تتقاطر ردود الفعل العالمية رويدًا، وبصُورةٍ تدريجيةٍ، حول الاحتجاجات والمظاهرات واسعة النطاق التي تضرب الجُمهُورية الإيرانية من شرقها إلى غربها مرورًا بعاصمتها طهران، احتجاجًا على ارتفاع الأسعار لاسيمـا الغذائية منها، والتضخُم المالي، والبطالة وانخفاض فُرص العمل، والفساد المٌستشري في النظام التنفيذي للبلاد، ودُخُول البلاد في صراعٍ إقليمي مُضنٍ كلّف البلاد كُلفةً باهظة بشريةٍ ومالية في جبهاتها المفتوحة، في اليمن، والعراق، وسُورية، ولُبنان في ظل صراعٍ شديدٍ مُستعِر مع المملكة العربية السُعودية.
ثم ما لبثت هتافات التظاهرات أن تطورت وأخذت منحىً سياسيًا عندما نُودِي بإسقاط نظام الملاليّ ممثلًا في مرشد الثورة الإيرانية، علي خامنئي، ورأس النظام التنفيذي، رئيس الجمهورية،حسن روحاني، وهُتِف ضدهما بالموت.
ضخامة الاحتجاجات، وتعاظُم الأعداد المُنخرِطة فيها، وارتفاع مُعدلات الاعتقالات، وسُقُوط ضحايا، وحُدُوث عُنفٍ متبادل بين الشُرطة والمحتجين، وتحذيرات النظام، كُلها مظاهر أغرت ورغّبت رُدُود فعلٍ عالمية للذين يقفون من الخُصُوم ليتصيدوا للنظام الإيراني على جبهاتٍ مُشرّعة متعددةٍ.
الولايات المتحدة الأمريكية، شديدة العداء للجمهورية الإيرانية، لم تكُن لتجد فُرصةً أهم ولا أقرب من هذه لاستغلالها. فتتالى تأييد الرئاسة، والخارجية، ومندوبيتها في الأمم المتحدة للمظاهرات في إيران.
إذ قال ريكس تيلرسون، وزير الخارجية الأمريكي، أن هُناك شُخُوصًا وعناصر تريد انتقالًا سلميًا تداوليًا للسُلطة في الجمهورية.
وقالت وزارة الخارجية الأمريكية، عبر متحدثتها الرسمية، هيذر نويرت، أنها “تُدين بشدة” الاعتقالات، وذكرت أن الولايات المتحدة الأمريكية حثت “جميع الدول على الدعم العلني للشعب الإيراني، ودعم مطالبه المنادية بالحقوق الأساسية، ووضع حدِّ للفساد”.
U.S. welcomes urgent, long-awaited medical evacuations from Eastern Ghouta in #Syria. We thank those working to save lives in this difficult environment. pic.twitter.com/tHc8ew09wl
— Heather Nauert (@statedeptspox) December 30, 2017
وأضافت قائلةً أن “القادة الإيرانيين حوّلوا دولةً غنية، زاخرةً بالإرث التاريخي والثقافي إلى دولةٍ مارقةٍ مُستنزَفة اقتصاديًا، صادراتها الرئيسية العنف وسفك الدماء والفوضى”. واقتبست مقولة للرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، أن الضحايا الأطول معاناةً للقادة الإيرانيين، هم الشعب الإيراني نفسه.
وقالت المتحدثة باسم البيت الأبيض، سارة ساندرس، في تغريدةٍ لها على صفحتها على منصّة تويتر: “يجب على الحكومة الإيرانية احترام حقوق شعبها، بما في ذلك الحق في حرية التعبير”. مضيفةً أن المواطنين الإيرانيين غير راضين، ويحتجون سلميًا ضد فساد النظام، وتبديد الثروة الوطنية لتمويل الإرهاب في الخارج.
Reports of peaceful protests by Iranian citizens fed up with the regime’s corruption and its squandering of the nation’s wealth to fund terrorism abroad. The Iranian government should respect their people’s rights including their right to express themselves. The world is watching
— Sarah Sanders (@PressSec) December 30, 2017
وقالت المندوبة الأمريكية لدى الأُمم المتحدة، نيكي هيلي، في بيانٍ لها، إن بلادها تدعم التظاهرات السلمية للإيرانيين، وتُعرِب عن أملها في إرساء الحرية، وحقوق الإنسان في إيران.
