد، التي وضعها روحاني وحكومته، والتي سيجري تطبيقها آذار / مارس القادم، مُقدرةً بـ 104 مليار دولار، يُقلَّل فيها الاعتماد على النفط بنسبــة 35 %، مع المزيد من الارتفاع المُطرَّد في أسعار المحروقات، والسلع الغذائية، والضرائب. وكان لهذا كبير الأثر في صب المحافظين بعض الوقود على زيت التظاهرات.
فرح الزمان، صُحافيةٌ متخصصة في الشأن الإيراني، اعتمدت عليها منصّة ساسة بوست في تقريرها الخاص بشرح الأحداث في إيران، ومصدر آخر لم تُسميه، أشارا إلى أن الاحتجاجات لُبِّست برداء الصراع بين أجنحة داخل النظام من المحافظين والإصلاحيين.
وأشار التقرير إلى أن المحافظين بهذا الوضع سيُصبِحون هُم المنتصرون من عملية المظاهرات -لاسيما وأن هُنالك كوادر منهم دعموا التظاهرات مواربةً عبر تصريحاتٍ ضمنية صادرة منهم كتصريح إبراهيم رئيسي، المرشح المحافظ الشرس السابق لروحاني في الانتخابات الرئاسية، بمدى معاناة الفقراء في إيران، وضرورة نزول الحكومة على مطالب الجماهير -، إذ ما ستلبث سحابة هذه الاحتجاجات أن تنقشع، حتى ينسل المحافظون من كُل حدبٍ وصوب يقُضون مضاجع الإصلاحيين، ويستغلون هذه الاحتجاجات في خطابهم السياسي القادم لاسيما ونحن على مشارف الانتخابات النيابية، ورغبتهم في تحقيق اكتساحٍ نيابي يُحجِم روحاني وجماعته هذا إن لم يُعرقِلونهم.
لذلك نرى أن القفزة التي حدثت في المطالب من التحرُك من البُعد الاقتصادي إلى الأُفق السياسي، والمطالبة بتغيير النظام بالكُلية، كان محض فورة، أو فُقاعة سريعًا ما نفثّت عن الهواء المُخزَّن بداخلها، وهذا ما أثبتته الأيام، عندما عاد المتظاهرون للمربع أو الخانة التي خرجوا من أجلها، وهي الاقتصاد والأوضاع المعيشية بالغة السُوء.
روحاني لديه شبه عِلمٍ ودرايةٍ كاملةٍ بهذه الأُمور، ولكن من المعلوم أن روحاني ليس برجُلٍ عادي، وهو لديه من المكر والدهاء والسِمات السياسية التي يُعوِّل عليها ليس فقط في احتواء الاحتجاجات، بل في تحويل وتوجيه دفتها ليُوجهها إلى صُدُور المحافظين أنفسهم، فهو يعلم أن فكرة إبقاء النظام الإسلامي للجمهورية، هو أمرٌ مُتفَقٌ عليه بين كافة الأطياف مهما كان الصراع مُستعِر بينهم، ولكن عندما ازدادات وتيرة الهتافات وأصبحت تنال من هُويّة النظام، وفكرته من الأساس، فهذا شيءٌ ليس بجيد بالمرة بالنسبة للمحافظين، إن ظهر على السطح وتبين لقواعد المؤيدين لفكرة الجمهورية الإسلامية والذين ملئوا الشوارع والميادين في أواخر كانون الأول / ديسمبر المنصرم لتأييد النظام، أن المحافظين هُم من أشعلوا التظاهرات حتى وإن كانوا لا يعلمون بهذا التحرُك السريع في سياسة الهتافات في التظاهُرات.
فستتهاوى أسهمهم بقُوة وسيخسرون حواضن شعبية لصالح الإصلاحييين، الذين يحاولون بناء صُورةٍ رمزيةٍ لهم تناوئ صُورة المحافظين التي تكونت منذ عام 1979، صُورة تعتمد هذه المرة على مطالب الشعب ورغبته في وضعٍ اجتماعي واقتصاديّ قوي، ومناوئة القوى العالمية في المناخ السياسي الداخلي للجمهورية، وليس على البناء الهوياتيّ والعقيدة الدينية كما هو معمولٌ به منذ عُقُود، والتي أظهر المتظاهرون ضجرًا بها ومن عملية استجدائها دومًا كلما طالبوا النظام بإصلاحاتٍ أو مطالب تنعكس بالفائدة عليهم كما تنعكس على الملاليّ من رجال الدين، ودولة الظُباط والحرس. وهذا ما أظهرته ورقة المركز العربي، في أن أيديوچية الجمهورية الإيرانية شاخت مثلها مثل دول أُوروبا الشرقية، وسيُصبِح عليها انتهاج سياسةٍ أكثر مواءمةً مع مطالب الجماهير.
