في الثاني من ديسمبر، شنّ الطيران الإسرائيلي غاراتٍ على مواقع عسكرية سُورية، في محيط بلدة الكسوة، في ريف دمشق. تحديدًا بين بلدتي الكسوة وصحنايا جنوب غرب دمشق.
وذكرت مواقع مواليةٌ للنظام السُوري، أن بطاريات الدفاع الجوي لجيش نظام الأسد تصدّت للغارات وتمكنت من تفجير أحد الأهداف.
هذه هي الرواية الدائمة والمتواترة التي تخرج من وكالات الأنباء والمواقع الإخبارية، في قضية هجمات الطيران الإسرائيلي على مواقع سورية في الداخل السُوري؛ الذي أصبحت سماؤه حلالًا على جنس الطائرات الحربية من كل شكلٍ ولون.
ولكن الهجمة الأخيرة كانت تستدعيً عددًا من التقارير والتحليلات والرُؤى حول أسبابها وماهيتها ومقصدها.
إيران هدفًا
في نهاية نوفمبر الماضي، كشف تقرير للقناة العاشرة الإسرائيلية، أن رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، هدّد صراحةً في اتصالٍ هاتفي مع الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، بأنه يدرس مهاجمة أهداف إيرانية في سوريا، وأن النشاط الإيراني أصبح هدفًا لإسرائيل. كما أنه قال للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في مرةٍ أُخرى، أننا لن نوافق على تثبيت إيران في الأراضي السُورية.
تذكر وكالة الأنباء الألمانية (د.ب.أ)، أن الضربات الإسرائيلية الأخيرة وُجِّهت صوب اللواء 91 في منطقة الكسوة، واللواء 90 في منطقة تل الحشم بريف القُنيطرة الشمالي.
ولكن ذكرت الوكالة، أن مصادر إعلامية منتصف الشهر الماضي، نشرت صُورًا قالت أنها لمركزٍ تابع لقُواتٍ إيرانية في منطقة الكسوة التي وُجِّهت لها الضربة.
كما يذكُر موقع الجريدة في تقريره، أن إسرائيل أطلقت تحذيرًا بضرب أي تحرُك إيراني غرب طريق دمشق – السويداء، أو ما يُعرَف إعلاميًا “المنطقة العازلة” التي تبلغ 40 كيلو متر من خط فض الاشتباك في الجولان، وفعّلت تحذيرها بضرب موقع عسكري، ونقطة استخباراتية تضُم رادارات ومنشأةً لتصنيع الأسلحة والمتفجرات. وكالة الأنباء السُورية (سانا)، أكدت أن القذائف كانت أرض أرض، وتصدى الدفاع الجوي ودمر صاروخين، والمركز الروسي في قاعدة حميميم نفى إسقاط أية صواريخ، واكتفى بتأكيد تصدي المضادات السُورية.
لا طهران، ولا دمشق، ولا تل أبيب أعلنوا عن سبب القصف ولا هدفه، وطهران لم تنبُس ببنت شفة بصدد هذا الأمر، وتل أبيب لم تُصرِّح كالعادة بالضربة التي نفذتها.
في تقرير موقع إيلاف، ذكر أن الهدف كان قاعدة إيرانية دشنتها إيران في يناير مطلع هذا العام، كانت أعمال البناء لا تزال فيها قائمة. موقع هذه الضربة يتوافق مع ما ذكرته وكالة BBC عن وجود قاعدة عسكرية إيرانية ضخمة تحت الإنشاء، في جنوب دمشق على بعد 50 كيلو متر من مرتفعات الجولان المحتلة، مُقاَمةً على أراضٍ تابعة لسُلطة نظام الأسد، ودعّمت تقريرها بصورٍ مُلتقَطة من قِبل الأقمار الصناعية في الفترة من يناير – أكتوبر هذا العام.
تواتر التوكيد من قِبل صحيفة هآرتس، وموقع يديعوت أحرونوت الإسرائيليتين، أن الضربة استهدفت القاعدة الإيرانية التي نشرت هيئة الإذاعة البريطانية BBC، صورها في نوڤمبر الماضي. القاعدة كانت كذلك مركزًا لإيواء المليشيات المدعومة إيرانيًا كنُقطة تجمُع تنطلق منها لاستئناف عملياتها في جنوب سُوريا، وموطنًا لمُقاتلي حزب الله اللبناني، ومركز للمركبات. وهذا ما أكدته مصادر من المعارضة السورية في الجبهة الجنوبية، والمرصد السُوري لحقوق الإنسان.
