السينما الإيرانية يُنظر إليها نظرات مُريبة. ربما تكمن هذه النظرات أو تتمحور بسبب دور الرقابة وما تفرضه من قيود، ولكن بالرغم من ذلك فلقد ظلت – وإلى الآن- السينما الإيرانية تُلفت الأنظار، يُشار لها، يُقال ويُدلل على أنّها تمتلك العديد من الإمكانيات الفذة، المُخرجون يحصدون الجوائز، يكنسونها من المهرجانات الدولية كنسًا من أمثلة عباس كيارستمي – الذي فضّل أن يظل كما هو في مكانه داخل إيران مُتحديًا الرقابة، مُلتفًا حولها -، جعفر بناهي مخرج آخر، وأصغر فرهادي الذي استطاع بعد صبر وجهد أن ينل في نهاية المطاف أرفع الجوائز السينمائية والتي تُعتبر دمغة وختم على جودة العمل، جائزة أوسكار عن فيلم البائع “The Salesman”.
الأجيال تُسلم أجيال، وبخاصة إذا كان الجيل الجديد مُتسلحًا بمعرفةِ أكبر، وعاصر التطاحنات السياسية المحلية بل والدولية كذلك في ظل العولمة التي ربطت الشرق بالغرب، وأصبح العالم مُجرد قرية كونية، بكبسةِ زر تنتقل إلى كافة الأنحاء وتُرى ما لم تراه قبلاً. من هؤلاء المُخضرمين في السينما، والتي حملت مشعل التميز لتطوف به بين البلدان، الفتاة التي تملك روح التمرد والثورة قبل – أصلاً – انفتاح وعييها على هذه المفاهيم، الفتاة التي صارت على مشارف الخمسين مرجان ساترابي.
” لستُ سياسية. لا أعرف كيفية حل مشاكل العالم. ولكنني كفنانة، لديّ واجب واحد : طرح الأسئلة”.
بهذه العقيدة التي تتكأ عليها في الحياة كوسيلة لمجابهة ما يُحيط بها من ألغاز تحتاج إلى التفتيت لتفهم العالم، الكون، الطبيعة، وقبل كُل شيء تفهم نفسها. بهذه الروح وُلِدت ساترابي في 22 نوفمبر عام 1969 في رشت بإيران. في الصغر، ارتحلت مع العائلة لتُكمل باقي حياتها – والبذور الأولى في التكوينات التي ستُرسخ فيها- داخل طهران. عائلة إيرانية متوسطة ولكن يبدو أنّها ثورية. الوالدة هي حفيدة ناصر شاه الدين، شاه فارس – في الفترة من 1848 إلى 1896 –. الوالد وكذلك الأم من النُشطاء السياسيين، كانا مُؤيدان وبشدة للقضايا الماركيسية ضد النظام الملكي للشاة الأخير (مرجان تصف والديها بأنّهما من “يساريّ الكافيار”).
الطفلة الصغيرة مرجان ساترابي تنشأ في جو سياسي مُلبد بالغيوم، الأهل من ناحية ثم فجأة تقع الثورة الإيرانية عام 1979 م، الأهل تشعر بالجزع، تخاف السُلطة، ترهب أن تمتد لأيديهم السلاسل والأغلال. البنت الصغيرة هي الأخرى خائفة فهي ترى جزء من وحشية النظام التي وقعت على أصدقاء العائلة وكذلك على أحد أفراد العائلة أنفسهم ومن بين الذين نُكلوا تنكيلاً عمها الذي كان مسجونًا سياسيًا، ثم بعد ذلك نُفِي إلى الإتحاد السوفيتي.
الناقد الإنجليزي ستيفن سبندر يقول” ليست السياسة آلة إجتماعية، وإنّما هي مُجرد نمط يستطيع كل فرد أن يُنمى إحساسه بالحياة في حدود ”
والفتاة الصغيرة كانت كذلك، هي مُحاطة بأجواء مشحونة، البيت من ناحية، الدولة من الناحية الأخرى. عمها الذي سُجِن مرة أخرى وحُكِم عليه بالإعدام ووقتها كان مسموحًا له بفرد واحد لزيارته وكانت مرجان. كُل ذلك أثر عليها، كُل ذلك عمل على تكوين موزاييك شُعورها ووجدانها، فكان أن بعد ما حدث لعمها أن صارت تدخل في مناوشات ومشاكل مع الشرطة، تذهب لشراء الموسيقى المحظورة من قِبل النظام.
