بين عشيةٍ وضُحاها، وما بين رمشة عين وانتباهها، استيقظ العالم، والنظام الإيراني نفسهُ، يوم الجمعة الماضي، على مظاهراتٍ واحجتاجاتٍ من قِبل أبناء شعبه تضرب بقوة أطناب البلاد من غربها حيث مدينة كرمانشاه، مرورًا بكُبريات مُدنها وقلاعها الدينية والسُلطوية حيث قُم، ومشهد إلى قلب عاصمتها طهران، وحتى شمالها حيث مُدن ساري ورشت، إلى غربها حيث مدينة همدان.
بالإضافة إلى مُدن شيراز، وخرم أباد، التي تقطنها الأغلبية الكردية. وأيضًا مدن زاهدان، وقائمشهر، وقزوين. إنها واحدةٍ من كُبريات احتجاجات المواطنين الإيرانيين منذ ثمان سنوات، حيث المظاهرات الكُبرى التي قامت أثناء الانتخابات الرئاسية، وشُروع أحمدي نجاد في تولي رئاسة البلاد لفترةٍ ثانية، عام 2009.
وردّد المتظاهرون شعارات: “المعتقل السياسي يجب إطلاقه”،و”الشعب أصبح متسولًا”، و”أخطأ بالثورة وأسقطنا النظام الملكي”، و”استغللتم الدين سُلمًا وأذللتم الشعب”، و”يا شرطي اعتقل السارقين وليس المتظاهرين”.
يذكر تقرير جريدة الجارديان البريطانية، أنه من النادر أن تُقاَم مظاهراتٌ أو احتجاجاتٌ سياسيةٌ بحتة في الجمهورية ذات النظام الإسلامي، لأن مظاهرات الحركة الخضراء والتي سببّت بونًا شاسعًا من التصدُع في العلاقة بين الجماهير من جهة، والنظام والدولة من جِهةٍ أُخرى، عام 2009 كما أسلفنا ذِكرًا، وأحدثت هذه الموجة الاحتجاجية اضطراباتٍ كُبرى استمرت لمدة ثمانية أشهُر إذ كان الإيرانيون يئنون من وطأة فساد الانتخابات والتضييق الاقتصادي جرّاء العُقٌوبات الدولية الذي اعتصرهم؛ وكان من أعظم تجليات هذه الحركة ظُهُورفكرة القومية الإيرانية.
فلم يكُن لها إلا قوات الحرس الثوري، والباسيچ الذين اندفعوا إلى الشوارع وقمعوا الاحتجاجات بقُوةٍ، وقضوا عليها قضاءً أردى بها إلى هُوةٍ سحيقة، فارتفعت أسهمهم في البلاد. وهذا ما تواتر علي تأكيده أيضًا تقرير المونيتور.
لماذا ثاروا؟
إنه من الجدير بالاهتمام لأي امرئً معرفة العِلل المُفضِية إلى اندلاع هذه الاحتجاجات، وقيام هذه الهبّة في نواحي الجمورية، والتي يقُم نظامها وسُلطتها التنفيذية ومن ورائها الدينية في معمعةٍ من الجبهات المُشرَّعةِ على أبوابها في اليمن، والعراق، ولُبنان، وسُورية، وحربٌ باردة تستعِر مع المملكة العربية السُعُودية في المنطقة. وعلاقاتٌ متذبذبة مع الولايات المتحدة الأمريكية والغرب تشِّي بالرجوع إلى المربع صفر، لما قبل الاتفاق النووي 2015.
أولًا، تُعانِي الجمهورية من اقتصادٍ خانق أفضى بالتبعية ضًغُوطًا متزايدةً على كاهل المواطنين، فبلغت نسبة البطالة في البلاد كما يُشيِر تقرير مركز الإحصاء الإيراني، حسب العام المالي 2016-2017، تُقدّر بــ 12.4 %، لتُحقِّق نسبة ارتفاع عن العام المالي الذي يسبقه 1.4 % كاملةً، والعاطلون بلغت أعدادهم ما يربو على 3 ملايين نسمة. عموما، وتضخُم مالي، وأسعار تأخُذ وتيرة الارتفاع الدائم بأوامر النظام لسد النزيف الدائم في الموازنة، حيث ارتفعت أسعار البيض بنسبةٍ تصل من 30-40 %، مع زياداتٍ في الخبز تصل إلى 15 % ومن المتوقع أن تصل إلى 32 %.
