منذ عِدة أيام احتفل الشيعة بذكرى أربعينية الإمام الحُسين -الصحابي، حفيد الرسول صلّى الله عليه وسلم، الذي عاش في القرن السابع الميلادي، والذي يعتبره الشيعة ثالث أئمة أهل البيت، وأحد القادة الشرعيين للأُمة الإسلامية- في أزِقّة وشوارع دمشق حيث حرم مسجد بني أُميّة، وسُوق الحميدية، وأحياء الأمين والسيدة زينب وزين العابدين، وغيرها من الأحياء والمناطق.
وقد بدا هذا المشهد المُتواتر منذ خمس سنوات بالتقريب -لاسيما وتحديدًا بعد دُخُول إيران مُعترَك الحرب المُستعِرة في سُورية- في دمشق يأخذ صِفتي الديمومة والسيرورة، فقد انتثر الشيعة في سُورية، وصارت احتفالاتهم عيانًا بيانًا للناظرين، وظهر للمُحلِّلين والمُراقِبين أن سُورية تُغيِّر ديموجرافيتها قسرًا على يد المدّ الإيراني الزاحف بأيدلوچيته ومذهبه على منطقة الهلال الخصيب.
الشيعة في سُورية
بدت الحقبة السياسية لدمشق في غاية الجلاء في عصر بني أُمية ( 41ه – 132ه) الذين اتخذوا من دمشق عاصمةً لخلافتهم المُترامية الأطناب، أي أن سُورية كانت تكتسي بمذهب أهل السُنّة والجماعة، ولكن حديثًا بمُرور القُرون، بحُكم الانفتاح والمُماحكات عبر الحُدود وسياسة الاقتصاد وفِقه العولمة وعالم القرية الصغيرة، بدت الأديان والعقائد بل والمذاهب رقمًا صعبًا في مُعادلة السياسة القائمة.
فقد علا نجم الشيعة العلويين في فترة النظام الأسدي في العصر الحديث مُمثَّلًا في حافظ الأسد وولده بشار اللذان كانا ينتميان إلى هذا المذهب، هذا هو الأمر الذي لاقى هوى الدولة الإيرانية التي خرجت لتوّها من ثورتها التي وسمتها بصفة “الإسلامية”، ولم تتوقف عند هذا الأمر بل سعت جاهدةً إلى تصدير مشروعها، ويُعتبر هذا أحد المداخل الهامة لتفسير مدى متانة العلاقة بين الدولتين.
لا تُوجَد إحصائيات دقيقة أو نسب مُثبَتة لأعداد الشيعة في سُورية أو ظاهرة تناميهم فيها. ففي عام 2010، أظهر تقرير الحُرية الدينية في العالم، الصادر عن وزارة الخارجية الأميريكية، أن الأقلية العلوية والإسماعيلية والإمامية الاثني عشرية كانت تُشكِّل ما نسبته 10% و3% على الترتيب أي 13 % من عدد سكان سُورية الذين يبلغ عددهم 22 مليون نسمة.
وهذا الإحصاء يُعتبر قريبًا من إحصاء عام 1985 الذي عدّد نسبة الشيعة بتصنيفاتهم بقُرابة 13 – 17% بأقصى تقدير وقد شًكِّك في هذه الإحصائية. وفي عام 2013، قدّر مركز الأبحاث العقائدية أعدادهم بين 300.000 – 500.000 نسمة، على أبعد تقدير، أي ما هو نسبته 1 – 2 % من مجموع السكان تقريبًا. وأشار تقرير موقع السكينة أنهم يُمثِّلون ما هو مقداره 4 – 4.5 % من السُكان.
مُنعطف الحرب
هذا هو فصل المقال في قضية الشيعة في سُورية، لهيب الحرب المُندلِع من الآتون السُوري أماط اللِثام عن وضعهم وصنع صورةً لحقيقة تواجدهم وتموضعهُم في الداخل السُوري، لاسيما كما أسلفنا عندما دخلت إيران الحرب بقُوات الحرس الثوري الإيراني، والميلشيات التي جندتها من بُلدانٍ عدة كأفغانستان والعراق ولُبنان؛ مُستحِثةً فيهم نِداء “العقيدة” لا سيما الشباب منهم، وقوات حزب الله اللبناني من على الحدود السُورية اللُبنانية.
