لقد كان أحد أيام الشتاء البارد، في فبراير 2011. وكان قد مر تسعة عشر شهرًا منذ ظهور “الحركة الخضراء” أثناء الانتخابات الرئاسية المتنازع عليها في عام 2009، وكان قد تجمع قادة المنابر الإعلامية للجمهورية الإسلامية لعقد اجتماع، وقال أحد المنتجين البارزين في الاجتماع، -وهو نقيب في فيلق الحرس الثوري الإسلامي-، بصراحةٍ لزملائه: “إن جيل الشباب في بلادنا لا يفهم لغتنا الدينية بعد الآن، ونُضيع أوقاتنا مع الأشياء التي نقوم بها، وهُم لا يهتمون بذلك، وهذا هو السبب في أن الكثيرين منهم كانوا في الشوارع احتجاجًا على نظامنا”.
وقد هزت موجة الحركة الخضراء -التي تُعَد أكبر مظاهرات جماهيرية في إيران منذ ثورة 1979- صميم النخبة السياسية والعسكرية في الجمهورية الإسلامية. على مدى عقد من العمل الميداني في إيران مع منتجي النظام الثقافي (2005-2015)، ناقش قادة الحرس الثوري الإيراني باستمرار كيف يستطيعون ردم الفجوات التي أحدثتها الحركة الخضراء بين الإيرانيين من جهة، وبين الدولة والمجتمع من جهةٍ أُخرى.
تدريجيًا، لقد اختاروا القومية كقوةٍ جامعة؛ لتعريف الجمهورية الإسلامية مجددًا، وإعادة تسميتهم لأنفسهم كحرسٍ ثوري، عقب قمعهم للحركة الخضراء.
وفي ذلك الاجتماع، بدأ منتجو ومُموِّلو الإعلام في الحرس الثوري الإيراني بمناقشة الكيفية التي سيتبعوها لإظهار وإبراز الاتجاه القومي في عموم الجماهير.
واستشعر الحرس الثوري بالفرصة واستغلها، وتأّتى هذا عبر الارتفاع الواضح في استخدام الأسماء الفارسية قبل الإسلام للأطفال المواليد الرُضّع، مرورًا بالأعلام الكبيرة المنتشرة على الطرق السريعة والجُسُور -والتي مثّلت سمةً أساسيةً لفترة رئاسة محمود أحمدي نجاد في الفترة 2005-2013-، والاستخدام المكثَّف لرمز فارافاهار -رمز الديانة الزرادشتية، ويحوي صورة لزرادشت على شكل طائر-.
وعلى الرغم من أن المشاعر القومية كانت بارزة في الإنتاج الثقافي في الجمهورية الإسلامية في الثمانينيات والتسعينيات، فإن ما يتضح الآن هو محاولة في العديد من قطاعات النظام لتعزيز فكرة “الإيرانية” القومية أكثر من مجرد قضية “الإسلامية” الأُممية.
وأيضًا قال أحد قادة الحرس لزملائهِ أثناء الاجتماع: “الناس ضجروا مِنّا، فقط نُظهِرُ لهم صورًا من الرجال المتدينين الذين قاتلوا من أجل هذا البلد، إنه خطأنا لإنتاجنا مثل هذا اللون من الدعاية”، وأضاف: “لم يعد الشباب يستجيبون لذلك، لذا علينا أن نجِد طريقةً أُخرى”.
ومع تزايد الضغوط الدولية ضد إيران، بما في ذلك العقوبات الخانقة، وحروب الوكالة المُستعرة مع المملكة العربية السعودية، استمرت وتيرة الشعور القومي في الارتفاع داخل إيران. إذ بدأ صُناع الإعلام في النظام بإبراز الوعي بهذا الشعور في جميع إنتاجاتها الثقافية عقب مظاهرات الحركة الخضراء.
وعلى الرغم من أن هذه الاستراتيجية بدأت في بعض الدوائر الإعلامية للنظام قبل عام 2009، فقد تضاعفت بشكلٍ كبير منذ قمع الحركة الخضراء. واليوم، فإن تصعيد هذا التحول القومي في الجمهورية الإسلامية واضحٌ للجميع.
ومن أبرز الأمثلة على هذا التحول إلى القومية؛ هو متحف وحديقة الدفاع المقدس الواقع في شمال طهران، والذي تكلف إنشاؤه ملايين الدولارات، واُفتُتِح في أواخر عام 2012. إذ تعرض إحدى القاعات أو الساحات الرئيسية خرائطً كبيرة تُظهِر مساحات الإمبراطورية الفارسية الحاكمة في آسيا منذ أكثر من 3000 سنة.
وتُوضَع هذه الخريطة في مقابل انكماش الأراضي الإيرانية على مر القرون. فحجم إيران اليوم ضئيل بالمقارنة مع الإمبراطورية المجددة التي رُسِمت على الحائط. وكانت رسالة المتحف واضحة: العصر الملكي الماضي تخلى عن الأراضي وفرّط فيها، وكان تفكيرهم أكثر مُنصَّب على اقتصادهم وملأ جيوبهم الخاصة من جماهير الأُمة. فالجمهورية الإسلامية -عهد الثورة- هي وحدها التي دافعت عن حدود إيران، ومن ثَمَّ، كرامتها كحضارةٍ وإمبراطوريةٍ قديمة.