وقد ذكرت مجلة فوربس نقلًا عن موقع حبرستان الإيراني، الذي أظهر أن أسعار السلع المختلفة ارتفعت بشكلٍ ملحوظ، في حين أن الزيادات السنوية في الرواتب تساوي قيمة بضعة كيلوجرامات من الفواكه. في حين أن برلمانها قد خصَّص 600 مليون دولار لبرنامج الصواريخ الباليستية وقُوة القدس التي تعمل احت إمرة، قاسم سُليماني، والتي تُمثِّل أحد أذرُع النظام الحرس الثوري.
ثانيًا، الإيرانيون بدوا يضجرون ويملّون من عدم التدخُل التنفيذي الحكومي، لانتشال البلاد من نِتاج بوتقة الزلازل التي تضرب البلاد يُمنةً ويسرة، منذ عدة أيام زلزالٌ جديد ضرب جنوب شرق إيران بقوة 5.1 على مقياس ريختر، دون الإعلان عن وُقُوع إصابات.
تتعرض البلاد، بحسب هيئة رصد الزلازل الإيرانية، لأكثر من 45 هزة ارتدادية، بمتوسط قوة 4 درجات على مقياس ريختر منذ زلزال 12 نوفمبر الماضي فقــط، والذي ضرب المنطقة الحدودية بين إيران والعراق، بقوة 7.3 درجات، ما أسفر عن مصرع أكثر من 600 شخص وإصابة الآلاف. والدولة لا تتدخل بقُوة لتفادي آثار الزلازل عبر الرصد الچيولوچي، أو حتى عقب الحُدُوث بتخفيف حجم الأضرار المُخلَّفة عنه.
ثالثًا، نقل موقع إرم نيوز تقريرًا عن موقع إذاعة “راديو الغد” التابع للمعارضة الإيرانية، يُشيِر إلى الميزانية الجديدة، الذي تم الإعلان عنها منذ شهرٍ، والتي تضمنت تفاصيلًا لم يُعلَن عنها من قبل، تتعلق بمقدار الأموال التي تذهب إلى المؤسسات الدينية غير الخاضعة للمُساءلة، ومراكز البحوث، وغيرها من المؤسسات المقرَّبة من السلطة.
وفي حين أن الحكومة ستُخفِّض بشكلٍ كبير الإنفاق على مشاريع البنية التحتية، والدعم النقدي للمحتاجين، فإن المخصصات للحوزات الدينية، والكيانات المماثلة ستزداد بأرقامٍ مزدوجة. على سبيل المثال لا الحصر، تُخصِّص إيران ما قيمته 110 ملايين دولار للمجلس الأعلى للندوات الدينية، أظهرت ميزانيتها زيادة عن العام المالي الماضي بما هو نسبته 16 %، وخُصِّصت 23 مليون دولار كاملةً لمُمثِّل المرشد الأعلى في الحرس الثوري. هذا الاقتصاردالمُوارَى والأموال الطائلة التي تذهب في قناته، كان سببًا هامًا في تأجُج مشاعر الغضب لدى الإيرانيين الذين يعانون من أزماتٍ خانقة تُلقِي بآثارٍ اجتماعية ظاهرة داخل المجتمع الإيراني.
جنحوا للمنطقة المُستعِرّة
لكن كان هُناك شيءٌ سارت به الاحتجاجات وتطرقت إليه وأخذت إليه مُنعرجًا خطيرًا، وهي “حلبة سياسة النظام الإيراني الخارجية”، المنطقة المُلتهِبة وكُرة النار، التي لا يُريِد النظام بإصلاحيّيه ومحافظيه واعتداليّيه أن يتلقفها المواطنون، لأنهم إذا هموا بها سيدفعون ثمنًا باهظًا مثلهم كمُتظاهري 2009، صِنوان لا يختلفان.
