فتحت المملكة السُعُودية حربًا بالوكالة، مختلفة الطُرُق، متعددة الجبهات، ومتنوعة الوسائل مع الجمهورية الإيرانية مؤخرًا في أحداثٍ سريعةٍ متلاحقةٍ تحتاج سنينًا عددًا لتأريخها وتدوينها لفهم مُسبباتها ومقاصدها ومآلاتها.
وليس من المقصود في تقريرنا هذا قِياس نسبة تفوق إيران على السُعودية، لأن هذا لم يتحقق بصُورةٍ واضحة، ولكننا نُوضِح كيف سِيقت السُعُودية إلى مهاوي ودركات الشرق الأوسط ووقعت في مستنقعهِ حتى وصل الوحل بها إلى شحمتي أُذنيها، وكيف كانت إيران عاملًا رئيسيًا أوليًا في وُصُول السعودية لما هي عليه الآن من فشٍل خارجي مُضنٍ في ملفات العيد من بُلدان المنطقة.
بدأت السُعُودية بصورتها الحديثة التقدُمية، والتي قصّ شريطها، ولي العهد والأمير، محمد بن سلمان، والذي تُطلِق عليه الصحافة الغربية لقب MBS، في طلب تحقيق نصرٍ خارجيٍ باهر يُضفِي على الأمير الشاب مؤهلات المُلُوكية، ويمنحه استحقاقية ولايته للعهد التي حازها عَنوةً من محمد بن نايف، وكان هذا هو نصب أعين بن سلمان وهو الرفع من مستوى السياسة الخارجية السعودية والتمثيل الدبلوماسي لها، وكانت تدفع ذلك رغبة جامحة من الأمير الشاب جنّد لها كافة القُوة الداخلية للمملكة وسخّر لها جميع حُلفاء ووُكلاء السُعودية في المنطقة.
ولم يكُن ليجِد هدفًا أكبر وأعظم من إيران، والتي قد مارس معها أسلافه من بني سعود سياسات القُوة الناعمة، ونشر الثقافات والأفكار المذهبية التابعة لكُلٍ منهما، ولكن بن سلمان لم يرتض بذلك، وأعرب عن نيتهِ وتوجههِ في الوُقُوف في وجه إيران ووكلائها في المنطقة
وها نحن بتطوافةٍ سريعة بشكل أكثر تفصيلًا من من تقرير الفورين بوليسي، الذي دوّنته تحت عنوان “طهران تفوز بحرب السيطرة على الشرق الأوسط”، لنخوض مقارنةً مُبسطةً وتحقيقًا عن انسياق السُعودية لأرض المستنقعات حيث الشرق الأوسط، وكيف فقدت الكثير من التعاطُف والحواضن والتقدير من قِبل شعوب المنطقة، وكيف سفّهت المملكة بسياستها الخارجية من أحلام هذه الشعوب، وتسببت في مآلاتٍ سيئةٍ لهم رغم توافقهم المذهبي معها.
اليمن
أصبح لا يُخفَى على أحدٍ حقيقة الوضع في اليمن، فليست هُنالك ثمة صحيفة أو وكالة أنباء أو حتى مركز بحثي أو سياسة خارجية لدولةٍ ما في الغُرف المُغلَقة أو على الملأ، تُوصِّف ما حدث للمملكة السُعُودية في اليمن، إلا هي وقد مُنِيت بهزيمة عسكرية وسياسيةٍ فادحة، تحاول الآن التغطية عليها عبر سلسلةٍ من التسويات والمفاوضات، لكن هذه أيضًا جاءت الرياح بما لا تشتهي سُفُنها، فقد أُردِي علي صالح قتيلًا وأصبح الحوثيون مُلاك الأمر الآن.
فشنت السعودية بالتعاون مع حلفائها العرب حربًا لا هوادة فيها سمتها “عاصفة الحزم” في آذار / مارس 2015، دفعت على إثرها الكثير، تكبد الاقتصاد السُعودي خسائر فادحة فقد بلغ الدّين العام قرابة 91 مليار دولار ، جامعة هارفاد الأمريكية أشارت إلى أن تكلفة الحرب تُقدر بــ 200 مليون دولار يوميًا وعرجت فورين بوليسي في تقريرها أن حجم التكلُفة بلغ 725 مليار دولار، تراجع الاحتياطي النقدي الأجنبي من 737 مليار في 2014 إلى 487 مليار في 2017 .
