في الــ29 من أغسطس / آب من عام 2015، نشرت كاميليا صادق زاده، المُحررة في خدمة BBC الفارسية، تقريرًا موسَّعًا عن ذوي الاحتياجات الخاصة في إيران، وخصت بالذكر حالة منها وتناولتها بالعرض والتحليل، كانت هذه الحالة هي مارجان كالاناكي، وهي شابة إيرانية تبلغ من العمر 31 عامًا، وتدرس حاليًا (2015) علوم الكمبيوتر للمرحلة ما بعد الجامعية، في العاصمة البريطانية لندن.
كانت هذه الفتاة تصف مدى سوء الحالة التي كانت تحياها عندما كانت في طهران، حتى وصلت إلى حد أنها ذكرت أن استيقاظها صباحًا في طهران، هي مرحلة مَخاض فكري لوضع خُطة لمواجهة هذا التحدي الصعب، ومحاولة الذهاب إلى مكانٍ ما، حتى قالت للمُحررة نصًّا: “أحيانًا كنت أقول لنفسي من الأفضل لو كنت ميتة”.
قصةٌ أُخرى أُضيِفت إلى التقرير، وهي قصة شاب يُدعَى “هادي”، وقد فقد يديه وإحدى عيناه، عندما كان يبلغ من العمر 15 عامًا، حينما داس على لُغمٍ أرضيّ في مزرعة عائلته. وقد قال للتقرير: “لقد حبست نفسي بالمنزل طيلة ثمانية سنوات”، مُضيِفًا: “لكني أدركت أنني بعزلتي أُروِّج للموقف المتعالي لعموم الناس إزاء المعاقين أمثالي”.
الحكومة: الخصم والحكم
بوصولنا إلى العنصر الأكثر تعقيدًا، المُمثَّل في النظام الإيراني نفسه، وعن ماهية تعامله مع قضية ذوي الاحتياجات الخاصة في بلاده وجمهوريته التي تعج بذوي الاحتياجات الخاصة من شتى فئات وأنواع الإعاقات.
- أولًا:
الدولة لا تُعطِي أرقامًا صحيحة عن أعداد ذوي الاحتياجات الخاصة الموجودين على أراضيها، ودومًا ما تصدر أرقامها بصُورة تَنُمْ على أن الدولة لا تُلقي بالًا بهم حتى لو أبرزت النقيض، أو تُعطِي هذه الضبابية الرقمية فرضية أُخرى وهي رغبة نظام الجمهورية في عدم إبراز صورةٍ مُنكرةٍ له، من أنه لا يقوى أو لا يفعل شيئًا تجاه هذا القطاع مما سيُوصِمه بصفاتٍ شديدة السوء من قِبل النظام العالمي والإنساني والحقوقي؛ وهذا مما سيُسهِهم في تحطيم صورة إسلامية النظام أكثر فأكثر.
فوفقًا للأرقام التي أعلنها وزير العمل والرعاية الاجتماعية، علي ربيعي، في خطابٍ له عام 2014، فتُقدر أعداد ذوي الاحتياجات الخاصة في إيران بـــــ3 ملايين شخص، ومن بين هذا العدد نحو 700 ألف شخص تحت عمر 25 عامًا، ونحو 400 ألف شخص من قدامى المحاربين، الذين أُصِيبوا خلال الحرب الإيرانية العراقية. ولكن نشطاء في مجال الدفاع عن حقوق المعاقين يقولون إن عدد الإيرانيين الذين يعانون من إعاقات أقل حدة، ربما يصل إلى عشرة ملايين شخص، وقد كان هذا الحديث عام 2015، ونحن نجد أن تقرير هيومن رايتس ووتش يُصرِّح بأن عدد ذوي الاحتياجات الخاصة وصل إلى 12 مليون نسمة.
