توقفنا في التقرير السابق إلى الإشارة إلى أشد أٍلحة النظام الإيراني بطشًا وشدةً، وأكثرها تهيئةً لمواجهة الضُغُوط والانفجارات من أسفل، لردعها وإيقافها ومنعها من التمدُد والانتشار.
وهو الذراع الأمني المُمثَّل في قوات الحرس الثوري، وقوات الباسيچ، وربما يكونا هذان الفرعان مُكمِّلان في أدوارهما لبعضهما البعض، وأن هُناك تراتبية تحكم طبيعة أدوارهما، فالباسيچ هُم الصف الأول الذي يُقابِل حركات التظاهر الغاضبة والمتظاهرون في الشوارع، في حالة فشلهم في كبح جماح الانتفاضات، يُصدَر الأمر إلى الحرس بالتدخُل، والذي يقُم بدور “مَشرَط الجراح” في عمليات الجراحة، وطبيعة دورهم تتلخص في القمع الباطش بلا رحمة، وفعليًّا كان دورهم هذا يُعطِيهم مزيدًا من الحظوة والثقة لدى المرشد الذي يعتمد عليهم في مثل هذه المواقف.
وقد أشرنا مِرارًا وتِكرارًا إلى الدور الذي قدموه في قمع تظاهرات يناير / كانون الثاني مطلع هذا العام، والدور الأبرز في قمع تظاهرات الحركة الخضراء والتي عسفوها ونكلوا بها بقوةٍ لا رحمة فيها، وأسقطوا فيها عشرات القتلى والمُصابين والمُعتقلين.
في تقرير المجلة اقتبست مقولةٍ لغاري كاسباروڤ عن روسيا، وهو البطل الروسي في لُعبة الشطرنج، قائلًا:
فإن كل بلد له مافيا خاصة به
وهو ما تم إسقاطه على إيران، حتى أن التقرير كان يصف أن الحرس والباسيچ والمليشيات الشيعية الأُخرى التابعة للنظام أصبحوا بصُورةٍ تدريجية، عصابات مافيا في بلادهم، كانت تعني هذه الصورة أن الدور الخاص بهذه المليشيات عندما أُسِّست في الوهلة الأولى، قد انتفى، بل أُحِل محله دورًا جديدًا قد يكون مُنافيًا للدور الأول من الأساس.
لم يتوقف الأمر عند ذلك تجوب في جنبات الأرض قُرابة 14 حركة شيعية مُسلَّحة تجوب جنبات العالم، تمتلك عشرات الآلاف من الجُند، يحصلون على تدريباتٍ وعمليات تمويل ودعم عسكري وإمداد لوچستي من قِبل إيران، ويدينون بكامل الولاء لإيران وللمرشد، لا يتوقف الأمر عند هذا الحد بل أن هذه الحركات تمتلك خبرات عسكرية وحربية ودُربة وممارسة للأعمال القتالية بدرجةٍ رفيعة المستوى لاسيما بعد قتالهم مع جهاتٍ أكثر دُربةً منهم كتنظيمات السلفية الجهادية، جعلها تتسم بحنكةٍ لا يُضاهيها جيش نظاي قائم، وهؤلاء مُستعدون للاستقدام من دولهم لمناصرة النظام الإيراني في حالة الضرورة القُصوى.
والأكثر خطورةً هو ما يبرز في كون هذه المليشيات والعصابات المافياوية جميعًا إذ نزلت إلى ساحة المواجهة أمام انتفاضاتٍ غاضبة أو تظهراتٍ مُستعِرة فستواجه شعبًا أعزل لا خبرة له بالقتال، بالإضافة إلى كون هذا الشعب بلا قيادة من الأصل تقوده ضد استبداد نظام الثورة، ومن ثمَّ فستكون النتائج كارثية من الدرجة الأولى.
نعود لفهم إطار الحرس الثوري، بصورةٍ أكثر تنظيرية أو أكاديميّ كما يُقاَل، من خلال كتاب “الخبرة الإيرانية: الانتقال من الثورة إلى الدولة”، للدكتورة / أمل حمادة/ والصادر عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر، عام 2008.