تورطت السعودية في ملفاتٍ حقوقية واعتبرت بعض أفعالها جرائم حرب وأُدرِج التحالف العربي على القائمة السوداء للأمم المتحدة، أصبحت السعودية تحت الأنظار ورُصِدت تحركاتها وأفعالها في اليمن بعين الرقيب وتعرضت لمُساءلات في الاتحاد الأوروبي ومجلس الأمن، أخفت المملكة حجم خسائرها العسكرية وتعرضت حدودها الجنوبية لهجماتٍ شبه يومية في نجران وجيزان وعسير وظهران.
وحسب تقرير موقع دويتشه فيله، فقد دُمّر لها قرابة 98 موقع عسكري وما يزيد عن 300 مدرعة ومدبابة وقُرابة 5 طائرات وتقول مصادر أن القوات السعودية تكبدت خسائر 10 آلاف جندي بين قتيل وجريح. خلّفت السعودية وراءها كذلك أرضًا تعيسة يطل عليها الغُربان؛ فقد سُبِّعت اليمن بالأوبئة والمجاعات والفقر والعُوز والمنظمت الحُقوقية تتقاطر خطاباتها من كل حدبٍ وصوب لتُوضِّح حجم المأساة وتنذر بالكارثة التي خلّفها التحالف الذي تقوده السعودية في اليمن.
بالنسبة لإيران كان الوضع مختلفًا، أنفقت إيران بحسب تقرير مجلة الفورين بوليسي الآخر، 1 % من نفقات الرياض والإمارات مُجتمعتين في هذا الصراع، كما أكدت أن هذا النزيف السعودي يصب في صالح إيران، دخلت إيران في المشهد السياسي اليمني بقُوة واحتوت الحوثيين ونظرائهم من الأحزاب الإسلامية واكتسبت زخمًا واسعًا في الشارع السياسي، واحتفظت بعلاقاتٍ ممدوة ومفتوحة مع الجميع، وعملت على إظهار حلفائها في صُورةٍ لائقةٍ عسكريًا وسياسيًا وهذا كله دون التدخل بثُقلٍ كامل في البلاد، فاكتسبت ساحة نُفُوذ جديدة، بالإضافة إلى ممارسة القُوة الناعمة لإيران في اليمن عبر علاقاتها الواسعة مع شباب الثورة اليمنية والصُحُف والمجلات ودُوُر النشر اليمنية، كما سعت إيران أن يكون لها جانبًا حُقوقيًا في اليمن عبر نُشطاء وسياسيين، وهذا كله ما يوافق قول مندوب مدينة طهران، في البرلمان الإيرانيّ، علي رضا زاكاني، بأنّ صنعاء هي رابع عاصمة عربيّة تسقط في يدّ إيران.
لُبنان
فشلٌ دبلوماسي في حلقاتٍ متعددة، وتركةٍ ثقيلة من الانحدار السياسي في بيروت، بدأت بحصول ميشال عون على رئاسة البلاد في أكتوبر 2016 وهو رجلٌ معروف بعلاقته الممتازة مع حزب الله وقد سمته جريدو وول ستريت جورنال “رجل طهران في بيروت”، عقبها بشهرين أُسِّسَ مجلس الوزراء بقيادةٍ سُنية ولكن بأغلبية وزارية شيعية من حزب الله مجددًا، في فبراير 2016 قامت السعودية بإيقاف تمويل لُبنان ب 4 مليارات دولار في صورة مِنح عسكرية ومُساعدات، وذلك عندما انتهجت الأخيرة “مواقف لا تنسجم مع العلاقاتِ الأخوية بين البلدين” فقد امتنعت لُبنان عن التصويت على بيان لجامعة الدول العربية في يناير 2016 يدين الهجوم على الممثلتين السعوديتين، وأضف من الشعر بيتًا في زيادة التأزيم على لُبنان عندما قامت المملكة بإيقاف الدعم المالي كاملًا للقوات المسلحة اللبنانية.