رغبة إيرانية جامحة في مواجهة ردع إسرائيلي صلد
ذكر تقريرٌ حديث لصحيفة هآرتس الإسرائيلية، أن إيران تسعى جاهدةً لإقامة ممرٍ بري يخضع لسيطرتها، يضرب بأطنابه من العراق مرورًا بسُورية حتى لُبنان؛ ولذلك يسعى قاسم سُليماني، قائد فيلق القدس، أبرز أجنحة الحرس الثوري الإيراني، السيطرة على مدينة البوكمال السورية وإخضاعها له.
ويذكر التقرير، أن إيران تبحث عن إنجازاتٍ أرضية في سُورية، لأنها تعلم أن القادم هي فترة تسوية سياسية شديدة الصُعوبة في البلاد. متمثلِةً في بناء قاعدةٍ بحرية وجوية في سُورية، كما تسعى للحُصُول على موافقةٍ لبدء التعدين في المناجم في سُورية وفي القلب منه البحث عن اليورانيوم، بالإضافة إلى توقيع شركاتٍ إيرانيةٍ مرتبطةٍ بالحرس الثوري الإيراني صفقات إعادة بناء لشبكات الهاتف، وعقود أولية لبناء محطاتٍ جديدة لتوليد الطاقة والكهرباء في عددٍ من المدن السورية، من بينها حلب وحمص، وإنشاء مصافٍ للنفط، وفي سبيل هذا الحقل ألا وهو إعادة الإعمار يُمارِسون ضُغوطًا هائلة على الأسد لبدء تفعيل عُقُود إعادة الإعمار، كما أكد تقرير مجلة الفورين بوليسي الأمريكية.
وأضاف تقرير هآرتس، أن إسرائيل تعتقد أن لإيران مئات من المقاتلين في سُورية، ينتمون للحرس الثوري الإيراني، منهم فئة تعمل كمستشارين، وفئة أُخرى تعمل كقادةٍ لتوجيه العمليات العسكرية للمليشيات السُورية والشيعية، بالإضافة إلى 7000 مقاتل من حزب الله اللبناني. تركيبةٌ مختلطة من المقاتلين والقادة والمستشارين تعتقد إسرائيل أنهم في جنوب سُورية، ولكن إسرائيل لم تستبين حقيقتهم عند مرتفعات الجولان أو تتأكد من وجودهم.
يُضيِف التقرير، أن طهران ترغب في تحقيق مركزِ متقدم في سُورية، بصورةٍ تدريجيةٍ وبطيئة، وهم لا ينوون التخلي عن هدفهم.
على الجانب الآخر، إسرائيل، تسعى إلى الحدّ من النفُوذ الإيراني، فتُصعِّد من حراكها الدبلوماسي الخارجي، فعسّرت وأعلت من لهجة الخطاب شطر الولايات المتحدة الأمريكية مُستنفرةً فيها ألا تترك سوريا لبوتين يفعل فيها ما تشاء، وأن تجعل أمريكا حليفتها إسرائيل في وضعٍ لا تُحسَد عليه وسُورية في يد الرُوس والتُرك والإيرانيين وأنها أصبحت غير ذات قُدرة على التأثير. كما تُحرِّك إسرائيل حملات من الدبلوماسيين ومسؤولي المخابرات يجيسون في ديار أوروبا لشرح وجهة نظر إسرائيل حول الوضع السوري لاسيمــا الجنوب ومُرتفعات الجولان.
بالإضافة إلى حِدة لهجة نتنياهو مع الرئيسين الفرنسي والروسي اللذين أشرنا إلى حديثهما سلفًا، ومدى ضغط إسرائيل على دول الناتو الغربية ليُوقِفوا المسار الإيراني التوسعي في سُورية.
عسكريًا، في مطلع سبتمبر الماضي، دك الطيران الإسرائيلي مصنعًا لإنتاج الصواريخ والأسلحة الكيماوية أو ما ذكرته صحيفة هآرتس، أنه مركز للدراسات والأبحاث العلمية، في منطقة مصياف بمدينة حماة، قِيل وقتها أنه مركز مُعبّأ بصواريخ S-60، التي يستخدمها حزب الله بُناءً على تمويلٍ ودعمٍ إيرانيين.
