بدّت إيران ورُوسيا مُستعِدتين للقيام بدورهما الجديد في سُورية ما بعد الحرب حتى أنهما لم ينتظرا مُرور كثيرٍ من الوقت -حتى تهدأ الأوضاع أو ترتسم في الأُفق ملامح المشهد السوري الجديد- لبداية تحصيل نفقات الحرب والمُساعدات التي قدماتاها الحليفتان القويتان لنظام الأسد الذي استطاع أن يُعيِد السيطرة على قِطاعاتٍ كبيرة من المساحات التي سُيطِر عليها من قِبل العديد من التنظيمات المُسلَّحة التي كانت تُناوئه وعلى رأسها تنظيم الدولة الإسلامية الذي دُحِرّ من أبرز معاقلهِ كالرّقة ودير الزور.
في العشرين من أكتوبر الماضي، نشرت مجلة فورين بوليسي الأمريكية، تقريرًا بصدد سيطرة الشركات الروسية والإيرانية واستحواذها على عُقُودٍ ومُكاتبات إعادة الإعمار في البلد المُدمَّر، ذاكرةً أن الهدف الناصِب أمام أعيُنهم هو منطق المال والدولارات التي يُمكَن أن تُكتسَب أو تُحصَّل وراء تأسيس جسر أو إقامة محطة طاقة أو إنشاء مبنى، وأن هذه فُرص مُحتمَلة لعُقُودٍ حكومية وافرة الربح.
سوقُ عُكاظ
أُقيِم للمرةِ الأُولى في دمشق منذ عام 2011، في العشرين من أغسطس الماضي، معرضًا دولي، أُعلِن من خلاله أن البلاد تفتح أبوابها للشركاتِ الدولية مرةً أُخرى -عدا الشركات التابعة للدول التي عارضت نظام الأسد ووقفت في صف الثورة السُورية-.
اشترط النظام من أجل المُشاركة في عملية الإعمار، إلغاء الإجراءات القسرية المفروضة عليه من قِبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي؛ مُستجدِيًا بذلك دُول العالم أن يضعوا أموالهم في إعادة إعمار البلاد.
ذكر التقرير، أن البرازيل قد هرعت لإعادة العلاقات الدبلوماسية بشكل كاملٍ مع سُورية، وإعادة فتح سفارتها في دمشق، كما صرّح وزير الخارجية البرازيلي، ألويسيو نونيس، وذلك بهدف حُصُول الشركات البرازيلية على حصةٍ من عقود إعادة الإعمار هُناك، وقد ظهر مُبتدئ هذه الأُلفة بين البلدين في مارس الماضي عنددما بيّنت غُرفة تجارة دمشق أن بواخر البرازيل المُحمَّلة بالسُكر والذُرة ووالشعير والبُن بإمكانها العودة ببضائعٍ سُورية إلى البرازيل.
والصين التي حصلت على الضُوء الأخضر للدخول في عملية إعادة الإعمار بعدما نالت الموافقة المُضمّنة في تصريحات وزير خارجية النظام السُوري، وليد المعلم، الذي رحب بمُشاركة الصين الفعالة في هذا الإطار، وهذا ما لاقى هوى لدى الصين.
ولكن وقفت الكُتلة الأغلب على الجانب الآخر المُتمثِلة في دول الغرب والخليج مُعبِرين عن عدم رغبتهم المُشاركة في عملية إعادة الإعمار إلا إذا ضمّنت روسيا تسويةً للنزاع تضمن انتقال السُلطة، وقد نشرت جريدة العرب، تقريرًا في أكتوبر الماضي، عن استطاعة موسكو الحُصُول من السُعودية على وُعودٍ قوية بالمُساهمة في إعادة إعمار سُورية ولكن كان هذا قُبُولٌ مشروطٌ مفادهُ أن الرياض لن تضع ريالًا واحدًا لكي يصُب في النهاية في جيب إيران ومليشياتها، وأن سُورية الجديدة لا بُد أن يكون فيها حكومة ونظام جديدان يُحقِّقان الاستقرار والتفاهُم مع كل مكونات الشعب السُوري.
وكان قد صرّح مستشار الأمن القومي الأمريكي، هربرت ماكماستر، في فعاليةٍ عُقِدت في أُكتوبر الماضي، أنه لا بُد من منع إنفاق ولو دولار واحد في إعادة إعمار أي شيء يخضع لسُلطة نظان الأسد. كما أن وزير خارجية بريطانيا، بوريس چونسون، صرّح أن بلاده هي الأُخرى لن تُدعّم عملية إعادة إعمار سُورية إلا بعد حُدُوث انتقال سياسي بها.
مُكافأة المُوالِين
هذا العُنوان الجانبي أُدرِج في تقرير لموقع ميدل إيست آي البريطاني، حول المُستفيِدين والخاسرين في عملية إعادة إعمار سُورية، في أكتوبر الماضي، ذكر التقرير إن من المُرجَّح أن الأطراف الأجنبية ذات المصالح الخاصة في سوريا، والجهات الفاعلة الإقليمية سيغضان الطرف عن عدم المساواة في توزيع أموال إعادة الإعمار، حمايةً لمصالحهم التجارية.