ويعرض المتحف سردًا مختلفًا للحرب الإيرانية العراقية بين عامي 1980 و 1988 عن متاحف الشهداء الأقدم والأكثر تقليديةً التي تنتشر في كل مدينةٍ وبلدة في الجمهورية. وفي محاولةٍ لكسب المزيد من الزوار، دعت الفنانين المستقلين لزيارتها، ولاقت تلك الخطوة ترحابًا واسعًا، عقب تغييب مثل هذه السُلوكيات من قِبل النظام سنواتٍ عدة.
ومع الأخذ بأن هذا المتحف لا يمكن إلا أن يصل إلى عددٍ محدود من الناس، فقد بدأ منتجو المحتويات الإعلامية التابعين للنظام، الدعوة إلى إنتاج أشرطة فيديو مصحوبةً بالموسيقى، على أملٍ أن تصبح رسالتهم هي الوحدة والاصطفاف خلف الحرس الثوري الإيراني عبر وسائل الاعلام الاجتماعية.
وكان أول مسعىً كبير على هذا النحو هو فيديو “الطاقة النووية” ، الذي صدر قبل يومٍ واحد من توقيع خطة العمل الشاملة المشتركة -الاتفاق النووي- في يوليو 2015. وقد ضم الشريط مغني الراب، أمير تاتالو، ويُظهِر الفيديو مجموعة بحارة على سفينةٍ حربية يقومون بالغناء. “هذا حقنا المطلق في أن يكون الخليج مسلحًا”.
تاتالو، هو نفسه الذي كان يتعين عليه إنتاج موسيقاه تحت الأرض قبل عامٍ واحد فقط من إطلاق هذا الفيديو، فقد تم اعتقاله، في ديسمبر 2013، لتعاونه المزعوم مع محطات الأقمار الصناعية الأجنبية.
ويبدو أن مشاركة الجيش الإيراني في شريط فيديو موسيقي مع مطرب راب -Underground Artist- والذي كان جسده مليء بالوشوم والتاتوهات، مثّل إرباكًا للمشاهدين. ولكن في الواقع هذه كانت استراتيجية يمكن ملاحظتها بين منتجي النظام الثقافي خلال العقد الماضي.
كان حوزة هوناري أو هنري، أكبر مركز ثقافي في البلاد، والذي يعمل تحت رعاية المرشد الأعلى للثورة الإيرانية، أصدر في العام الماضي أغلى فيديو موسيقي في إيران: “صامدون حتى آخر قطرة دم”. استغرق إنتاج الفيديو ذو السبع دقائق، أكثر من عامين، وقد اشترك فيه طاقم عمل مُكوَّن من 150 شخصًا، بتكلفة قدرها 000 385 دولار.
يروي الفيديو قصة هجوم طائرة تابعة للبحرية الأمريكية، على طائرة الركاب الإيرانية الإيرباص الرحلة 655، وإسقاطها في الخليج الفارسي في عام 1988. في بلدةٍ على ضفاف المياه، ينظر السكان الذين يعانون من الموت والدمار إلى الصاروخ الأمريكي الذي يتوجه نحو الطائرة.
المغني، ذو اللحية مرتديًا وشاحًا على صيحة الشباب الباسيجي، يقف عند الشاطئ، منضمًا إلى مجموعة من رجالٍ إيرانيين متعددي الأعراق ملتقطين أعلامًا إيرانيةً كبيرة ويقفون في انسجامٍ ويسيرون نحو سفينةٍ حربيةٍ أمريكية ويغنون “مثل علم كافح … أنا وريثٌ لرستم، أنا سيد رخش “، في إشارةٍ الى كتاب “الملوك ” للشاعر أبي القاسم الفردوسي، وهو ملحمة العَالَم الفارسي أو ما يُسمّى بــ”الشاهنامه”. يشير كافح إلى حدادٍ يقود انتفاضةً ضد طاغية أجنبي شرير لإعادة الحكم الإيراني. إن العلاقة بين المدافعين عن بلاد فارس القديمة ومحاربي الجمهورية الإسلامية، متعمدةٌ وواضحة. فكلمات الأغنية لا تتضمن أي إشارات للإسلام، وربطها ارتباطًا مقصودًا بين فهم معين لإيران وحُماتها الحاليين.
هذه الأعمال الجديدة ليست تعبيرات هامشية يقبلها النظام، بل هي نتائج استراتيجية مُتعمَدة يتبعها منتجو النظام الثقافي. هذه الاستراتيجية تتحرك بعيدًا عن مجرد الاحتفال بالشهداء، إلى تقديم سردٍ ثقيل على القومية والكرامة والفخر.
وفي هذا السياق، فإن الامتناع المشترك الآن الذي يتم الترويج له في الميمات، وفي إنستجرام، وكذلك وسائل التواصل الاجتماعي الأخرى، هو تقدير الحرس لإبقاء إيران في مأمن من القوى الخارجية.
إن الموجة الجديدة من المشاعر القومية ليست هي النتيجة، أو النتيجة الوحيدة للتهديدات الخارجية، مثل الدولة الإسلامية، وخطاب الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، أو التنافس الحارّ مع السعودية.
بدلًا من ذلك، تجدُد القومية هي نتيجة سنوات من العمل من قِبل صانعي وسائل الإعلام في النظام؛ تهدُف إلى إعادة تسمية الحرس الثوري الإيراني بأنه لم يعد قوة للجمهورية الإسلامية، ولكنه أصبح القوة التي تدافع عن الأمة الإيرانية بالكُلية. وهل هذا ما إذا كان سوف يستمر، لا يزال يُنظَر إليه.