وظهر ذلك في عِدة صُور، احتفالات الشيعة، وشعائرهم الحُسينية -وأبرزها ذِكرى عاشوراء في العاشر من مُحرم، وذِكرى أربعينية الحُسين في العشرين من صفر، من كل عام هجري- وكذلك الطُقُوس التعبُدية خاصتهم، وانتشار المنشورات والكُتيبات والأعلام الخضراء والسوداء، والتي انتشرت بصُورة عبر عنها السُنّة بأنها “استفزازية” لأنها تدور في مناطق السُنّة نفسها كما يحدث حاليًا في احتفالاتهم المُتكرِّرة عند الجامع الأُموي، بل حتى باب توما المعروفة بمسيحيتها وكنائسها أصبحت مكانًا معروفًا للشيعة ومليشياتهم وغزت صُور الخُميني وحسن نصر الله جُدرانها وأصبحت إحدى مواطن لطمياتهم.
التأمين العسكري والظهير الإعلامي الذي تُوفِّره حكومة النظام السُوري لاحتفالات الشيعة، بل يسمح النظام للمليشيات المُقاتِلة ذاتها بتأمين هذه الاحتفالات في تغييبٍ تام لشكل الدولة السُورية، فينتشر المُقاتِلون المُدجَّجون بمُختلف الأسلحة وحواجز التفتيش الأمنية والدوريات للتأمين؛ حتى أن منطقة السيدة زينب أصبحت بالكامل تحت قبضة حزب الله أيديولوچيًا وتنظيميًا، وفي الاحتفالات الأخيرة كان التليفزيون الرسمي للدولة يُغطِي الاحتفالات ويقُم بنقلها عبر بثِ مُباشِر.
صُورةٌ ثانية، وهي الحُجة التي تنفَذ من خلالها إيران إلى بُلدان الهلال الخصيب بالأخص، وهي المقامات والأماكن المُقدَّسة الخاصة بهم، والتي يتناولونها بالتبجيل والتقدير الشديدين؛ ودمشق مليئة بالعديد من الأضرحة كضريح السيدة زينب، وضريح السيدة سكينة، والعديد من المزارات والحوزات والمقامات والتي سارت إيران تُجيِّش أبنائها لحمايتها.
وعلى إثر هذا كان لا بُد من تأكيد هذا الادعاء؛ فزِيد في عدد الحُسينيات والمقامات والمزارات التي أصبح عددها حتى العام الماضي في سُورية إلى 500 حوزة وحُسينية تكتظ بالآلاف من رجالات الدين الشيعة الإيرانيين وكذلك المُريِدين، عُضِّدت تلك الحركة بفتاوى المراجع الشيعية وعُلماء الدين في إيران من على المنابر وفي أوساط الچُمُوع وعلى منصات التواصل الاجتماعي وعلى القنوات الخاصة بهم للدفاع عنها.
بل وصل الأمر في حالتين اثنتين، إلى نُمو حالات الادعاء بقُدسية أماكن عِدة وأنها تحوي مراقد لأل البيت، الأُولى أن خُبراء إيرانيين زعموا اكتشاف قبر السيدة / سكينة بنت الحُسين في موقعٍ في داريا فاشتروا الأرض وما حولها، وأقاموا حُسينية ضخمة في البلدة التي تُعرَف بسُنّيتها المحضة، والثانية عندما قامت مجموعات بالسيطرة على موقع قُرب دمشق القديمة، وادعوا أنه مرقد للسيدة / رُقية بنت الحُسين، كما ذكر تقرير العربية نت.
صُورة ثالثة، ما يُسميه المُراقبون (مأسسة) التشيُع، عبر تخديم مؤسسات الدولة السُورية على نشر المذهب الشيعي أو إقامة مؤسسات رسمية تعمل على هذا الصدد، وتبين هذا في أكنوبر 2014 عندما أصدر بشار الأسد مرسومًا لوزارة التعليم العالي بتدريس المذهب الاثنا عشري في المناهج الدراسية.