- ثانيًا:
في ديسمبر / كانون الأول 2013، كشفت إحصائية ذكرتها لجنة مَعنية بذوي احتياجات الخاصة في إيران، عن تزايد أعدادهم لتبلغ يوميًا 110 أشخاص في اليوم، مشيرة إلى أنه يصل شهريًا إلى 3300.
ولكن العدد لم يكُن هو مثار الانتباه، لاسيما أننا عرّضنا به في أكثر من موضع، ولكن التقرير أشار إلى أن حالات الإعاقة التي تقع يوميًا سببها عوامل مختلفة، أبرزها “حوادث الطرق والأمراض”، أي أن الدولة هي اليد المسؤولة والرئيسة في تعاظُم حجم هذه الإعاقات والتسبُب فيها، فانهيار مرفق الطرق وعدم العمل على إصلاحه وارتفاع معدلات الحوادث الواقعة عليه خلَّفت ورائها أعداد من القتلى، ومن نجا منهم أصبح رهين الإعاقة في دولةٍ لا تخدمه ولا تُقلِّل من حجم إصابته بل تُزيِد الأُمور سوءً عليه.
لاسيما أن هذه الحوادث تُخلِّف إصابات مختلفة ومتفاوتة، فقد ذكر الباحث الاجتماعي الإيراني، مجيد أبهري، عام 2013، أن 500 ألف من جملة ذوي الاحتياجات، عام 2013، من المكفوفين أو لديهم ضعف في البصر، و500 ألف آخرين إعاقتهم بسبب الصم، ومليون ونصف إعاقتهم حركية، و500 ألف لديهم إعلاقات مختلفة ومتفاوتة.
سببٌ آخر ولم يكن محل تناول في التنامي العددي لأعداد ذوي الاحتياجات الخاصة، وهو الأعداد غير الطبيعية من المقاتلين الذين يُجنِدهم النظام من أبناء شعبهِ لا سيما من قطاع الشباب، ويُطلِقهم على جبهات الحرب في العديد من البُلدان، ويخوضون معارك ضارية ويعودون منها إما مُحمَّلين في نعوشٍ أو مُصاَبين بإصاباتٍ أخرجتهم عن الحالة الجسدية الأولى التي كانوا عليها.
- ثالثًا:
الحكومة لا تُفعِّل بنود الاتفاقيات والبروتوكولات التي تُوقِّع عليها بصدد هذا الأمر الخاص بذوي الاحتياجات الخاصة والحفاظ على حقوقهم.
عام 2009، قد صادقت إيران على “الاتفاقية الدولية لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة”، والتي تحظر التمييز وتضمن حق ذوي الاحتياجات الخاصة في العيش باستقلالية وإدماجهم في المجتمع على قدم المساواة مع الآخرين. وأن على الحكومات أن تتأكد من إمكانية الوصول إلى البيئة المادية والخدمات المقدمة للجمهور على قدم المساواة.
وفي عام 2014، وقعت إيران على توصيات تقرير الأمم المتحدة، بشأن أحكام الإعاقة في إيران. وقد دعا التقرير، الذي قادته الكويت وسيريلانكا وإندونيسيا، إلى دعمٍ أفضل من جانب الدولة للمعاقين، ومزيد من الدمج والتوعية وتحسين سبل التحاقهم بالتعليم.
آنذاك سادت حالة من السعادة في أوساط النشطاء العاملين في مجال حقوق ذوي الاحتياجات الخاصة، وقد فُسِّرت هذه الحالة بأن الدولة الإيرانية أصبحت تُقِر بمسؤوليتها تجاه الأشخاص ذوي الإعاقة، لكنهم يتسائلون ما إذا كانت إيران ستفي بتعهداتها قبل التقرير القادم عام 2018.
وقد أتت الرياح بما لا تشتهي أنفس العاملين في المجال الحقوقي، ولم يتغير شيء منذ عام 2014، بل منذ عام 2009، رُغم التواتر الدائم من قِبل الدولة بأنها تبذل بذلًا وجهدًا دؤوبين لتهيئة المناخ لذوي الاحتياجات الخاصة لديها، ففي مارس/ آذار من عام 2015، خصصت الحكومة الإيرانية خمسة ملايين دولار، لجعل الطرق والأرصفة في طهران أسهل استخدامًا، وأكثر أمانًا بالنسبة للمعاقين.
