في السابع عشر من يونيو / حزيران الماضي، عشية يوم الأحد، استهدفت طائرة مجهولة الهُوَّية مقرًا لقوات «الحشد الشعبي» الشيعية العراقية في منطقةٍ حدودية في شرقي سُورية، بالتحديد في البوكمال.
أتت الغارة على 22 مقاتلًا من أفراد القوة فأردتهم قتلى، وأصابت 12 آخرين، وقد أصدرت هيئة الحشد بيانًا إعلاميًا تتناول فيه الهجوم الذي تعرضت له قواتها، والذي وجهت فيه أصابع الاتهام صوب الطيران الأميركي الشريك في قوات التحالف الدولي لمحابة تنظيم الدولة الإسلامية والقضاء عليه.
وأضاف البيان أن الطائرة استهدفت مقرًا ثابتًا لقطعات الحشد الشعبي من لوائي 45 و 46 المدافعة عن الشريط الحدودي مع سُورية بصاروخين مُسيِّرين، مطالبةً الجانب الأمريكي بـــ”«صدار توضيح بشأن ذلك، خصوصًا أن مثل تلك الضربات تكررت طيلة سنوات المواجهة مع الإرهاب».
وتابع البيان أن قوات الحشد الشعبي موجودة على الشريط الحدودي منذ انتهاء عمليات تحرير الحدود، حتى هذه اللحظة بعلم العمليات المشتركة العراقية، وأن طبيعة المنطقة الجغرافية كون الحدود أرضًا جرداء، فضلًا عن الضرورة العسكرية هي التي أفضت إلى وجود الحشد في هذه المنطقة، كما أن القوات العراقية تتخذ مقرًا لها شمال منطقة البو كمال السورية، والتي تبعد عن الحدود 700 متر فقط، وهذا التواجد بعلم الحكومة السورية والعمليات المشتركة العراقية.
وقد رأت هيئة الحشد أن الضربات جاءت كمحاولةٍ لتمكين العدو من السيطرة على الحدود، بعد أن قدمت القوات العسكرية من جيش وقوات حدود وحشد التضحيات لتحرير هذه المناطق وتطهير الحدود، على حد زعمهم.
من المُستهدِف؟
من الوهلة الأولى ساد اعتقادٌ عام بأن هذه الطائرة مجهولة النسب والانتماء، ولكن لم تمُر سُويعات حتى علت على السطح أصاب تُشيِرُ للعديد من الأطراف.
الحشد اتهمت وبشكلٍ صريح الولايات المتحدة الأميركية بأنها من تسببت في الهجوم، قبل أن يصدر بيان من قِبل قيادة العمليات المشتركة العراقية إن الغارة الجوية لم تستهدف أي قوات داخل حدود العراق، متبرأةً من القوات التي تعرضت للقصف الجوي داخل الأراضي السورية، وأكدت أن قواتها تتواجد على الحدود مع سورية، وليس داخل الأراضي السورية وأنها لم تتعرض لأي اعتداء أو ضربات جوية.
وقد نفى مسؤول أمريكي في حديثٍ لشبكة «CNN» الأمريكية تنفيذ التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة غارة بالقرب من مدينة البوكمال السورية بمحافظة دير الزور.
وقد تعالت وتيرة الاتهام ووُجِّهت إلى التحالف الدولي هو الآخر، قبل أن يتبرأ كما قدمنا من الهجوم أو تبييت نيّته.
العراق أيضًا نالته خائنة الأعين، والتي لم ترتقِ لدرجة الاتهام،لا سيما وأن الخلافات تستعر في بغداد حول هذه الغارة، وكانت قد أصدرت وزارة الخارجية العراقية بيانًا نددت فيه بما سمّته «استهداف المقاتلين داخل سورية»، معتبرةً أنه دعم لتنظيم الدولة الإسلامية، ومساعدةً له.
وقد نقلت صحيفة العربي الجديد، عن مسؤولٍ عراقيٍّ بارز، يعمل موظفًا في مكتب العبادي، وعن قوع خلافات حادة بين رئيس الوزراء وقيادات الحشد الشعبي حول هذه الحادثة.
وقد فتحت أو أعادت هذه الضربة الجوية، وفقًا للمسؤول، أحد أبرز ملفات الخلاف بين رئيس الوزراء وقيادات الحشد الشعبي، للواجهة مرة أُخرى، وهي رفض العبادي انتقال قوات الحشد إلى سورية أو تقديم أي دعم لنظام الأسد.