وهذا ما فتح الطريق لقول ممثل وزارة الخارجية الإيرانية، حسين جابر أنصاري: “طهران جاهزةٌ للنظر في مسألة تقديم المُساعدة الضرورية للبنان إذا حصلت إيران منه على طلب رسمي”.
حتى هذه اللحظة السالفة، أصبح المسئولون السُعوديون يعترفون بأن لُبنان لم تعُد أولوية بالنسبة لهم، بل أرسلت المملكة مبعوثًا رَفيع المُستوى لإجراء مُحادثات مع شخصيات سياسية لبنانية متنوعة في أكتوبر 2016.
لكن بمجيء بن سلمان أراد أن يُجدد المناورات في لُبنان ضد إيران، وضغط على سعد الحريري لتقديم استقالته، وخرجت التقارير التي تُؤكِد على احتجاز بن سلمان لسعد الحريري لكي يُقدِم استقالته؛ لقلب الطاولة في لُبنان على رأس حزب الله وتصفية الحسابات مع إيران، ولكن صُدِمت المملكة بالضغط الدُولي ووحدة الصف اللُبناني وراء سعد الحريري وضرورة إعادته إلى منصبه مرةً أُخرى بمن فيهم حزب الله نفسه، وعاد الحريري على رأس منصبه وضُرِبت الدبلوماسية السعودية في مقتلٍ جديد.
وأُضيِفت نقطة إضافية لإيران. ولازالت مصافحة سعد الحريري لسفير بيروت في لبنان، محمد فتح علي، في ذكرى عيد الاستقلال، في الثاني والعشرين من شهر تشرين الثاني / نوفمبر الماضي علامةً بارزة على حقيق تأزُم الموقف السُعودي في لُبنان.
سُورية
حاولت المملكة السُعُودية استغلال فترة الثورة السُورية وعملت على تدعيم الأطراف المناوئة لنظام الأسد خاصةً الأطراف والجماعات السنّية السلفية، واكتساب دولةٍ في حِلفها ومُحاولةً جديدة لإيقاف المدّ الإيراني في المنطقة المجاورة لها، وضخت المملكلة ملياراتها كالعادة في تسليح وتدعيم وتمويل هذه الجماعات، وفي الوقت نفسه كانت هذه محاولة لإبعاد خطر هذه الجماعات عن أرضها -أي سياسة مجموعة عصافير بحجرٍ واحد-، لم تتوقف السعودية عند هذا الحد بل وضعت ثقلًا أكبر في الدُخول في مواجهة مع روسيا ذاتها، بسياسةٍ ترهيبية عندما تطايرت الأنباء عن انتواء المملكة الدُخول بقواتٍ برية على الأرض السُورية ولكنها وجدت أن هذا سيُكلِّفها كثيرًا لأن روسيـا قد قرَّرت ألا تسمح بأن تكثُر الأصابع في الميـدان السُوري، ولجأت لسياسةٍ ترغيبية عندما قدّمت عُرُوضًا سخية وحوافز وإمدادات للجانب الرُوسي عبر صفقات أسلحة ضخمة، وكذلك وضع حلٍ ناجع لنزيف الاقتصاد الرُوسي نتيجة انحدار أسعار النفــط وتسهيل تصريف النفط الروسي في أسواق الخليج، وذلك كُله نظير خُرُوج روسيــا من الميدان السوري -وهذا ما قُوبِل بالرفض بالطبع؛ لأن الساحة السُورية آنذاك كانت هي المنفذ الوحيد لروسيا في الشرق الأوسط-.