وفي مارس / آذار من هذا العام، اتخذت الحكومة بعض الخطوات لضمان حقوق الأشخاص من ذوي الاحتياجات الخاصة. بدأت وكالة وطنية تقييم الوصول إلى المباني العامة. كما اعتمد البرلمان قانونًا جديدًا لذوي الاحتياجات الخاصة يرفع معاشاتهم، ويوسع نطاق تغطية التأمين إلى خدمات الرعاية الصحية المتعلقة بالاحتياجات الخاصة. ولكن أظهرت هيومن رايتس ووتش أن القانون الجديد لا يحظر التمييز صراحةً. فتظل القوانين والسياسات الأخرى تمييزية ويشمل بعضها لُغةً مهينة، مثل “المتخلفين عقليًا”، و”المشلولين”، و”المجانين”.
كما تقر منظمة الرعاية الحكومية الإيرانية بالدور الحيوي للتعليم في دمج ذوي الاحتياجات الخاصة في المجتمع؛ غبر تخصيص 90 في المئة من رسوم التعليم الجامعي لهم.
وعلى صعيد التوظيف؛ فتقول الحكومة الإيرانية إن كل المؤسسات، التي تتلقى تمويلًا من الدولة، عليها أن تُوظِّف ثلاثة في المئة من إجمالي عدد العاملين بها من ذوي الاحتياجات الخاصة، وهذا لم يدخل إطار التحقيق أو التنفيذ، ولا تُخرِج الحكومة أرقامًا حقيقية لمعرفة ما إذا كانت هل ما تدعيه في هذا الصدد حقيقيًا أم لا.
تقييم الوضع
يظل الوضع الخاص بذوي الاحتياجات الخاصة في إيران، دون المستوى بشكلٍ هائل، ليس فقط بسبب عدم إدراجهم في السُلَم التوظيفي بعدما اشتكي الكثيرون منهم من أنهم يتم استبعادهم، خلال اختبارات الصحة العامة التي يجريها أصحاب الأعمال، حتى ارتفع معدل البطالة بينهم بثلاثة أضعاف معدل البطالة العام في البلاد، فيعاني 40 في المئة منهم من البطالة؛ وهي نسبة قديمة.
وليس بسبب أيضًا، ضعف التعليم في أوساطهم نظرًا لقلة عدد الأطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة الذين يلتحقون بالتعليم الأساسي في إيران، وهو الأمر كشفه صندوق الأمم المتحدة لرعاية الطفولة (اليونيسيف)، حتى يُقال أن الأطفال من ذوي الاحتياجات ليس لهم مدرسة.
ولا التدني غير الطبيعي في مستوى الخدمات المُقدَمة على الجانبين الطبي والمواصلات العمة، وحجم المعوقات التي يتعرضون لها فيها، وتُزيد من حجم شعورهم بإعاقتهم.
فرُغم بشاعة كل ما قدمناه فيما سبق إلا أن سياسة الإقصاء، والإحجام عن إدماجهم في المجتمع، بالإضافة إلى العِبء النفسي الداخلي، تُزيِد من حجم إصابتهم وتدفعهم للامزواء بعيدًا عن أعيُن الناس في مجتمعهم الذي لا يقبلهم بصُورةٍ أو بأُخرى، فقد قالت مارجان لبي بي سي: “الإيرانيون ليسوا معتادين على رؤية المعاقين في الشوارع، وعندما يرونهم لا يعاملونهم بطريقة جيدة”. مُضيفةً قائلة: “واحد من أكثر الأشياء مضايقةً هو “النظرات”. فالناس ينظرون إليك ويقولون لك شفاك الله وعافاك”. كما أن الأشخاص ذوو الخلفية التقليدية والمحافظة يرون في الإعاقة محنةً دينية، يمكن شفاؤها عبر الدعاء.