الأم خائفة عليها، الأب مُرتعب مما تفعل، حريص على مستقبلها، يُرسلونها للخارج إلى فيينا لتدرس في الليسية فرانسيس دو فيين، تقضي فترة المراهقة و التي بدأتها بإضطراب وصدمة في أوروبا بسبب ما حدث لها في بلدها. بعد الإنتهاء من الدراسة في المدرسة تعود لإيران مرة أخرى، تدخل الجامعة، تدرس التواصل البصري، تحصل على ماجستير في الفنون الجميلة من جامعة أزاد الإسلامية في طهران ثم بعدها تنتقل إلى ستراسبورج في فرنسا ومن إلى باريس، عاصمة الفن والجمال حيث تُوصف شقتها بأنها ” فسيفساء من الشرق الأوسط والثقافة الغربية”. وفي عاصمة النور تبدأ مرحلة إزدهارها.
إنّ كُل هذه الظروف التي مرت بها، وجعلتها تعيش حياة ممزقة قد حفزتها لتصنع مجدها. والشهرة الأساسية التي أكتسبتها كانت من سيرتها الذاتية المصورة والتي نشرتها على أربع أجزاء من عام 2000 إلى 2003 م تحت عنوان برسيبوليس ” Persepolis ” والتي تحولت فيم بعد إلى فيلم رسوم مُتحركة من كتابتها وإخراج فينسنت بارونود وساعدته هي كذلك في الإخراج.
حيث تحكى فيه عن حياتها تلك التي عاشتها، الطفولة الموحشة في إيران، ثم المراهقة الأكثر غُربة وقسوة في فيينا. وبنفس الفيلم تقاسمت جائزة التحكيم الخاصة في مهرجان كان عام 2007 .
تستمر في العمل مع فينسنت فتكتب وتُساعده في الإخراج في فيلم ” Chicken with plums ” . ثم بعد ذلك تنفرد بنفسها، تحاول أن تبهر الأضواء بأعمالها، فتُخرِج فيلم في إطار من الرعب الكوميدي عن شاب يبدو عليه الطيبة ولكنّه يتحول إلى قاتل متسلسل في فيلم الأصوات ” The Voices ” و الذي لم تكتبه لأول مرة، حيث تعودت على كتابة أعمالها وإنّما هذه المرة يكتبه لها مايكل آر بيري.
تقريبًا جائزة مهرجان كان، كانت فاتحة خير عليها، فلقد إختيرت كعضو في لجنة تحكيم المسابقة الرسمية لنفس المهرجان في عام 2008 م. وفي نفس العام أيضًا تحصل على جائزة غات بيريش . أما في عام 2013 يصل إلى سمعها تصفيق مدو بسبب حصولها على جائزة مهرجان نور السينمائي كأفضل مخرجة عن فيلم ” Chicken with plums “.
سُئلت مرة عن كونها تفتقد إيران أم لا؟ لتتحدث وقتها بإجابة فيها منحس دُعابة والعمق الكبير فتقول:
“إذا كُنت رجلاً، فسأقول أن إيران أمي وفرنسا زوجي”
وأنّه لا يُمكنها نسيان كُل السنوات الفائتة والتي فيها كان يُمكنها الإستيقاظ على منظر الثلوج على جِبال طهران وعلى حياتها!
مرجان ساترابي تعيش الآن في فرنسا في سعادة وهناء مع زوجها السويدي ماتياس ريبا . لا تزال تكتب السيناريو، تُحفز عضلات مُخها لتخرج أفلام الرسوم المُتحركة، على ما هي عليه من طرح الأسئلة ومحاولة الوصول إلى إجابات فتقول:
” أحببت دائمًا هذه القصة: قِيل لآدم لا تأكل التفاحة، وأول شيء فعلته حواء كان أن أكلت التفاحة. لذلك فهذا خطأ حواء. أعني، هل لآدم عقل أم لا؟ . كان يُمكنه القول ” لن أكل التفاحة”، ولكنّه خطأ حواء. لذا تستند الحضارة الإنسانية على ذلك. إنّه خطأنا.“
لا تزال مُرجان ستابراي على ما هي عليه من التمرد والثورية:
“طالما أنت على قيد الحياة، فيُمكنك الإحتجاج والصياح، ولكن الضحك هو السلاح الأكثر تخريبًا بالنسبة للجميع”.