على الجانب الآخر كانت إيران ترتع في ملاعب سُوريا، حرّكت حزب الله على الحدود السُورية اللبنانية وزجت به في عُمق الأراضي السُورية، دفعت بمُستشاري وقادة حرسها الثوري في أرض المعركة لتقديم الخبرات للجُنُود، أمدت نظام بشار الأسد بمنظوماتٍ دفاعية وصاروخية، شكّلت فيالق وميلشيات تنتشر على كامل الأرض السُورية لا يقل عددهم عن 7 آلاف مُقاتل بأي حال من الأحوال، أنشئت مراكز ومعسكرات ومؤسساتٍ تابعةٍ لها، أصبح القرار السياسي السُوري في يدها بالتناصُف مع روسيـا ولا يخرج عن دائرتهما، نشرت مذهبهــا الاثنا عشري في العديد من مناطق الداخل السُوري فأصبحت هُناك مناطق بالكُلية خاضعة للمذهبية الدينية الإيرانية بما فيها دمشق نفسهــا وتُقاَم الاحتفالات الدينية بصُورةٍ ظاهرة وطدت أرجُلها بصُورةٍ أكثر متانةً وقُوة عبر الحُصُول على عُفُود إعادة إعمار سُورية وتحصلوا على حُقوق التنقيب عن المعادن وإنشاء خطوط الهاتف ومحطات الطاقة الكهربائية ومصافي للنفط، أي أن المساعي التي خاضتها السعودية وكأنها انقلبت عن عمد لترتد في صدر ها وتأتي على نقيض مقصدها وتتوسع إيران بدرجةٍ أكبر مما توقعت السعودية.
العراق
تمُد السُعودية بروافدها دومًا ناحية العراق لا سيمــا بعد الظُروف الطارئة التي طرأت على العراق، ورغبتها القوية في أن يبقى لها موطأ قدم في أرضٍ قائمٍ بها ظِل إيران، بدت الرغبة في التقارُب، فزار عادل جُبير، وزير خارجية المملكة الأراضي العراقية بعد انقطاع الزيارات من قِبل أي وزير خارجية سُعودي للأراضي العراقية منذ 14 عامًا، وردّ حيدر العبادي الزيارة إلى المملكة في حزيران / يونيو الماضي، كُلِّلت الجُهُود عبر تأسيس “مجلس تنسيق مشترك” بعد اقطاع علاقات دام 27 عامًا وذلك عبر رعايةٍ أمريكية. بالإضافة إلى فتح منفذ “عرعر” الحدودي بين البلدين في أغسطس الماضي، وكذلك قيام شركة الرحلات السعودية الاقتصادية “فلاي ناس” بداية الأسبوع المنصرم بأول رحلة تجارية بين الرياض وبغداد منذ 1990 في منتصف أكتوبر الماضي. فتسعى السعودية سعيًا حثيثًا نحو تحالفاتٍ تساعدها على التواجد أكثر في العراق عبر العلاقات السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، وفتحت السعودية قنصليّة لها في مينة النجف المقدّسة التي تعدّ فاتيكان الشيعة، كما عبر تقرير جريدة المونيتور، كما أنها تشارك في المعارض الاقتصاديّة الدوليّة في بغداد بكثافة، حيث بلغ عدد الشركات الاقتصاديّة المشاركة في معرض بغداد الدولي 60 شركة.
لكن أنىّ يتأتى هذا؟، السعودية تركت الساحة العراقية منذ التسعينيات وملأ هذا الفراغ الجانب الإيراني، وبتطوافةٍ سريعة آنيًا كيف أصبح حجم الدور الإيراني في العراق، وفي تقرير الفورين بوليسي الذي أشرنا إليه سلفًا، عدّد كيف أصبحت إيران في العراق، طوّر الحرس الثوري الإيراني قوةٍ عسكرية مستقلة معتمدة رسميًا على شكل وحدات الحشد الشعبي التي يبلغ قوامها 120 ألفًا. تدفعُ بقوةٍ ميلشياويةٍ ممثلة في منظمة بدر، وعصبة أهل الحق، وهما متصلتان مباشرةً بالحرس الثوري. بالإضافة إلى الأسبقية السياسية في بغداد ممثلةً في حزب الدعوة الإسلامي الحاكم، كما تسيطر منظمة بدر السالفة الذكر على وزارة الداخلية القوية، تلقت الميلشيات الإيرانية في العراق تدريبًا حداثيًا على يد الجيش الأمريكي عندما ذابت في أجهز ة الأمن العراقي داخليته وجيشه.