فقد أظهرت العديد من المقاطع الوسائطية المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي، أن المتظاهرين طفقوا على هتاف “اتركوا سُورية، وانتبهوا لنا”، أو “التفتوا إلينا”. وهتفوا أيضًا قائلين: “لا غزة ولا لبنان، أُضحِّي بحياتي من أجل إيران”، وفق ما ذكرته وكالة مهر للأنباء.
بل طُوِّرت الهتافات والنداءات في الاحتجاجات إلى مُهاجمة النظام، ومن ثَمَّ المطالبة بتنحي النظام عن مسؤولياته، إنهـــا إرهاصـات ثورة إذًا، وهاجموا علي خامنئي، المرشد الأعلى للثورة الإيرانية وطالبوه بالتنحي عن منصبه ومهامه.
نُشِر تقرير لموقع BuzzFeed News ترجمه موقع عربي 21، تناول تتالي المظاهرات في إيران ليومين متعاقبين، مُشيرًا أن المنحنيات التي اتخذتها الاحتجاجات من النداء ضد الفساد، والأوضاع الاقتصادية المتردية، وارتفاع الأسعار إلى مهاجمة سياسة النظام الخارجية، إلى المطالبة بتنحي مرشد الثورة الإيرانية إلى صداماتٍ عنيفة مع الشُرطة.
From Isfahan: "Seyed Ali (Khamenei), excuse us. Now we have to stand up." pic.twitter.com/jz151bVBVX
— Borzou Daragahi ?? (@borzou) December 29, 2017
على إثرها تُناوَل من قِبل لقطاتٍ مُصوَّرة على منصات التواصل الاجتماعي، من مدينة دورود الواقعة في إقليم نورستان غرب إيران، شابين مُمدَّدين على الأرض بلا حِراك والدماء تغطيهما، مصحوبًا -مقطع الڤيديو- بصوتٍ يُعلِّق أن هذين مُتظاهرين اثنين قُتِلا ولقيا حتفهما على يد رصاص الشرطة الإيرانية،وهو ما تحققت منه BBC فارسي . وردّد متظاهرون حينها هتاف “الموت للديكتاتور”، في إشارةٍ إلى علي خامنئي.
هذه الغضبة تتوازى مع ما قد نقله موقع فوربس في تقريره نقلًا عن تقارير أجنبية، حجم المُقدّرات المالية المُخصَّصة لأذرع إيران في دُول الجوار والتي تبلُغ 30 مليار دولار تُدعم بها الحوثيين في اليمن، والمليشيات المقاتلة تحت لوائها في سُورية، والشيعة في العراق، وحزب الله اللُبناني الذي تُسهِم إيران بنسبة 70-90 % من ميزانيته المقدرة ب 800 مليون- 1 مليار دولار.
ذكرت ورقة لمركز الجزيرة للدراسات، عقيدة إيران العسكرية في سياستها الخارجية، إذ تنظُر إيران إلى التكلُفة البشرية والاقتصادية الباهظة لوجودها العسكري الخارجي؛ بوصفه خيارًا لا بُدَّ منه لضمان أمنها القومي؛ ففي التاسع والعشرين من ديسمبر/كانون الأول لعام 2014، قال علي شمخاني، الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، أثناء مراسم تشييع الجنرال، حميد تقوي، القائد في الحرس الثوري: “لقد ضحى تقوي بدمائهِ حتى لا نُقدِّم دماءنا في طهران، إذا لم يقدم (التقويون) دمهم في سامراء، يتعين علينا أن نقدم دمائنا في سيستان، وأذربيجان، وشيراز، وأصفهان”.
تقرير Buzz News Feed أبدى تعجبه من المشهد المثير والنادر لخُرُوج كُل هذه الجُمُوع الغاضبة تجاه سياسات الحكومة، لاسيمــا أن حُضُور العنصر الشبابي كان طاغيًا، الذي كانت أعماره في عقدي العشرينيات والثلاثينيات، كما كانت الهتافات شبيهة قرينتها عام 2009، إن لم تكُن هي، وأظهر التقرير الأسباب الخفية وراء الاجتجاجات مستندًا إلى ما نقله عن المحلل الإيراني المستقل والصحفي المقيم في نيويورك، أميد معماريان، قوله إن: “الإحباط والغضب اللذين غذيا اضطرابات سنة 2009، لا يزالان على قيد الحياة في صُلب المجتمع الإيراني، في حين أن أعمال القمع لم تُسهِم في التخلص من هذه المشاعر”. مُضيِفًا أن الحكومة لم تعالج الجُذُور الحقيقية لهذا الغضب، واليأس، المستشريان بين أفراد الشعب الإيراني. الماثلة في عدم المساواة، والعنصرية، وانعدام الحرية، والسياسات الاقتصادية السيئة.