وتابع هذا المسؤول، أن وزير الخارجية العراقي، إبراهيم الجعفري، كان “مجاملًا” لقوات الحشد الشعبي معتبرًا أنه تصرف وفقًا لمصالحه الحزبية والشخصية، ومجاملةً للجانب الإيراني بالدرجة الأولى.
ولكن المسؤول الأميركي الذي قدمنا تصريحه، أشار بشكلٍ مباشر إلى إسرائيل وطيرانها الذي حلّق فوق سماء البوكمال وصب نيرانه وصواريخه على الحشد وعاد لقواعده بأراضيه المُحتَلة سالمًا.
الموقع
المقر الثابت الواقع على الشريط الحدودي الشريط الحدودي مع سورية، تحديدًا في مدينة البوكمال التابعة لمحافظة دير الزور. وقد كان المقر يحوي عناصر غالبيتهم من مليشيا «كتائب حزب الله» العراقية، ومسلحين من مليشيا «الخراساني» و«النجباء»،حتى أن أحد أبرز القتلى في الغارة الجوية هو المدعو سيد راضي، ونجله رضا.
وقد كان المقر مركز رصد استخباري مُعتمَد من قِبل ما يعرف بالتحالف الرباعي، خلال الاجتماع الأخير، الذي جرى ببغداد.
وكان يضم الموقع أجهزة اتصالات وتبادل معلومات، ومركز مراقبة بالطائرات المسيرة، ثم تحول إلى موقع استخباري رئيس داخل غرفة التحالف الرباعي الروسي الإيراني العراقي السوري، ويشترك فيه ضباط من الاستخبارات السورية والفرقة الرابعة بقوات النظام، لكنه أيضًا كان يضم مسلحي فصائل عراقية تساند النظام، وهذا على حد تصريحات المسؤول العراقي من مكتب العبادي.
تُشيِر بعض البيانات أن أعداد القتلى تجاوزت العدد المُعلَن من قِبل الحشد الشعبي، وأن ثمة ضربة قاصمة قد وُجِّهت إلى هذا المقر، لا سيما أن الأخبار الواردة من مدينة النجف، حيث محَط جثث قتلى الهجوم، ومستشفى الشعلة، الكائنة شمال غربي بغداد، حيث مَحط علاج المصابين، كانت تُظهِر أن عدد القتلى الكلي من العراقيين والسوريين تُقدَّر بأكثر من 60 قتيلًا وجريحًا.
إسرائيل تُحلِق
كانت الأصابع الأميركية تُشير بقوة إلى إسرائيل، وتُؤكد أن سلاح الجو الإسرائيلي هو الذي أخذ بزمام المبادرة وقام بالفصف السريع دون تدارُك من قِبل الجهة المُستهدِفة.
فجنبًا إلى جنب شهادة المسؤول الأميركي الذي صرَّح لشبكة CNN أن إسرائيل هي من نفّذت الهجوم، فقد نقلت وكالة الصحافة الفرنسية عن مسؤولٍ أميركي آخر أن الولايات المتحدة لديها أسباب تدفعها للاعتقاد بأن إسرائيل هي التي شنت الغارة في بلدة الهري، في مدينة البوكمال شرقي سوريا.
كما قد نقل تلفاز الحرة الأميركي الناطق بالعربية، عن مسؤولٍ حكوميٍ أميركي ثالث قوله: «الغارة الإسرائيلية استهدفت مجموعات موالية لإيران”، مضيفًا أن هناك إصرارًا إسرائيليًّا على قطع الطريق التي يرغب الإيرانيون في فتحها من طهران إلى بيروت».
كانت الأدلة كلها تؤكد أن إسرائيل حلّقت بطيرانها فوق الأراضي السُورية بحُريةٍ تامة كعادتها، ووجّهت ضربةً استباقية ضمن عقيدتها العسكرية الجديدة للتعامل مع الأخطار الإيرانية النابعة من الأراضي السورية.
فقد قال رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو لمجلس وزرائه، إنه «كرر وأوضح» سياسته حيال سوريا في مكالمتين هاتفيتين أجراهما مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ووزير الخارجية الأمريكي، مايك بومبيو.
وقد نقل بيان لمكتب نتنياهو قوله: «أولًا يجب أن تخرج إيران من سوريا بالكامل، ثانيًا سنتخذ إجراءات، ونحن بالفعل نتخذ إجراءات ضد محاولات ترسيخ الوجود العسكري لإيران ووكلائها قرب الحدود وفي داخل العمق السوري».
ولكن بالطبع لم يصدر عن الجانب الاسرائيلي أي تعقيب على قيامه بالعملية.