وفي مطلع شهر نوڤمبر أيضًا، يُذكَر أن قصفًا إسرائيليًا، استهدف منطقة حسناء الصناعية، جنوب مدينة حمص، وقِيل إن الهدف أيضًا كان مستودعًا للقوات الإيرانية الحليفة للنظام السوري. وها هو مناط تقريرنا،مطلع هذا الشهر، هدفًا إيرانيًا جديدًا يُضرَب من قِبل قوات الطيران الإسرائيلي.
كما أنه في الشهر الماضي، دشَّن سلاح الجو الإسرائيلي مناوراتٍ مشتركةٍ ضخمة في صحراء النقب تُسمّى “العلم الأزرق”، واستضافت أسلحة الجو التابعة للولايات المتحدة وست دول أوروبية. وُصِفت هذه العملية من الجانب الإسرائيلي، أنها “تتويج” لخُطة التدريب السنوية لسلاح الجو مع القوات الأجنبية.
أضاف تقرير موقع “واللاه” الإسرائيلي، أن القيادة العسكرية الإسرائيلية تتهيأ لشّن حربٍ نفسية ضد إيران، بديمومة استعراض أسلحتها وقُوة ترسانتها ليردعوا إيران عن مُبتغاها، لا سيما بعد استلام صفقة طائرات “شبح” من الولايات المتحدة الأمريكية، وأشار أيضًا إلى أن نتنياهو أصبح حريصًا على إرفاق وصُحبة رئيس جهاز الموساد، يوسي كوهين، معه لا سيمــا أثناء لقائه ببوتين في مدينة سوتشي الروسية.
خيار الحرب قائم
الشاهد أن كلا الدولتين لا ترغبان في إقامة حرب، فإيران تُريِد رغبة بقاء دائمة ومُكُوث لا ينقطع في الأراضي السُورية وتُحاوِل أن تُسخِر كافة الظروف لتحقيق هذا الغرض لها، عامل الوقت أيضًا تسعى لاستغلاله أثناء الانشغال الروسي بملفات التسويـة السياسية، وتسعى إيران لحماية الأجواء السورية بتوفير ردعٍ كافٍ أمام غارات الطيران الإسرائيلي المستمرة على سُورية، وذلك عبر تقييد حركة الطيران التابعة لها نفسها، وتقنين وُجود الطيران الإيراني بسُورية بتوقيع اتفاقيات مع دمشق، بالإضافة إلى تطوير صناعة الدفاع الجوي من بطاريات ومنظومات وصواريخ، وتشييد المصانع الحربية وتخزينها بالأسلحة.
وعلى الجانب الآخر، إسرائيل تُطوِّر صناعتها الجوية ولا تفتأ تترك طائرةً إلا وسعت في إلحاقها بسلاحها، بل تُقيِم تكنولوچيا تطويرية لهذه الصناعة. وهي تُواتِر في التأكيـد على أهمية أمنها القومي، لا سيمــا الجنوب الذي لا تُريِده إسرائيل مرتعًا للوُجُود الإيراني، حيث مرتفعات الجولان، التي لن تتركها إسرائيل تحت أي ظرف وستُمارِس ضغطًا دفاعيًا رادعًا ضد أي تحرُك على مقرُبةٍ من الهضبة السُورية،
ولكن الچنرال الإسرائيلي، رونين إيتسيك، في مقاله على موقع “أن آر جي”، توقّع نُشُوب حربٍ قوية بالمنطقة خلال المرحلة القادمة، تشترك فيها إسرائيل بصورةٍ كبيرة، في ظل السخونة الجارية للبيئة الإقليمية. وأضاف أن إيران تُبدِي استخفافًا بتهديدات ترامب، وأن الولايات المتحدة الأمريكية لم تأخذ أفعال وسلوكيات طهران بالجدية اللازمة، بل استقبلت حماس من جهة، ومن جهةٍ أُخرى زادت من احتكاكها مع إسرائيل بعددٍ من ساحات سُورية، وإيران تُسارع إلى ملء الفراغ الناتج عن تركة الجغرافيا التي خلفها تنظيم الدولة الإسلامية.
منظور تفسيري
إسرائيل لا ترى إيران في الوقت الحالي إلا أنها أصبحت في طريقها للسيطرة على مفاصل الحُكم في اليمن وسُورية، وتُسيطر فعليًا على مقاليد الأمور في العراق، وتذهب ناحية الإحكام من قبضتها على لُبنان.