وذيَل التقرير وتطرّق لمشأن أكثر خُطورةً وهو أن جُذُور العديد من المشاكل الاقتصادية تُعزى إلى سيطرة المتشددين الفاسدين وغير المؤهلين على كل ركائز الاقتصاد الإيراني، على غرار صناعة السياحة، والاستيراد، وقطاع الطاقة الضخم. وقد عجز روحاني عن مقاومة الفساد، أو إجراء تحويرات على الوضع الاقتصادي دون اتخاذ مواقف تتماشى مع مواقف المتشددين من التيار المحافظ”. وهذه كُلُهُا أسباب نستطيع وضعها في خانة لماذا احتج الإيرانيون.
يد النظام على غِمد السيف
دخل النظام على جهاتٍ وجبهاتٍ متعددة، في محاولةٍ لدفع الموجة الاحتجاجية المُفاجِئة التي انطلقت ضده.
رأس السُلطة التنفيذية، ورئيس الجمهورية المُنتخَب حديثًا، حسن روحاني، حسن روحاني علّق على الاحتجاجات في بلاده ضد الفساد، والفقر، والتدخل في سوريا، دعا إلى اليقظة تجاه ما وصفها بـ”محاولات الأعداء الرامية إلى إثارة اليأس والخلافات” بين الإيرانيين من قِبل أعداء الثورة الإسلامية، وتبديد رصيد الثورة لديهم. وذلك حسبما أكدت وكالة الأنباء الإيرانية الرسمية.
وحذرت وزارة الداخلية ممثلةً في وزيرها، عبد الرضا رحماني فضلي، من التجمعات والحُشُود الشعبية غير القانونية، وإذا رغبت أية مجموعات في التجمع فيجب أن تتقدم بطلبٍ للحُصُول على تصريح أولًا، قبل التجمع. وأن دعوات التجمع القائمة على الإنترنت، ووسائل التواصل الاجتماعي، ستكون “غير قانونية” إذا لم تحصل على تصريح.
كما دعا رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية، اللواء محمد باقري، إلى الوحدة في الحقبة الحالية المحفوفة بالفتن المعقدة. وقال صراحةً وبصورة لا تحمل أي شيء من المواربة إن: “القوات المسلحة الإيرانية لن تسمح في أن يتحقق حلم دول الاستكبار المشؤوم والشرير، لإضعاف نظام الثورة في إيران والإطاحة به”.
ودخل على الخط أيضًا الحرس الثوري الإيراني، الذي أصدر بيانًا، بمناسبة ذكرى “ملحمة 9 دي” ،(30 كانون الأول/ ديسمبر 2009)، مُبيِّنًا فيه إن إعادة قراءة الدروس والعبر لهذا الحدث الهام والمؤثر، يُعد أحد المتطلبات الضرورية في مسيرة تكامل الثورة وتقدم الشعب الإيراني، مُشيرًا فيه إلى استراتيچيات “الثالوث الخبيث” الولايات المتحدة الأمريكية، الكيان الصهيوني، وبريطانيا على حد قولهِ. وأشار الحرس الثوري إلى سيناريو “ملحمة 9 دي”، معتبرا أنه “كان ردًا حازمًا وتاريخيًا وثوريًا على مثيري الفتنة وداعميهم في المنطقة وخارجها. إنه يُلوِّح به مرةً أُخرى مُشهِرًا إياه مجددًا، وعلى استعدادٍ تام لتنفيذه.