الدلالات
تحمل هذه الضربة، رُغم عدم تعاظم تأثيراتها نظير ضربات إسرائيل السابقة في أنحاء سُورية صوب الأهداف الإيرانية العديد من الدلالات التي تؤكد أن ثمة فاعلين أصبحوا يأخذون دور فاعلين آخرين ولو للحظاتٍ وقتية، وأن هُناك أدوار باتت تتفوق على أدوارٍ أخرى بنفس الصورة.
- المهمة التي نفذها الطيران الإسرائيلي عُدّت صعبة، وكانت تحمل تعقيدات لوچستية كبيرة، حسبما أوردت التحليلات، لأن المقاتلات كان عليها التحليق مسافة 560 كيلومترًا لتنفيذ ضرباتها قرب البو كمال، ولكن الأكثر دهشة هي تلك المساحات الشاسعة التي حلّقت على طولها الطائرات الإسرائيلية وهذا ما يؤكد أن سُورية أصبحت فضاء عام، حتى أنه لم ترصد أية نقطة من نقاط القواعد الإيرانية الطائرات الإسرائيلية ولم تُوقِفها، وهذا تفوق نوعي ظاهر بصُورةٍ طاغيةٍ للطيران الإسرائيلي.
- أظهرت هذه الهجمة، أن روسيا شبه أن رفعت يديها عن إيران، وأنها قد أظهرت التملمُل من شراكتها معها في سُورية، بل وقد أعطت الضوء الأخضر لإسرائيل لئن تهاجم قواعد إيران العسكرية في سُورية، فإسرائيل ما كانت لتُقدِم على هذه الخطوة دون أن تأخذ السماح الروسي بالمرور والتحليق فوق الأراضي السُورية ولو كل مرة تُهاجِم فيها إسرائيل قواعد إيران في سُوريا.
وما تأتَّى هذا إلا عقب جولات وسلسلة من التفاهمات الأميركي بالأخص مع الجانب الروسي؛ من أجل إخراج الدور الإيراني من الشأن السُري بالكامل، وهذا أمرٌ ترضاه روسيا، ولا تُبدِي امتعاضًا منه، بل العكس صحيح، ولكن إيران باتت تعلم أن روسيا تريد أن تقذفها على طول يدها من الأراضي السُورية، وهو أمرٌ سيكون وسيُبنَى عليه العديد من النزاعات مُستقبلًا بين الطرفين.
فقد توقفت الدفاعات الجوية الروسية عن الحركة عمدًا، وعدم تنفيذ أي هجوم ضد الطائرات الإسرائيلية التي نفذت الهجوم، كدليلٍ بارز على التنسيق بين القيادتين الإسرائيلة والروسية، وكدليلٍ أكبر على عدم اكتراث روسيا بإيران ولا بتنظيماتها ومليشياتها. - حركة المليشيات الشيعية والتي تخضع لإيران، وتخوض حربًا بالوكالة نيابةً عنها، في العديد من الأراضي لا سيما في سُورية والعراق، أصبحت كبقعة الزيت التي تنساح وتتمدد، وهو ما يُؤرق العديد من الأطراف لا سيما الطرف الإسرائيلي، والذي يرى فيهم وجه إيران نفسه، يضطلعون بسياساتها ويقومون بها، خاصةً وأن القوة البشرية التي تمتلكها هذه الحركات لا يُستهاَن بها.
- المرشح لمنصب مساعد وزير الخارجية الأمريكية، ديفيد شينكر، صرَّح خلال جلسة استماع له بالكونجرس، بأن الغرض من وجود القوات الأمريكية في سوريا هو منع طهران من إقامة جسر بري إلى البحر المتوسط، هذا سببٌ تتشاركه إسرائيل مع أميركا، فهو ليس حِكرًا على الولايات المتحدة الأميركية، كما أن الطريق من طهران إلى بيروت مشروعٌ تُوقِقه إسرائيل بكل ما أُوتيِت من قوة، لخطره المُحدِق وغير الطبيعي على أمنها، بالإضافة إلى الرغبة الدولية في رد إيران عن الممرات المائية الهامة.
كل هذه أسباب تُضفِي على ضربة البوكمال قوة وأهمية ودلالات أكثر من أي شيءٍ آخر، وتؤكد أن هُناك أحداثًا جديرة بالاهتمام قد أُخِلت إلى حلبة الصراع الإيراني الإسرائيلي في سُورية، ستُشكِّل طبيعة ووضع الصراع الإيراني الإسرائيلي إجمالًا.
المصادر