وذكر موقعا إيلاف وميكرو سُورية في تقريريهما، أن جميل الأسد عم بشار أسّس جمعية سماها (المُرتضى) تقُم بتشييع العائلات العلوية الفقيرة بل وبالقُوة في بعض الأوقات في ريفي اللاذقية وطرطوس، بل ووجه بشار وزارة الأوقاف بالاهتمام والدعم للمدارس الدينية الجعفرية؛ كما حدث بتأسيس مدرسة شرعية لتدريس عُلوم الدين وفق هذا المذهب في ريف مدينة جبلة، تحت إشراف وزارة الأوقاف ذاتها ، وهي أول مدرسة تتلقى دعمًا حكومي بصورة رسمية من النظام، بل وقامت وكالة الأنباء السُورية (سانا) بافتتاح قسم باللُغة الفارسية لديه.
صُورةٌ رابعة، مُمثَّلةً في تعبيد الوضع العام لهم في المجالات الاقتصادية والمُجتمعية، فقد أصدر النظام قانونًا بمُصادرة وتأميم مُمتلكات المُناوئين والمُعارضين للنظام تقريبًا في كامل القُطر السُوري بطول مُحافظاته، من عقارات ومنازل ومزارع ومصانع وهكذا دواليك، وتمليكها للمُركّب السُكاني الجديد من قادة وضُباط المليشيات والحرس الثوري وحزب الله بل وحتى الجُنُود برفقة عوائلهم، كما زُوّد هؤلاء ببطاقات هُويّة سُورية جنبًا إلى جنب مع بطاقاتهم الأصلية التي يحملونها معهم من بُلدانهم الأصلية، وتمليك المناطق والعقارات الفارغة -التي هُجِرت من سُكانها نتيجة ظروف الحرب- لهم أيضًا.
وعلى جانبٍ آخر، يُمنَح هؤلاء تسهيلات مُجتمعية عبر بطاقات هُوياتهم التي مثلت ولادة جديدة لهُم؛ فإن تشيع شخصً ما فإن هذا يُفتَّح له أبواب المناصب والتراقي في المناصب الإدارية والرواتب المُغرِية وتوسيع النُفُوذ حتى يصل الأمر إلى تسهيل العُبُور من الحواجز الأمنية والكمائن المنصوبة في أوقات الازدحام،حتى وصل الأمر إلى إعطاء تقييمات مُرتفعة لطُلاب الجامعة الذين يُدوّنون تقارير عن آرائهم وميولات زُملائهم السياسية المُعارضة للنظام وهؤلاء يتعرضون للرُسوب لمُدة سنة دراسية كاملة عمدًا أو الفصل.
رصد تقرير نُشِر على أورينت نيوز، في يوليو 2015، مجموعة أفعال قامت بها السفارة الإيرانية الواقعة على أوتوستراد المزة، فاشترت أراضً كثيرة مُحيِطة بالسفارة ورفعت عليها أعلامها، امتلكت حصصًا في المطاعم والكافتيريات والمراكز المنتشرة على طول طريق الأوتوستراد، مولت جامع الزهراء القريب منها، لم تلبث شُهورًا تمُر حتى أصبحت أرض المزة كاملة تحت قبضة السفارة الإيرانية. وهو نفس الأمر الذي حدث بالنسبة للمركز الثقافي الإيراني الذي سيطر على أراضي نصف دمشق القديمة بدايةً من الجامع الأُموي نهايةً بباب توما والسيطرة على غالبية مُمتلكات منطقة البحصة.
حقيقة التشييع الإيراني لسُورية
أشار المركز الدولي للدفاع عن حقوق وحُريات الإنسان، في أغسطس من عام 2014 أن هُناك 24 فصيل شيعي يُقاتِل في سُورية، كان أبرزها آنذاك حزب الله اللبناني، ولواء أبو الفضل العباس العراقي، وانضم على الخط لاحقًا ميلشيات بدر وقسد، وفيلق القُدس، ولواء فاطميون وغيرها، يُقاتل تحت ألويتها قُرابة 24 ألف مُقاتِل شيعي. مُشدِّدين على أن هذا التعداد حتى عام 2014 فقط.
ذكر الكاتب الصحفي، مارتن شولوف، في تقريره في جريدة الغارديان البريطانية، في يناير من هذا العام، وترجمته مواقع عدة، أن القضية في سوريا، بعد الحرب، ستتخطى قضية من يعيش وأين ومتى، وستتمحور حول من يُحدد الشخصية القومية الجديدة للبلاد.