جدّد الحرس الثوري حديثه، السبت الماضي، عبر مسؤول العلاقات العامة خاصته، رمضان شريف، حسبما نقلت عنه وكالة الأنباء الإيرانية الرسمية “إرنا”، أن من يقف وراء الاحتجاجات في البلاد هم “أعداء يريدون قلب نظام الحكم في إيران”. أن هُناك سعيًا منهم لقلب نظام الجمهورية الإسلامية، مُصرحًا أن الثورة الإسلامية تُشكِّل نموذجًا تستلهم منه جميع شعوب العالم، وهذا ما يُفشِل مخططاتهم، ومن هنا فقد وضعوا قلب نظام الجمهورية الإسلامية نصب أعينهم. وأنهم سعوا إلى دق إسفين بين النظام السياسي والحكومة والشعب الإيراني.
كما حضّ وزير الاتصالات الإيراني، تطبيق إرسال الرسائل النصية في الهواتف المحمولة “تلجرام”-التي تطالب بخروج مزيد من الاحتجاجات- بالتوقف عن تشجيع العنف. كما نقل تقرير وكالة BBC. في رسالةٍ مُضمَّرة تحمل ما يُشبه التهديد بقطع الخدمة إذا ما رجت الأُمور عن حجمها القائم.
حتى الملاليّ من رجال الدين كان لهم رأيًا عنيفًا صدد هذه الاحتجاجات، فقد أشار تقرير الجارديان، أن رجل الدين المحافظ البارز، وممثل خامنئي في مدينة مشهد، آية الله أحمد علم الهدى، طالب باتخاذ إجراءاتٍ صارمة ضد الاحتجاجات، قائلًا: “إذا أطلقت قوات الأمن وكالات إنفاذ القانون العنان للمتظاهرين، سوف ينشر الأعداء أفلامًا وصورًا في وسائل إعلامهم، ويقولون أن نظام حكم الجمهورية الإسلامية قد فقد قاعدته الثورية في مدينة مشهد”، وأضاف إن بعض الأشخاص قد استغلوا الاحتجاجات، التي انطلقت منذ يوم الخميس، منددةً بارتفاع الأسعار، لترديد شعارات ضد دور إيران في الصراعات الإقليمية.
هذا دفع النظام لئن ردّ بالمثل، عبر التعبئة الجماهيرية، والحشد البشري والتجييش، والتي يبرُع بها، فخرج في مدن إيرانية عدة، عشرات آلاف الإيرانيين المؤيدين للحكومة في مسيراتٍ ضخمة حاملين لافتاتٍ دُوِّن عليها “الموت للعصاة”، والتي تأتي بالتزامُن مع ذكرى إنهاء أو ما نستطيع أن نقول قمع أكبر حركة احتجاج وقعت في إيران عام 2009.
سلاحٌ آخر جُنِّد في هذه المناوشات بين النظام والجماهير، وهو الجهاز الإعلامي الرسمي العرمرم للجمهورية، الذي عكف على تغطية المظاهرات بصورةٍ مُبالَغ فيها، وبحفاوةٍ ظاهرة، فذكرت إن المسيرات خرجت لإحياء الذكرى الثامنة لـ”يوم البصيرة وتجديد البيعة مع الولاية” في جميع محافظات ومدن البلاد، ووصفتها بأنها مشاركةٌ واعية وحاشدة للشعب الإيراني الفهيم والبصير.
وقام التلفزيون الرسمي بالتذكير بحديث المرشد الأعلى للثورة، علي خامنئي، بالإشارة إلى أن يوم البصيرة جاء للدفاع عن القيم، والدين، وإحباط الفتنة، التي افتعلها أعداء الثورة، وفق قوله.
وسلّطت قناة “العالم” الإيرانية الضوء على تغطية قناة “العربية” السُعودية للاحتجاجات الإيرانية، وقامت بمهاجمتها بشدة وحِدة، ذاكرةً أن قناة العربية “تحترق”، وإنها تابعةٌ لدولةٍ رجعيةٍ في المنطقة. وأظهرت قناة العالم الاحتجاجات بصُورة اقتصارها على مطالب اقتصادية، دون التطرُق إلى القضايا السياسية التي نادى بها المتظاهرون. وذكرت القناة أيضًا أن تغطية العربية نابعة من فشل الدولة التابعة لها، ألا وهي المملكة، وأنها بهذه التغطية الإعلامية تحاول التغطية على فشل المملكة الخارجي في اليمن وسُورية والعراق.