وكعادتهِ غرّد دونالد ترامب عبر حسابه على موقع تويتر، حاثًّا النظام الإيراني على احترام حقوق شعبه، بما فيه حقهم في التعبير عن آرائهم، واصفًا إياه بالشعب الذي ضج من فساد نظامه، وتبديد حكومته ثروات البلاد في تمويل الإرهاب الخارجي، مُنوِّهًا إياهم أو مُهدِّدًا بأن العالم يراقب عن كثبٍ واهتمام الاحتجاجات الإيرانية.
وهذا الاهتمام الأمريكي لاسيما الرئاسة نابع من مركزية إيران فى جدول أعمال ترامب ورغبته الجامحة فى أن يُنسِب لنفسه الفضل فى تحقيق أى شيء إيجابى فى عهده، وذلك حسبما أكّد مساعد وزير الخارجية ومُنسِّق البيت الأبيض فى الشرق الأوسط، خلال إدارة الرئيس الأمريكى السابق باراك أوباما، فيليب چوردون،
إيران كالعادة ردّت خارجيتها البارعة المتمرسة -والتي لها طول باع ودُربةٍ مع مثل هذه الظُرُوف- بقُوةٍ على التدخُل الأمريكي في شُؤونها الخارجية، إذ أشار بهرام قاسمي، المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية، في تصريحاتٍ صحافية، أمس السبت، إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية ليست بموقعٍ لتُبدِي تعاطفها مع الشعب الإيراني، وأن الشعب يتذكر المؤامرات على بلادهم، ومحاولات الانقلاب منذ عُقُودٍ مضت. قائلًا: “الشعب الإيراني لا يُعطي أي اهتمام لتصريحات ترامب حول إيران”. مُضيفًا أن: “الدستور الإيراني دستورٌ ديمقراطي، ويضمن حقوق المواطن، والشعب الإيراني شارك في اختيار نظامه الحاكم، وشارك في انتخاب رئيس الجمهورية”.
روحاني نفسه لم يترك تصريحات الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، أن تمر مُرور الكرام، فقال: “إن من وصفوا الإيرانيين بالإرهابيين لا مجال لتعاطفهم مع شعبنا”.
كندا هي الأُخرى دعّمت التظاهُرات في إيران، بالأمس الأحد، وقالت وزارة الخارجية الكندية، في بيانٍ لها، إن كندا تراقب عن كثب المظاهرات الاحتجاجات واسعة النطاق التي تشهدها عدة مدن داخل إيران، وإنها تساند الشعب الإيراني الذي يمارس حقوقه المشروعة في الاحتجاج السلمي.
وأفاد قطاع الشؤون الخارجية بالحكومة الكندية في بيانٍ، أن بلاده ستستمر في دعم الحقوق الأساسية للإيرانيين، بما فيها حرية التعبير، وطالب السلطات الإيرانية بـاحترام الديمقراطية وحقوق الإنسان.
بهرام قاسمي كان موجودًا في الموعد مجددًا، متهمًا كندا بالتدخُل في شؤون بلاده الداخلية، وانتهاك الالتزامات الدولية دون أي مبررات قانونية، وأن كندا اتخذت موقفًا متطفلًا في بيانها المناهض لإيران. بل وحوّر أسلوبه الدفاعي إلى هُجومٍ على الحكومة الكندية، حينما استنكر في بيانه، مقتل الشاب الإيراني، بابك سعيدي، الأربعاء الماضي، على يد عناصرٍ من الشرطة الكندية، دون معرفة مُلابسات الواقعة. وقال: “إن تجاهُل المطالب الإيرانية الشرعية لفرض الحقوق القنصلية، يشير إلى سياسات كندا المزدوجة تجاه المواطنين الإيرانيين”.
بريطانيا أيضًا، كل لها ردًا إيجابيًا تجاه الحركة الاحتجاجية في إيران، سلبيًا تجاه النظام الإيراني، حينما صرّح وزير خارجيتها، بوريس چونسون، إنه يراقب الأحداث في إيران باهتمام، وأضاف في تغريدةٍ له عبر حسابه على تويتر: “لا بُدّ من حُصُول المواطنين على حقهم في التظاهر سلميًا”.
Watching events in Iran with concern. Vital that citizens should have the right to demonstrate peacefully.
— Boris Johnson (@BorisJohnson) December 31, 2017
وهذا يُعتبر أول ردّ غربي أُوروبي يطفو على السطح لأنه لم يظهر حتى هذه اللحظة، أي رأي من قِبل دولٍ أوروبية فُرادى، أو الاتحاد الأُوروبي مُجتمعًا. مُلتزمًا بالحياد حتى هذه اللحظة، نستطيع أن نُحيِل ذلك إلى توتر العلاقات بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية تحت قيادة ترامب، بل أن منبت هذا التوتر هو رغبة أمريكا في التنصُل من الاتفاق النووي الإيراني، في ظِل الرفض الأوروبي لهذا الأمر.