إذًا فهُناك ثمة بشاعة نفسية مجتمعية لا يتم حلحلتها، تُصدَّر لهذا القطاع بأنهم عِبءٌ ثقيل على مجتمعهم ووطنهم، ولا بُد أن تضطلع الدولة بذلك، فالوصم الذي يتعرضون له من وصفهم بالمجانين، والمشلولين، هو أشد نكايةً وأعظم تأثيرًا من إصابتهم الفسيولوچية.
ومن ثمَّ سيُصبح على عاتق السلطات الإيرانية تعديل القوانين والممارسات التمييزية على الفور، وتفعليها، ووضع خطة واضحة لجعل الخدمات العامة والتسهيلات متاحة لذوي الاحتياجات الخاصة.
كما أن على الحكومة أن تصدر على الفور بيانات على أعلى مستوى مفادها أن التمييز ضد ذوي الاحتياجات الخاصة لا مكان له في إيران، وأن تضع خطة واضحة ومحددة زمنيًا لضمان وصول ذوي الاحتياجات الخاصة إلى وسائل النقل والخدمات الاجتماعية والرعاية الصحية”.
ويقول هادي قائمي، المدير التنفيذي لمركز حقوق الإنسان في إيران: “على الحكومة الإيرانية أن تضمن وصول أصوات ملايين ذوي الاحتياجات الخاصة بشكل صحيح، ومعاملتهم كأعضاء نشطين ومتساوين في المجتمع، لا كأشخاص أهل للصدقة وللشفقة”.
ونهاية، فزهرة صديقي، وهي امرأةٌ إيرانية كادحة من ذوي الاحتياجات الخاصة. وُلِدت بإعاقة في قدميها ولم تتمكن من السير بصُورةٍ طبيعية، أصابها الإحباط لعدم استطاعتها ممارسة أشغالها الحياتية اليومية.
فقررت صناعة دراجة نارية ملائمة لاحتياجاتها اليومية ومناسبة لحجابها الفضفاض.
“اتخذت قراري حين شعرت بالعجز، لا أستطيع أن أستقل حافلة المواصلات العامة، ومن المستحيل أن تتوقف سيارة أجرة لسيدة معوقة في إيران فقررت تصنيع دراجتي النارية الخاصة” هكذا قالت زهرة. وأضافت: “لم تستطيع أمي أن تتركني أذهب إلى المدرسة بمفردي بسبب قلة وسائل المواصلات”.
وتحكي زهرة، أنه لا يُوجَد قانون رسمي يمنع السيدات من استقلال الدراجات النارية، ولكن يرفض القائمون على الخدمات المرورية منح رخص القيادة للنساء، فذهبت إلى ضابط مرور وتوسلت إليه كي يوافق أن يجيز لها القيادة عن طريق استخراج رخصة قانونية، ووعدها بأن يفعل كل ما في وسعه لتفهمه حالتها، ولكن أفادها بأنه لا يمكنه أن يجيز القيادة لها مع بالغ أسفه.
ورُغم ذلك فقد استمرت في استخدام دراجتها النارية منزلية الصنع للذهاب إلى الأماكن البعيدة عن منزلها تاركة ورائها كرسيها المتحرك المحطم.
زهرة هي قصة كل ذي حاجة خاصة في إيران، ونموذج منها، فهل يتوفر لكل المنخرطين في هذا القطاع الإرادة والصُمود والقُدرة على التحدي المتوفرين في زهرة، أم أن المجتمع ونظام الحكم هُناك قد حطَما كل أملٍ في نُفُوس هؤلاء على خوض حياةٍ طبيعية، وهم ليس مطلوب منهم أن تتوفر لديهم كل هذه الخصائص النفسية الإيجابية بل أن واجب الدولة أن تُشيِّدها في أنفسهم عوضًا عن إزهاقها.
المصادر