كما أقامت إيران قواعد جماهيرية وسياسية تتبع لها بالكُلية في العراق مؤسسةً على التقارُب المذهبي وطريق الحج والعتبات المقدسة التي تملأ مدن العراق لا سيمـا النجف، كما أهدت إيران العراق أبرز وأعلى هديةً في سُوق السياسة عندما وأدت حلم الكُرد بالاستقلال ومنعتهم من إقامة دولة وأنزلت بهم عقابًا شديدًا حمايةً لمصالح حليفتها العراق.
هذا الحُضور الطاغي لإيران في العراق يوأد محاولات السُعودية في أن يكون لهـا منفذًا في العراق رغم محاولاتها الجادة والحثيثة، ولكن لا يبــدو أن السعودية لديها رغبة في ضخ مزيد من الأموال إلى العراق أو تقديم جانبٍ مادي لحُلفائها السياسيين الجُدُد.
قطر
فرضت السُعودية وحلفاؤها حصارًا شديدًا على قطر في محاولةٍ للوي عنقها وإثنائها عن تغريدها خارج السِرب الذي تقوده السُعودية في المنطقة بالضغط السياسي والحصار الاقتصادي والعُزلة الاجتماعية عليها، وألزموها بقائمة مطالب تقُم بتنفيذها لرفع الحصار عنها، رفضت قطر الإملاءات وقررت المواجهة واعتبرت أن الحصار ومطالبه هي اعتداء على كرامة قطر وسيادتها، وهذا ما صدم المملكة، كما ألمح مقال محمد أيوب، أستاذ العلاقات الدولية، في مجلة The National Interest.
لم ترضخ الإمارة الصغيرة، وقررت تحويل خطط التجارة والاقتصاد والنقل من الخليج إلى الوجهة الجديدة الممثلة في تركيــا وإيـــران، فأصبحت هُناك صفعةً جديدة على وجه الدبلوماسية السعودية، متّنت الإمارة علاقاتها بالجمهورية والعكس صحيح، ازداد التعاون الأمني والمخابراتي بين البلدين، وقفت الخارجية الأمريكية بجانب قطر ضد دول الحصار فأكسبها هذا ثقلًا وثقةً كبيرتين في مداومة النزاع والمواجهة ضد دول الحصار وهذا فتح جبهة لإيران في معاونة قطر، أعلنت قطر صراحةً بسعادتها بتعزيز العلاقات الثنائية مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية في جميع المجالات، وذلك في أغسطس الماضي، أعادت قطر التمثيل الدبلوماسي لها في طهران بإعادة سفيرها لها، بدت قضايا الاختلاف بين البلدين آخذةً في الانزواء والتحييد لاسيمـا القضية السُورية والتي تختلف فيها البلدان اختلافًا كُليًا، دُعّمت العلاقات الاقتصادية بين البلدين بصُورةٍ عُظمى إذ ساعدت إيران قطر على نقل الإمدادات والسلع إليها عبر الشحن الجوي والبحري، سمحت السعودية بفعلتها تلك أن تفتح الباب لإيران أن تدخل إلى منطقة الخليج وتكوّن علاقات مع أحد أعضائه، الخليج الذي ظل عصّيًا سنينًا عددًا على إيران أن تُقيِم أية علاقات من أي وجه مع إحدى دوله.
ثمن الدبلوماسية الباهظ
عبر هذا العرض السريع المُفصّل حاولنا أن نُجمِل سلسالًا من الأحداث في منطقة الشرق الأوسط بين اثنتين من قُوى المنطقة على الإطلاق في الوقت الحالي. بعين الفاحص هذه الأحداث حدثت في مُدةٍ وجيزةٍ للغاية طغى فيها طرف على طرف، وعلت أسهُم طرف على طرف، وكلفت الدبلوماسية الخاطئة للذين لا يعتدون بها ضريبةً باهظة، وكُلفةً هائلة.