كما أظهر روحاني طرفًا من هذا، وأمسك بالعصا من منتصفها، عندما خرج في الأيام الأُولى من الاحتجاجات، قبل أي مسؤول في دولته، وعبّر أن الاحتجاجات التي تحمل مطالب وأهداف لصالح الجماهير مأخوذٌ بها، مع الأخذ في الوقت نفسه تشديده على عدم التعرُض لمؤسسات الدولة، أو استخدام التخريب والتدمير لإكساب قضية الاحتجاجات زخمًا لأن الدولة لن تقبل بهذا.
واشنطن بوست أيضًا في تقريرٍ لها، حاولت أن تكشف عن سبب عدم مشاركة التيار الإصلاحي في مظاهرات إيران، التيار الإصلاحي يؤمن بمدى مشروعية مطالب المحتجين، ولكنه يخشى على الجمهورية أن تُحوَّل إلى أفغانستان أو سُورية جديدة، كما أنه لا يُريِد بالضرورة أن يُلحِق أي أذى بممثِّلهم في رئاسة الجمهورية، واستخدم الإصلاحيون وسم #نؤمن_بالإصلاح؛ لإيضاح موقفهم عن طبيعة هذه التظاهُرات.
أشار التقرير أيضًا إلى واحدٍ من الأسباب المُفضِية لعدم مشاركة الإصلاحيين في الحركة الاحتجاجية، والتي ربطوها بجُذور نشأة الحركة الإصلاحية، التي عانت على مدى سنين عددًا من قمع وبطش المحافظين الذين كانوا يمسكون بزِمام الأُمور في البلاد وذلك قُبيل صُعودهم للمناصب التنفيذية والتشريعية في البلاد منذ عام 1979، فتحول هذا إلى عقيدةٍ لديهم تُفيد عدم إيمانهم بجدوى المظاهرات التي تبرُع أجهزة المحافظين الأمنية في فضها وقمعها من جهة، ومواصلة الكفاح من أجل مطالبهم وأهدافهم الكامنة وراء إصلاح بُنية النظام من الداخل وتجنُب المواجهة من جهةٍ أُخرى.
الإصلاحيون بذلك يحاولون الاستفادة من دروس موجة الحركة الخضراء عام 2009، والتي شاركوا فيهم بثقلهم وتعرضوا على إثرها لموجة قمع عارمة أثرت على مسيرتهم السياسية.
إن ما نراه هذا، هو طبائع الأُمور، فليس هُنالك صراع يأخذ صُورةً ما ويستلب مِداد الأقلام وعدسات الكاميرات، ويحمل بداخلهِ دماءً وعُنف وقمع، إلا وكان يحمل في طياته صِراعات عديدة بين أطرافٍ متفاوتة تحمل أهدافًا، وتتبنى أيديولوچيات، ولديها جماعات مصالح، وترسم خططًا لتبني رؤاها على إثر هذا الصراع الفُقاعة، وقد كان المحافظون والإصلاحيون هُم أبطال هذه الهبّة الاحتجاجية، يجمعهم الإيمان الجازم بثقتهم المتناهية في أن هذه الاحتجاجات لها يوم ما وستنتهي طواعيةً أو كراهةً، ولكنهم يريدون تحصيل القدر الأكبر من الفوائد والمنافع حتى يوجه واحدهم للآخر صفعات تُخدِره حالما يُزيد الطرف الآخر من بسط نُفُوذه وسيطرته.
يبدو أن الأيام القادمة ستشهد قراءات وتحليلات أكثر لهذه القضية بعدما قاربت أو انتهت بالفعل صدمة المظاهرات الفجائية في إيران، واستتبت الأوضاع للنظام مجددًا، وسنرى بصورةٍ أبرز من المحافظون الذين غذوا لهيب التظاهُرات، ولِما؟،كما سنرى أيضًا من سيجنى الانتصارات والمكاسب السياسية على ربوة هذه التظاهرات.
ليظل الصراع قائمًا بين الطرفين ويبلغ أحد أكثر وُجُوهه ذُروةً في عهد روحاني الذي تعلم مما حدث مع الرئيسين السابقين محمد خاتمي، وأكبر هاشمي رفسنجاني، ضرورة استقلال الكلمة لمؤسسة الرئاسة ووضع جُذور مُمتَّنة في الأرض للإصلاحيين ليحلوا مكان المحافظين يومً ما، والذين أصبحوا يعّوون أن روحاني ليس كأسلافه، وأن الإصلاحيين بدوا بقُوةٍ أكثر مما مضى، فهذا سيُكلِفهم تغيير استراتيچياتهم وإعداد عُدةٍ أكبر للإصلاحيين للتفوق عليهم مجددًا.