العرب متواجدون خلف الستار
قال حسن روحاني أن: “بعض الدول العربية التي لا تحترم الإيرانيين، تحثهُم اليوم على التظاهر واستخدام العنف”.
تكلم حتى أراك، كما قال أرسطو لأحد تلاميذه، وبعض الأنظمة العربية لم تُخفِي ذلك فتكلمت، وكان أبرز مثال دولة الإمارات العربية المتحدة، فقد صرّح وزير الدولة للشؤون الخارجية الإماراتية، أنور قرقاش، في تغريدةٍ له على حسابه على موقع تويتر، إن احتجاجات إيران فرصةً لنظامها للمراجعة وتغليب مصلحة داخلها على “مغامرات طهران العربية”، على حسب تعبيره.
الإحتجاجات في مشهد ومدن إيرانية أخرى فرصة للمراجعة العاقلة وتغليب مصلحة الداخل على مغامرات طهران العربية، مصلحة المنطقة وإيران في البناء الداخلي والتنمية لا إستعداء العالم العربي.
— د. أنور قرقاش (@AnwarGargash) December 28, 2017
وغرّد ضاحي خلفان، نائب رئيس شرطة دبي، هو الآخر عبر حسابه على تويتر، بعشرات التغريدات التي شاركها أو دوَّنها عن الوضع في إيران، خلال عدة أيامٍ قليلة من بدء المظاهرات في إيران، منها تغريدة حول إسقاط محمد بن سلمان لنظام الملاليّ الإيراني في 2018، دون أن يدخل في مواجهةٍ معهم، بل عبر رؤيته التنموية 2030.
وقام المُغرِّدون العرب والذين يملكون حساباتٍ على منصّة تويتر بتفعيل وسم #يحدث_الآن_في_إيران، وأيضًا وسم #انتفاضة_الشعب_الإيراني، والذي تصدّر مُعدلات الزيارة والاستخدام على تويتر، وانسدلت من خلال هذا الوسم، آلاف التغريدات المصحوبة بالصُور والمقاطع الوسائطية وروابط التقارير، تُوضِّح حقيقة الأحداث في الميدان الإيراني وكيفية تعامُل الأمن الإيراني مع المُحتجين، لا ضير إن مُرِّرت من خلال هذه التغريدات رسائل مُضمَّرةٌ تحمل توجهات مُدونيها الذين غالبيتهم من السُعودية، أو الإمارات. مُعبرين عن أن هذا ما يُمكنهم فعله، ألا وهو مناصرة المحتجين الإيرانيين إعلاميًا.
وقد وصلت بعض هذه التغريدات إلى مبالغاتٍ في التوصيف، والحقائق أيضًا، والسرد عن أحداثٍ لم تقع بالأساس.
في نقلٍ له عبر وكالة “تسنيم الإيرانية”، قال المتحدث الأسبق باسم الخارجية الإيرانية، حميد رضا آصفي، إن الحكومة السعودية تحاول استغلال أجواء التجمعات والحرية الموجودة في إيران لتُثيِر التوتر والقلاقل بها. هذا يسير بالتوازي مع التقرير الهام الذي دشنه موقع الجزيرة حول إحصاءاتٍ حديثة تكشف أن السعوديين يُشكِّلون المجتمع الأول الأكثر تفاعلًا عالميًا على منصة التدوينات القصيرة (تويتر)، إذ يبلغ عدد الحسابات العربية 11.1 مليون حساب، من بين نحو 327 مليون حساب فاعل على المنصة حول العالم. تمتلك السُعودية ما هو نسبته 29 % من حجم الحسابات العربية الفاعلة، ويُغرّدون 9 ملايين تغريدة يوميًا. أي عددٌ هائل، ونشاطٌ واسع.
ألقى هذا بظلالهِ على الاستحواذ السُعُودي على منصّة تويتر، وانعكاسه على صناعة الوُسُوم (الهاشتاجات)، فلا يكاد يمر يوم إلا وقد وضع السعوديون وسمًا واحدًا على الأقل في أعلى سُلم الترند العالمي، بل إن وُسومهم تتصدر عادةً هذه القائمة لساعات وأحيانًا ليوم، وهي مدة تعتبر في عالم التفاعل عبر منصةٍ تويتر طويلة نسبيًا.