كما قام رجال الأعمال السوريون، من النُخبة السياسية المحسوبة بالطلع على النظام الأسدي ، في تشكيل شركاتٍ جديدة تسمح لهم بالتواجد بشكلٍ إيجابي في عمليات التعاقُد ضمن مشاريع إعادة الإعمار.
- روسيا
نشرت جريدة فايننشال تايمز البريطانية، في فبراير الماضي، تقريرًا حول دعوة روسيا للقُوى الدولية للمشاركة في إعادة إعمار سُورية؛ عبر ضخ مليارات الدولارات في البلاد.
حتى أن دُبلوماسي غربي صرّح للصحيفة،أن روسيا تُفسِد الأُمور فهي تُحطّم وتُريد الآخرون تحمُل تكلُفة الإصلاح والتشييد،
يذكر تقرير الفورين بوليسي، أن روسيا في أبريل الماضي وقّعت عُقُودًا لإنشاءات في البنية التحتية وغيرها تصل قيمتها لمليار دولار، وقد قامت فِعليًا شركتان تابعتان للكرملين في بدء نشاطهما في التنقيب عن النفط والغاز والتعدين، بالإضافة إلى انتواء البلدين إنشاء بنك مُشترك لتسهيل التعامُلات المالية بين البلدين.
- إيران
الحليفة الأبرز، والتي بذلت حِدها وحديدها في تثبيت دعائم نظام الأسد، ومدّهُ بالقوات والجُنُود والمُؤن والمُعدات، والظهير السياسي والتعاون الاقتصادي الذي يُقدَّر بقيمة 35 مليار دولار سنويًا على شكل قُرٌوض، بل وجنّدت الآلاف من أبناء شعبها في إطارِ حرب جهادٍ مُقدَّسة ضد أطراف النزاع المُناوئِة لنظام الأسد، لاسيما تيارات السلفية الجهادية، بل وحرّكت أذرُعها على الحُدود السُورية اللبنانية المُمثَّلة في تنظيم حزب الله اللبناني لفتح جبهة قتالية جديدة تضغط أكثر على مُناوئي الأسد، ودفعت بخِيار جُنودها وقادتها من أقوى تنظيم تمتلكه وهو الحرس الثوري الإيراني لآتون الحرب المُستعِرّة.
ففي مطلع هذا العام، وقّعت شركات إيرانية مرتبطة بالحرس الثوري الإيراني صفقات إعادة بناء لشبكات الهاتف، والمناجم. كما وقعت شركات إيرانية خلال شهر سيتمبر الماضي، مجموعة من العُقُود الأولية لبناء محطاتٍ جديدة لتوليد الطاقة والكهرباء في عددٍ من المدن السورية، من بينها حلب وحمص، وقد صرّح مسؤولون نفطيون إيرانيون أيضًا أن بلادهم سوف تُنشِيء مِصفاةً للنفط في سوريا.
وتسعى إيران لإبقاء هيمنتها على مناطق شمال الشرق الأوسط المُمتَّدة من لُبنان عبر سُورية والعراق إلى حدودها ذاتها، وبالتالي تُصبِح لها إمكانية إنشاء خطوط أنابيب نفط تمتد إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط وكذلك تأسيس طرق للتجارة وطرق سريعة ومسالك للحج، كما أكد الخبير في الشأن السوري والأستاذ في جامعة أوكلاهوما، جوشوا لانديس، في حديثهِ مع وكالة BBC.
عقبات على طريق إعادة الإعمار
تتضافر مُسبِّباتٌ عِدة على طريق عدم إعادة الإعمار مرةً أُخرى، يأتي على رأسها ارتفاع حجم تكلُفة أو تمويل إعادة الإعمار في البلاد وقد قُدّرت التكاليف بقُرابة 250 مليار دولار حسبما أكد مركز دمشق للأبحاث والدراسات “مِداد” في ورقته البحثية “تمويل إعادة الإعمار،،، الاحتياجات والمصادر المُحتمَلة“، بينما أكدت مصادر خارجية أن البلاد تحتاج لقُرابة 300 – 350 مليار دولار لإعادة الحياة لبُناها التحتية في قطاعاتٍ عِدة كالعقارات والصِناعة والخدمات العامة والنقل والزراعة والاتصالات، بالإضافة إلى طول مُدة الإعمار التي لن تقل عن 10 سنوات.
في فلك هذا العامل يدور مُسبِّب آخر، وهو عدم قُدرة الحليفتين روسيا وإيران على القيام بأعباءٍ التكلُفة وتحمُل النفقاتِ وحدهما، إذ أنهما قدما إلى سُورية من أجل تحقيق الاستفادة في المقام الأول لا الدفع مُجددًا، وهذا ما دعا روسيا كما أسلفنا إلى توجيه النِداء إلى دول العالم للدخول إلى سُورية للحُصول على عُقُود والمُساعدة في عمليات البناء.