المتلقِفون
كثيرون هُم من كانوا ينتظرون أي انفجارًا للوضع الإيراني مهما كان ضآلته، ولاسيمــا إن كان واقعًا داخله، فتلقف خُصُوم إيران من المُتلهِفين لهذه اللحظة. فما إن بدأت بُقعة الزيت في الحُدُوث يوم الخميس الماضي، ثم ما لبثت أن انساحت وتمددت في أماكن متعددة وضربت في مشهد وقُم وطهران قلاع السياسة والدين في الجمهورية، خاصـةً أننا سنجد أن الاحتجاجات بدأت منذ الأمس في أن تأخُذ منحىً عنيفًا، إذ قام متظاهرون بالهجوم على بناياتٍ حكومية، وردّت داخلية النظام بعمليات عُنف واعتقالاتٍ موسَّعة في صُفوف المتظاهرين.
الولايات المتحدة الأمريكية لم تكُن لتجد فرصةً أسنح لها من هذه، فقالت وزارة الخارجية الأمريكية أنها “تُدين بشدة” الاعتقالات، وذكرت أن الولايات المتحدة الأمريكية حثت “جميع الدول على الدعم العلني للشعب الإيراني، ودعم مطالبه المنادية بالحقوق الأساسية، ووضع حدِّ للفساد”. حتى أن المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية، هيذر نويرت، وصفت إيران بأنها “دولةٌ مارقة، مستنزَفة اقتصاديًا، تقوم صادراتها الرئيسية على العنف، وسفك الدماء، والفوضى”، ووزير الخرجية الأكريكية نفسه، ريكس تيلرسون، وضَح أن هُناك شُخُوصًا وعناصر يريدون انتقالًا تداوليًا سلميًا للسُلطة في إيران.
بل سمحت الولايات المتحدة الأمريكية لمستخدمي الإنترنت في إيران، بالوصول للشبكة بطريقةٍ تتجاوز الحجب المفروض من قِبل الحكومة.
وترامب المناوِئ الشرس لإيران، وللاتفاق النووي، والذي يحمل كثيرًا من الحنق والكراهية لها، غرّد عبر حسابه على موقع تويتر، حاثًّا النظام الإيراني على احترام حقوق شعبه، بما فيه حقهم في التعبير عن آرائهم، هذا الشعب الذي ضج من فساد نظامه، وتبديد حكومته ثروات البلاد في تمويل الإرهاب الخارجي.
Many reports of peaceful protests by Iranian citizens fed up with regime’s corruption & its squandering of the nation’s wealth to fund terrorism abroad. Iranian govt should respect their people’s rights, including right to express themselves. The world is watching! #IranProtests
— Donald J. Trump (@realDonaldTrump) December 30, 2017
كذلك وزير الدولة للشؤون الخارجية الإماراتية، أنور قرقاش، في تغريدةٍ له هو الآخر على حسابه على موقع تويتر، إن احتجاجات إيران فرصةً لنظامها للمراجعة وتغليب مصلحة داخلها على “مغامرات طهران العربية”، كما صرّح في تغريدته.
الإحتجاجات في مشهد ومدن إيرانية أخرى فرصة للمراجعة العاقلة وتغليب مصلحة الداخل على مغامرات طهران العربية، مصلحة المنطقة وإيران في البناء الداخلي والتنمية لا إستعداء العالم العربي.
— د. أنور قرقاش (@AnwarGargash) December 28, 2017
المعارضة الإيرانية هي الأُخرى، أتت فرصتها السانحة في مثل هذه الاحتجاجات، لاسيما أن التظاهُرات قد تناولت مساوئ الحكم الديني الثيوقراطي والتنديد به، إذ قالت زعيمة المعارضة الإيرانية، مريم رجوي، في تغريدةٍ لها على حسابها على منصّة تويتر، “التحية للمواطنين الأبطال في كرمانشاه، الذين انتفضوا بشعار إمّا الموت أو الحرية، والموت لروحاني، والموت للديكتاتور، ويحتجون ضد الغلاء والفقر والفساد”.