وبرهن التقرير على حُجية سعي إيران الحثيث وراء إعادة تموضع لمناطق نُفوذ مُوالين ومُريدي الأسد لكي تستطيع أن تُمارِس السيطرة المُباشرة عليها، وأن بقائها في سُورية لن يتم إلا بوُجُود حاضنة شعبية وجماهيرية ضخمة في مناطق النزاع بين دمشق وحمص، والحدود اللبنانية السُورية، وحتى الحُدود الشمالية لإسرائيل؛ وهذا ما دفعها لسياسة الإحلال والتجديد في تلك المناطق وتغيير التركيبة الاجتماعية وفق المذهبية والأيديولوچية العقائدية وهذا الذي ذكرنا أمثلة منه في بعض المناطق في أعلى التقرير.
في ورقةٍ بحثية دُوِّنت بيد الباحث مهند الحاج علي، بتاريخ 4 أيار / مايو 2017، في مركز كارنيجي للشرق الأوسط باسم “انبعاث الشيعة”، أنه منذ عام 2012 والشيعة في سُورية يتطورون على صعيد العمل المؤسسي، بدايةً من إطلاق حركات كشفية خمينية إلى إنشاء سُلطة دينية خاصة بالطائفة، وأن المذهب شهد تبدُلات جذرية.
ننطلق من معلومةٍ هامة أيضًا، ذكرتها جريدة زمان الوصل، مُجتَثة إياها من دراسةٍ ميدانية باللغة الإنجليزية، للباحث الأكاديمي، خالد سنداوي، كانت قضيتها تدور حول “دور الشيعة في سُورية”، ذكر فيها أنه أحيانًا يتم شراء الأرض في سُورية بمليون ليرة للدونم الواحد، في حين أن سعره الفعلي في السوق لا يُساوي أكثر من 50 ألف ليرة!.
ماذا نستنتج إذًا من هذا العرض المعلوماتي؟
واحدةً من المُرتكزات المنهجية والأساسية في سياسة إيران الخارجية هي “الهُويــــــــــــة”، وهذا العامل يأخُذ تجاهُلٌ عن عمد من قِبل باحثين عديدين وتحليلات مُختلَفة ويُستبعَد عند طرحه من الوهلة الأُولى لعدم اكتراثهم أو تقبُلهم فكرة بأن يكون الدين واحد من الأسباب التي تُؤسِس صراعات، قد يكون هذا الاعتقاد صحيحًا نظرًا من قِبلهم؛ ولكن ليس مع إيران.
ونحن لا نُفشِي سِرًا أو نتحدث اعتباطًا عندما نعتبر أن إيران من مصاف الدول التي أسست أو لعبت على فكرة وقضية الهُوية الدينية المذهبية في قاطرة أسباب الحُرُوب أو التدخُل في شُؤون سيادة دُول أُخرى أو علم القُوة الناعمة أيضًا؛ وهي لا تضع استثمارًا أو تُقيِم علاقة سياسية أو اقتصادية أو عسكرية إلا وهي تحصُل على كارت أخضر بالعُبور الثقافي والديني إلى أراضي مع من تُقيِم معه العلاقة، مهما بلغت ضآلة هذا العطاء المُجزَل أو المُقدّم إليها، وهذا أحد أسرار انتشار التشيع في جنوب القارة الأفريقية وشرق آسيا كذلك، وهو كذلك تفسيرٌ منطقي لغاية البذل والجُهد والتضحيات التي قدمتها بصورةٍ هائلة -الذي ذكرناه في كامل التقرير- وتبذله إيران في سُورية لإحلال هُويتها لترسيخ بقائها نهائيًا.
لذلك عبر رئيس العلاقات الخارجية في تنظيم أحرار الشام، لبيب النحاس، قائلًا بالنص: “الحرب مع إيران أصبحت حربًا على الهُويـــة، إنهم يريدون شبه دولة تابعة لهم، تخدم مصالحهم والمنطقة لا تحتمل ذلك أبدًا”.
هذا ما جعل سُورية دمشق، تُصبِح كربلاء جديدة تُحكَم إيرانيًا، وأصل كربلاء مُكونة من مقطعين (كور) و(بلاء) فاستخرجنا الفعل منهما وعنونّا تقريرنا بهذا الاسم.