يذكر تقرير هآرتس ملحوظةً هامة، أن إسرائيل أصبحت تستفيد من صُورتها في العالم العربي كقوةٍ كبيرة، لا سيمـا بعدما متّنت علاقاتها بالعديد من دول العالم العربي وفي القلب منها الخليج وعلى رأسها السُعودية، وأصبحت تُعلِن هذا صراحةً على لسان مسؤوليها ووزرائها، كما أنها استفادت من حالة الزخم وفوبيا التصدي للإرهاب التي انتشرت في بلدان العالم العربي في أنها أصبحت مُدعاةً أو مُستجداةً دومًا من قِبل هذه البُلدان التي تتقرب وتتزلف منها لتُعطيهم عُصارة خبرتها وتكنولوچياتها العسكرية والحربية والمخابراتية وبالتالي اكتسبت شرعية الوجود بعدما كانت المنبوذة التي يُرغَب دومًا في استئصال شأفتها من المنطقة قبل خمس سنوات فقط. بالإضافة إلى ارتفاع وتزايُد الثقـة من قِبل الغرب في القُدرة العسكرية الجديدة لإسرائيل، وكونه على درايةٍ تامة بالتفوق الذي أحرزته العسكرية الإسرائيلية.
ولكن على الجانب الآخر، سنجد أن إيران لم تكن لتترك إسرائيل تهنأ كثيرًا بالعلاقات المُؤصَّلة مع بُلدان مثل السعودية والإمارات ومِصر، فوجدت إسرائيل أن محيطها الإقليمي -المتمثل في لُبنان وسُورية وعلى بُعد فراسخ العراق- أصبح ممهورًا بالعلم الإيراني، وليس فقط هذا، بل أن إيران أصبحت تُريِد إقامة روافد جغرافية وديموغرافية دائمة لها في هذه المناطق. وهذا ما يدفع إسرائيل إلى محاولة تحويل دفة ثقلها العسكري من الناحية الغربية إلى التركيز على بعض الجبهات بقُوة في الناحية الشرقية، وإعادة التوازن لرُمانة ميزانها على الجانبين.
نرى أيضًا أن إيران وأذرُعها، أصبحوا يُصدِّرون خطابًا جديدًا، يُحيِلون فيه أن إسرائيل وجدت ضالتها في التعاون مع البُلدان العربية بذريعة التحالفات المشتركة ضد الإرهاب، وأن التُهمة التي كانت تُلقَى عليها ارتدت في صدر الدول العربية وعلى رأسها السُعودية التي كانت دومًا ترمي إيران بأنها مشروعٌ إسرائيلي يُريِد تفكيك منطقة الشرق الأوسط.
وبالتالي تعمل إيران على تجريد مُناوئيها من الحاضنة المعنوية الشعبية التي كانوا يكتسبونها من قضية أنهم لا يتقبلون المشروع الإسرائيلي في المنطقة ولا يعترفون به، وهذا ما أكدته صحيفة هآرتس نفسها، عندما ذكرت أن “جيران إسرائيل أصبحوا يتخذون وجهاتٍ نظر أقل حِدةً تجاه الأنشطة اليومية المرتبطة بالاحتلال الإسرائيلي، بما في ذلك مقتل العديد من المدنيين الفلسطينيين في جولات الحرب على غزة”.
وتُحاوِل إيران بهذا التغطية على حجم المساعدات التي قدمتها لنظام الأسد لئلا يسقط طوال سنوات الثورة المستمرة حتى الآن، والصُورة السلبية التي وُصِّمت بها عما أحاقته بالشعب السُوري.
الغُمُوض هو الحاكم الذي يكتنف العلاقة الإيرانية الإسرائيلية بسبب النزال في سُورية، إسرائيل ليست لديها نيّة التفريط في هضبة الجولان وستستمر في تأمين هذا المحيط الحيوي، ولن تسمح بإقامة مشروع إيراني على هضبة الجولان، وإيران كما أعدنا وكررنا لا تُريد الخروج من سُورية والتفريط في هذا الكم الهائل من الامتيازات والمُخصّصات التي تحويها سُورية. كما أن الحرب كُلفتها هائلة تقتات على أشياءٍ كثيرة كما أوضح الكاتب البرتغالي الشهير، جوزيه ساراماجو، في روايته ثورة الأرض، وهذا ما يردع البلدان عن الدُخول في معتركٍ سيخسران فيه الكثير مما شيدوه طوال العقد الماضي. ولكن المُستقبل يطوي في صفحاته أحداثًا قد تُبدِّد رؤيتنا هذه.