وهذه هي أولى نقاط تحليلنا واستنباطنا من هذا الصراع، الدبلوماسية، يظهر جليًا أن فقه السياسة الخارجية والدبلوماسية أصبحت رُكنًا ومقومًا هامًا من أركان ومقومات الدولة في العصر الحديث، وهي لا تقل شأنًا عن قوة الجيوش، ومتانة الاقتصاد والاحتياطي النقدي، والأمن الغذائي، كيف تستطيع دولة أن تُوقِع دولةً أُخرى في أزمة، وكيف تستطيع الدولة المأزومة أن تخرج من مأزقها وتقلب الطاولة على من أوقعتها في أزمتها. كما أن هذه الدبلوماسية تجُر بنتائجها على كافة المقومات الأخرى للدولة قد تدفعك لإهلاك الجانب العسكري والدفع به في حُرُوبٍ لا ناقة فيها له ولا جمل، قد تُخرِب عليك اقتصادك وتنسف احتياطك النقدي وتُوقِعك في أزماتٍ اقتصادية، والعكس صحيح. لذا شكلت هذه الدبلوماسية وكيفية التعامل مع الظروف السياسية أهميةً قُصوى في العصر الحديث.
بين السعودية وإيران
كيف نستطيع إذًا أن نُوزِن ميزان المعركة بين تلكما القوتين العُظمتين
أولًا: الجانب السُعودي، تواترت التقارير من الصُحف الغربية والتحليلات من المراكز البحثية، على مدى الفشل الذي حققته المملكة في معاركها ونزاعاتها مع إيران في المنطقة وخلفت من وراء ذلك تهديد جاثم على بُلدان المنطقة، وأبرزت سياستها تناقُضًا وتخبُطًا منذ تأسيسها، وهذا ما أظهرته الطبقة السياسية الجديدة في عدم تعاطيها مع االأحداث السياسية والمُنافسين وعدم القُدرة على التفسير الصحيح للمواقف، وتكوين رؤية تجاه كل موقف وسياستها تجاه كل دولة. خلّف هذا الفشل بالتوازي مع القيادة المتهورة المُفتقدة للنُضُوج السياسي هزائم عسكرية، وانحدار نُفُوذ، وضياع كلمة، وخسارة تعاطُف وحواضن شعبية.
كما نجد أن السُعودية تفتقر للخبرة الخياراتية العسكرية والسياسية في ساحات القتال وهذا مقارنة بالجانب الإيراني الذي يملك خيارات واسعة في هذا الإطار وهذا ما لم تتعلمه السُعودية من درس اليمن، بل كانت لديها رغبة في الدفع بجنودها لساحة جديدة وهي سُورية.
كما أفاد تقرير لموقع The intercept أن هذا العجز كان ليكون هزليًا لولا تسببه في مقتل الآلاف من البشر خلفهم وراءه في الساحات المختلفة التي وطأها لتمرير نفوذه، وأضاف أن السُعودية سارت عكس ما وُهِبت به من ثروةٍ نفطية، وزعامةٍ دينية ثقافية، وقُوة عسكرية عُظمى، وعملت على اكتساب النُفُوذ والسُلطة بطريقة أشد من وأسوأ من إيران، كما أن الحرب الأيديولوچية التي شنتها المملكة على الأشكال المحلية للتديُن جاءت بضربةٍ معاكسة على وجه السُعودية وأشعلت جبهاتٍ عدة فتحت عليها أكثر من بوتقةٍ نيرانية أصابتها بخُسرانٍ مُبين. ترتب عليه عدم قُدرتها على تكوين أحلاف وأصدقاء في المنطقة لرغبتها في تماهيهم التام مع سياستها والخُضوع والإذعان الكاملين.