وهُناك طرفٌ آخر لم يُوضَع في الحُسبان، أو سيناريو جديد لم يُشاَر إليه، ولكن إسحاق جهانغيري، نائب روحاني وحليفه الصدوق، لم يستبعده، وهو ما نقلته وكالة أنباء IRNA عنه، وتواتر عليه تقريرى The Guardian، وBuzz News Feed، وهو أن المتشددين من المحافظين هم من يقفون وراء هذه الاحتجاجات، بهدف إثارة البلبلة حول الرئيس روحاني، وتقويض سلطته ، مُصرِّحًا أنه من الممكن أن تُشعِل المظاهرات والاحتجاجات السياسية في الشوارع، لكنك لا تستطيع بالضرورة إخماد الحرائق المترتبة عليها، وأشار إلى أن هُناك من سيستغلون الأمر لصالحهم، واصفًا إياهم بالذين يصطادون في الماء العكِر، لذلك على هؤلاء أن يعلموا أن الأمر سيعود عليهم بالوبال.
ففي هذا الخضم الهائج، يُنظَر إلى هذه الاحتجاجات أنها إحدى المعارك الجانبية بين المحافظين والإصلاحيين، ويُريدُ روحاني الخُرُوج من هذه المعركة بأكبر كم من المكاسب يستطيع به أن يُسقِط ألف عُصفُور بحچرٍ واحد، ويريد المحافظون استغلال الفُرصة لتحقيق نفس النتائج التي حقّقوها في فترة الولاية الثانية لأحمدي نجاد، ولكن هذه المرة على حساب واحدٍ من أشد مناوئيهم ألا وهو، رأس الإصلاحيين، حسن روحاني.
نظرةٌ تحليلية
سيُنظَر إلى الأوضاع القائمة في الجُمهورية الإيرانية بعين الرصد الثاقبة للنظر في مآب ومآل هذه الاحتجاجات التي تتعاظم بصورةٍ دورية لاسيما بعدما سقط على إثرها دماء ستجعل هُناك صورة جماهيرية تتسم بديمومة الظُهُور في الشوارع والميادين لتصعيد المطالب التي بدأت بالشكوى من المظالم الاقتصادية والاجتماعية، وارتفاع الأسعار، ومعدلات البطالة التي تتزايد، والفسادُ الضاربُ بسطوتهِ في قلب الجمهورية مُستشريًّا في جسد النظام التنفيذي والديني، والأموال المُستنزَفة في صراعات إيران الإقليمية في اليمن، وسُورية، ولُبنان، والعراق، وضد المملكة العربية السعودية، لتجد أن المطالب تأخُذسُلم الصعود إلى مُناطحة النظام السياسي، والقرع اللفظي الشديد على أبواب النظام الديني للجمهورية، حتى الوُصُول إلى رأس الإرشاد، علي خامنئي ذاته، والمُطالبة برحيل القائمين على سُدة البلاد مُحافظين وإصلاحيين.
وهذا ما يُثيِرُ السؤال القائم حول هل ما يحدث في إيران ثورةٌ حقيقيةٌ أم احتجاج يحذو نموذج الحركة الخضراء في عام 2009 ولكن بصُورةٍ مُكبَّرة قليلًا؟
لا يُمكِن إنكار أن التعاظُم الجماهيري عقب ثلاثة أيام من الاحتجاجات، وطور العُنف الأمني الذي يُقابِله عُنُف شعبي، والتواتر جهات النظام التنفيذية على الإدلاء بتصريحاتٍ مستمرة، وسُقُوط دماء، إنها إذًا مظاهر تُوحِي بإرهاصات ثورةٍ شعبية، ولكن سنأخُذ الكثير من الأُمور في الحُسبان لكي تُوضَع الأُمور في نِصابها الصحيح.