وتنخرط شركات استثمارية كُبرى في شراء أسهُم الشركة يومًا بعد يوم، وكان أبرز استثمار آنذاك هو استثمار، الأمير المعتقل، الوليد بن طلال، عبر شركته “المملكة القابضة”، عندما رفع حصته في الشركة إلى 5 % من أسهمها، أي 35 مليون سهم، بقيمةٍ تسويقية تبلُغ 1 مليار دولار، وحدث ذلك في صفقةٍ كبرى في عام 2015.
هذه ليست سيطرة سُعُودية تُجارية، -لأن الشركة تحقق خسائر في قيمتها التسويقية وأرباحها يومًا بعد يوم حينما سجّل خسائر بقيمة 167 مليون دولار خلال الربع الأخير من عام 2016-، فالامتلاك يُفضِي بالضرورة إلى التحكُم في سياسات الإدارة، وهذا ما ترغب فيه المملكة في ظل وجود محمد بن سلمان وهو التحكُم في المحتوى الإعلامي.
وقد أثارت مجلة “نيوز ويك” الأمريكية،في تقريرٍ تُرجِم إلى العربية من قِبل هاڤ بوست، ملف هذه السيطرة، وألقت الضوء على كتائب بن سلمان الإلكترونية، التي تُتهَم بإخفاء مُفاجِئ لهاشتاغات نشِطة دشنها معارضون سُعُوديون على تويتر لمواجهة النظام، مثل وسم “#اوقفوا_عبث_ال_الشيخ_بمال_الشعب”، الذي دشّنه المعارض السعودي المُقيِم في كندا عبر لُجوءٍ سياسيّ، عمر عبدالعزيز، وقد أُدرِجَت السعودية منذ فترةٍ طويلة ضمن مجموعةٍ من الدول التي تستخدم المُخترقين والهجمات الإلكترونية لقمع المعارضة.
وتستخدم بلدانٌ كروسيا، والصين، وإيران، وكوريا الشمالية أساليبًا مشابهة. ويفتح هذا الباب حول تسخير السعودية لتويتر وإدارتها في خدمة مصالح المملكة السياسية.
تحليل
يأتي مما سبق أنه وبالتالي ليس هُناك أي استبعاد للهبّة التويترية الحادثة حول وسم ماذا يحدث الآن في إيران، أو انتفاضة الشعب الإيراني تُغذَى من قِبل السُعودية، آخذين أن المملكة حتى الآن لم تُدلِي بأي تصريحات حول الاحتجاجات والمظاهرات في إيران، وفي ظل الصراع القائم لن تترك السُعودية هذه الفُرصة لئن تمُر دون استغلالها، وستترك انطباعها فهذه حربٌ باردة قائمة بين بلدين، لن يُستبعَد فيها أي شيء، ولكن السُعودية لا تُريِد فتح جبهةً كلاميةً جديدة ستجُرّ عليها صُداعًا تُضيفه إلى سِجل الأسقام، وبالتالي سيكون التدعيم بصُورةٍ غير مباشرة.
النظام الإيراني في الصُورة القائمة في وضعٍ لا يُحسَد عليه، وسيكون لِزامًا عليه أن يُوجِد حلًا لهذه الاحتجاجات والمسيرات الكُبّار التي تجوب أنحاء البلاد، حتى الآن تتفوق إيران لخبرتها السياسية الخارجية وتستطيع أن تدفع البيانات الدبلوماسية الصادرة من الدول المُؤيدة للاحتجاجات برُدودٍ قوية، لكن هذا لا يضمن استمرارية النجاح على نفس الدرب إن اتسعت بُقعة المظاهرات، وتناسلت رُدود الأفعال الدولية من كُل حدبٍ وصوب، فسيُصبِح التدخُل الجبري في شؤون إيران الداخلية أمرًا مُسلَّمًا به، لا سيما عند خُصُومها الذين يتحينون مقل هذه الفُرصة لتأجيج الأوضاع والإطاحة بالنظام الإيراني القائم.
لإيران تاريخٌ طويل من المفاوز والدُفُوع الدبلوماسية القوية في ردّها تجاه سياساتها الخارجية أو حتى الداخلية حتى وهي خاطئة، ولكن عندما تتبدى ظِلال حوادث عِظام في تاريخ الدول وشؤونها الداخلية، فهي تُخضَع للبأس الدبلوماسي الذي لا يرحم أحد في عالم القرن الواحد والعشرين.