بالإضافة إلى عدم وُجُود بيئة سياسية مُستعِدة لإقامة إعمار في الوقت القريب في سُورية التي لم يتبقى فيها إلا سدنة نظام الأسد ونُخبهِ ومُؤيديه وأتباعه وبالتالي فلا تُوجَد عملية سياسية بالمرة، ويُوضّح الكاتب الصحفي، فايز سارة، في مقاله على جريدة الشرق الأوسط، أن الهدفَ من هذا هو تحقيق انتصارٍ سياسي للنظام وأنه يُريد أن يُرسل رسالة ضمنية مفادها أنه انتصر والقضية السُورية وصلت لنهايتها وأنه قد تم دحر قُوى الإرهاب والتطرُفل وعادت الحياة إلى ما عليها. وأصبح على الجانب الآخر مدى التصدُع والتداعي في صف المُعارضة السياسية السُورية يفوق انهيار البيئة السياسية للنظام ذاته بعدما أزاحوا جانبًا بالملف العسكري ليخسروا ورقة هامة، ثم ليجلسوا على طاولات المفاوضات ويتنقلوا بين چنيڤ والأستانة فتزداد حجم خسارتهم، بالإضافة إلى عدم وحدة الصف وتعدُد البرامج ليتسع حجم خسارتهم أكثر وأكبر.
يأتي أيضًا من الأسباب المُفضِية لعقبات إعادة التعمير، ما نستطيع أن نُسمّيه “أن الحرب لم تضع أوزارها” فهُناك استمرار للقتال والنِزاع العسكري حتى اللحظة في الأراضي السُورية، مازالت هُناك أراضٍ لم تستطع القُوات السُورية السيطرة عليها، ما زالت هُناك جيوب ومُقاتِلون فُرادى لتنظيم الدولة في مناطق مُختلفة حتى بعد سيطرة قوات النظام السُوري على دير الزور الشرقية آخر معاقل التنظيم الحضرية في سُورية، وما زالت أيضًا الألوية والتنظيمات الجهادية تُناوئ قوات النظام السُوري وعلى رأسها هيئة تحرير الشام التي مُبتناها على مُقاتلي تنظيم القاعدة “جبهة النُصرة” سابقًا، وما زال عشرات الآلاف من مُقاتلي الميلشيات التابعة لإيران على الأرض، والقصف الرُوسي جوًا وليست هُنالك ثمة دولة تبتغي وضع استثماراتها في مناطق غير مُستقِرة عِوضًا عن أنها قابلة للتدمير في أي لحظة.
سببٌ خامس، ألا وهو، غياب القُوى العاملة التي ستُؤسِّس هذا الإعمار، فسُدس السُوريين المُمثليِن بقُرابة 6 مليون هُم في بلاد اللهِ سُكانٌ وقد تشرذموا وتمزقوا في الأردن ولبنان وتُركيا وهي البلاد المُجاوِرة التي لجأوا إليها فِرارًا من لهيب الحرب، بالإضافة إلى مئات الآلاف الذين قضوا نحبهم تحت نيران نِظام الأسد الدموي وأعوانه، وأضعافهم جرحى ومُعاَقون، ويُصبِح النظام تحت نيّر طلب العمالة الأجنبية للقيام بهذه المشروعات مما يجعل الكُلفة الضعف.
سببٌ سادس وأخير ، وهو يدخل مع السبب الخامس بل وينسفه، وهو أن نظام الأسد لن يُدعَّم المناطق التي خرجت ضده في الثورة، وسيُهمِلها عمدًا كما أكد تقريري الفورين بوليسي وميدل إيست آي، وأن الجُهُود ستُركّز على إحياء المناطق المُوالِية لنظام الأسد ومن والاه، وهذا ما سيُؤدِي إلى تغيير التركيبة الديموغرافية بالتأكيد في البلاد بأكملها، وقد أصدرت العديد من منظمات الإغاثة ومنها، منظمة أوكسفام، ومنظمة أنقذوا الأطفال، ومنظمة كير الدولية، بيانًا مشتركًا في ربيع هذا العام، أشاروا فيه إلى أن “المشاركة في مساعي إعادة الإعمار، ضرره أكبر من نفعه” إذا ما طُبِّق وفق رؤية الحكومة السورية التي لا تحترم حقوق الإنسان.
على هذا المنوال نستطيع أن ننسج إن الإعمار لن يكون حقيقة طالما تضافرت هذه القنوات لتُوجِد إجابة على تساؤُلات مُتعدِّدة، وسنجِد أيضًا أن روسيا وإيران لا يهمهما الجانب الچيوسياسي فقط بل يُريِدان ظهيرًا اقتصاديًا وماليًا، ويُريِدان أن يُحققا رُسُوخً أبدي في سُورية وكُلٍ يُغني على ليلاه ولمصالحهِ، لا اهتمام لأي شيءٌ آخر ولا عِبءْ بأي حدث آخر ، لا لسيلان الدماء وخراب الديار وضياع سُورية على مُفترَق طُرق ولا نُور في الأُفق القريب لسُورية ما بعد الحرب سوى منطق المصالح والدولارات للدول ذات المصلحة، وأن هُناك رقصًا على الدماء من جانبٍ آخر.