ثانيًا: الجانب الإيراني، بادئ ذي بدء ليس يعني انتصار الدُبلوماسية الإيرانية على السُعودية، مدى طُهوريتها وصوابها أو ما نستطيع أن نقول طوباويتها، فهذه سياسة، والسياسة مسرح لكل الفِعال والسلوكيات طيبها وخبيثها، فسنرى أن إيران دفعت بآلالاف من المستشارين والقادة والضُباط والجُنُود والشباب الذين دجّنتهم بالخطاب المذهبي إلى ساحات القتال ليُوقِفوا ثورة الشعب السُوري ويشاركون في قتله مع قوات نظام الأسد، ووأدوا حُلم الأكراد في مهده وعاقبتهم لرغبتهم في الاستقلال عقب سنين من الويلات، وتملكت القرار السياسي في العراق وبسطت نفوذها على الأرض بقوة ميلشياتها وخربت على العراقيين عيشهم وعاملتهم معاملةً لا شفقة فيها ولا رحمة عقابًا لهم على مكوثهم تحت حكم تنظيم الدولة الإسلامية، كما سادت القرار السياسي في لُبنــان قتلت فيه استقلالية وسيادة البلاد.
ولكن إيران ألبست دبلوماسيتها منظومة من السمات والمميزات التي ساعدت على إنفاذها وتمريرها، أبرز سياسة استغلال الثغرات، كما فعلت في الأزمة الخليجية واستغلت الشقاق بين قطر ودول مجلس التعاون، واكتسبت أرضًا جديدة بعلاقاتها مع دولة قطـر. قُدرتها الفائقة في الحشد والتجييش وتكوين الأحلاف والوكلاء والأحزاب، فأنتجت كتائب حزب الله اللبناني، ومنظمة بدرن وعصائب أهل الحق، والحرس الثوري، وكلهم يأتمرون بأمرها ويتحركون حسب توجيهاتها. نُضيفُ أيضًا أنها لا تهتـم بالذين يخضعون لسياستها أن يحققوا تماهيًا ومواءمةً تامةً معها، أو تمييعًا نهائيًا لثوابتهم لكي يتوافق مع سياستها كدولة، وهذا ما ظهر في اليمن عند تعاملها مع الحوثيين رغم زيديتهم المذهبية وكذلك قُبُولها التعامل مع الأحزاب والحركات السُنّية والتعاون معها.
إيران كذلك وظّفت شُخُوص قادرين على ممارسة الدبلوماسية والدُخُول في اللُعبة السياسية عندما ظهر على الساحة حسن روحاني، وجواد ظريف اللذان يمتازان بكثيرٍ من الدهاء والرزانة والحصافة، سماتٍ لم تكن لتتوفر بالضرورة في ولي العهد محمد بن سلمان، ووزير خارجية المملكة، عادل الجبير.
بالإضافة إلى التمرُس والفهم للسياسة وأسلوب الحرب بالوكالة، كما ذكر تقرير الفورين اللذين يغلبان على إيران في مواقفها، وهذا أيضًا ما لم يتوفر في الجانب السُعودي.
ختامًا، كان الفشل الدائم للسياسة السُعودية ليس برادعها عن تصحيح المسار أو الوُقُوف لحظةً للدراسة والتمهُل والتفكير في كيفية إدارتها الصراع، وهذا ما يدخل في دائرة “الحماقة” التي وصفها الدتور، محمد أيوب، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة ميتشغان الأمريكية، في مقاله السالف الذي أشرنا إليه، بالإضافة إلى ما وُجِد من الطرف الآخر في التعامل وكان ممثَّلًا في صُورة صبرٍ لا نهائيّ، فاستغلت زلات وأخطاء المملكة أجود استغلال ووسعت نفوذها وتهيأ لها ما لم يكُن أن يتسنى لها عقب عقود، لك أن تقف وتتساءل كيف الفشل الدبلوماسي، والقيادات غير المُؤهّلة، وشهوة النُفُوذ لها أن تجُر السعودية إلى مستنقعٍ تريدُ الخُروج منهـا الآن بأي طريقة، ولكنها تعلم أن خُروجها منه يعني هذا أ، تحكم إيران قبضتها على المنطقة، وتخرج السُعودية خالية الوفاض من المنطقة.
ماذا سيحدث مستقبلًا؟ وهل ستعيد المملكة ترتيب أوراقها للوقوف في وجه إيران؟ وهل ستبقى إيران تحتفظ بالفهم والصبر والتمرُس كثيرًا للإبقاء على مكاسبها؟.
الشرق الأوسط،احذر هنا منطقة حرب فتندك عنقك.