قُوة الجهاز الأمني الداخلي الذي أسَّسه مُرشدي الثورة الإيرانية، الخُميني وخامنئي، وصبوا فيه خِيار وزهرة المنتمين أيديولوچيًا وفكريًا للعقيدة الثورية الشيعية والجمهورية الناشئة، وزودهم باقتصادٍ متين، وعتادٍ وأسلحةٍ متطورة، فقد جهزوهم لمثل هذا اليــوم، وهو ما نجحوا فيه نجاحًا باهرًا عام 2009، عندما قمعوا الحركة الخضراء بلا رحمة، ووضعوا رأسها مير موسوي قيد الإقامة الجبرية منذ عام 2011 وحتى الآن. وعلى استعدادٍ لتكراره كي لا تتعرض إمبراطوريتهم السُلطوية الاقتصادية والاجتماعية التي شيدوها منذ عام 1979 للتصدُع. مصحوبين بقُوة الباسيچ التي مثّلت هي الأُخرى يدًا هامة للحرس في ضبط الأُمور، وتحقيق الاستقرار على الأرض.
لا بُد أن ينظر النظام الإيراني -إذا كان يريد استكمال مسيرته- إلى هذه الاحتجاجات بعين الدراسة والاهتمام الشديدين كي لا يُؤتى من قبلهِ، كما حدث للعديد من الأنظمة في المنطقة العربية، وأن يُصارِح نفسه وألا يُلقِي باللائمة على دولٍ معاديةٍ أو أنظمةٍ أجنبية مُعاديةٍ لنظام الثورة الإيراني، كما حاولت عدة وكالات أنباء إيرانية بالفعل أن تؤكد تورُط توم كوتون، عضو مجلس الشيوخ الأمريكي، المعروف باستهدافه المستمر لإيران، وذلك عقب نشره لتغريدةٍ داعمةٍ للمتظاهرين.
وأن تهتم بتفحُص أسباب هذه الصدمة المُفاجِئة من الحالة الاقتصادية والاجتماعية المُزدراة التي يحياها الشعب الإيراني، وهذا ليس من قِلة موارد أو نقص أموال، فرغم حجم الأضرار جرّاء العقوبات التي لحقت به وأصابت بُنيته الهيكلية بتدميرٍ واسع وجعلت هُناك قُرابة 50 مليون إيراني تحت خط الفقـر ، ولكنه اقتصاد يستطيع أن يُحيِي شعبًا بحجم الشعب الإيراني بصُورةٍ كريمة، ولكن اندفاع إيران الجامح وراء توسيع نُفُوذها ورغبتها في الاتساع الإقليمي جُغرافيًا وسياسيًا جعلها تُنفِق الكثير من الأموال الطائلة والنفقات الهائلة على صراعاتٍ إقليمية قد تكون حققت فيها النجاح بالفعل، ولكن على حساب الداخل الإيراني الذي بدا في صُورتهِ الأخيرة تلك مُتهتكًا.
نستطيع أن نُجزِم أن الذين يصيرون حبيسي صُورةٍ معينةٍ ومن خلالها يظلون يُنظِّرون في صُورةٍ شبه دائمة بأُطرٍ وسياقاتٍ محدَّدة، فإنهم سيتلقون نتائج عكسية وخسارةً فادحة على هذا الاستقراء الخاطئ، وهذا ما نراه في الوضع الإيراني القائم، فالنظام إن كان يرى أن الجولة ستؤول في النهايةِ له تعويلًا وتعريجًا على النجاح المُحقَّق في القضاء على مظاهرات الحركة الخضراء 2009، وأصبح حبيس هذه المعادلة، فهو بالشك خاطئ لأن التغيُر الذي يطرأ كُل ثانيةٍ في علم الاحتجاجات والثورات يستطيع أن يقلب الصُورة رأسًا على عقب.
فماذا سيحدُث إن تجنب متظاهرو اليوم، أخطاء إخوانهم عام 2009، وامتلكوا القُوة اللازمة -لاسيما قُوة السلاح- لمناهضة النظام، كي يُفرِضوا معادلتهم على معادلة النظام؟. هنا ستُصبِح الأُمور مُغايرة بالكُلية.
سيُصبِح على الباحثين والمُحلِّلين رصد الاحتجاجات الإيرانية بصُورةٍ دورية لتحديد إلى أين ستصل الأُمُور في الجمهورية الإيرانية، وهل ستُصبِح ثورةً حقيقيةً تُطيِح بنظام الملاليّ أم حركة احتجاجية تُلاقِي مصير أختها عام 2009؟.