أفادت الكاتبة أن النواة الأولى من الحرس كانت عبارة عن مجموعة لجان تكونت في مختلف المناطق الإيرانية للتنسيق والتعبئة بين القطاعات المختلفة المعارضة للشاه بهلوي آنذاك.
لكن هذه اللجان اكتسبت قوةً وحُضور عبر سيطرتها على العديد من مخازن ومخافر قوات الشُرطة والجيش المُكدَّسة بالسلاح والذخيرة قُبيل انتصار الثورة، وتمكنوا منها، وأخضع المرشد هذه اللجان تحت يده، وأعلن تشكيل قوة الحرس الثوري من أبنائها وتبعيته المباشرة لمجلس قيادة الثورة.
ومن ثمَّ كان لا بُد من غطاءٍ دستوريّ وتقنين لوضع هذه القوة المُسلَّحة، وهو ما حدث فعليًّا عبر مقدمة الدستور؛ والتي نصّت على طبيعة الحرس العقائدية، واعتبرت أن مَهمة هذه القوات تتجاوز مسألة حماية لحدود الجغرافية للدولة، إلى مهام تتعلق بالجهاد في سبيل الله، و”بسط حاكمية القانون الإلهي في العالم”، وبينما تُغطي 9 مواد في الدستور الإيراني من المادة 143 إلى المادة 151 مختلف جوانب القات المسلحة النظامية، لا تتحدث سوى مادتين فقط الحرس الثوري الإيراني وهما المادتان 110، و150، وتُرِك للقانون تحديد وظائق القوات ونطاق مسؤولياتها وما إلى غير ذلك، ولكننا نجد حالةً جديدة تُصبِح فيها قوة الحرس مؤسسة مستقلة بذاتها، وأصبحت تمتلك أچندةً خاصةً بها، وقد تطورت وأصبحت أكثر قوة تجرُدًا وتدخُلًا في الشؤون السياسية، لا سيما عقب غياب القيادة الكاريزماتية للإمام الخُميني، كما أشارت الكاتبة.
لكنها تُضيِف أن نواة الحرس الثوري كانت لها حنكة سياسية تسبق بسنوات إسقاط محمد رضا بهلوي، ولم تكن هذه النواة إسلامية من الأساس، بل كانت لها باعٌ طويل مع المنظمات اليسارية المسلحة التي تنتهج نفس نهجها العنيف، كحركة مجاهدي خلق وحزب الأُمم الإسلامية.
بل كانت هُناك نيّة مُبيَّتة بتصفية الحرس، ولكن التأكيد على طبيعته الثورية، وبِيض صنائعه في الثورة وإرهاصاتها، وحالة “التعبئة المرتفعة” التي كانت موجودة بين أعداد كبير من الشباب المحسوبين على قوته، والذين امتلكوا كمًّا غير طبيعيّ من الأسلحة والذخيرة ومدى عُسرة اتخاذ قرار تسريحهم، كلها أسباب حالت دون تصفيته.
أضافت الكاتبة أن الحرس أدى ثلاثة أدوار في سنوات الثورة الأُولى الحاسمات:
- التدخُل في لحظاتٍ معينة لحسم التنافسات السياسية داخل النخبة السياسية.
- تأدية دور المُعبِئ والضابط للسلوك الاجتماعي حتى يتفق مع قيم الثورة الجديدة، بالإضافة إلى حفظ أمن هُ
- الدور الموازن للجيش النظامي الموروث من نظام الشاه.
هذه الأدوار لم تتغير كثيرًا، حتى بعد انتصار الثورة واستتباب حكمها واستقرار أجهزتها، بل أُضيِفت لها مهام أُخرى وواجبات جديدة وأخذت القوة تتمدد بأسلوبٍ رأسيّ، وقد نفذت قوة الحرس هذه الأدوار بكفاءةٍ عالية وبإتقانٍ واضح وتبعيةٍ رفيعة لمرؤسيه، كالمساهمة في الإطاحة بالحسن بني صدر ، أول رؤساء الجمهورية الإيرانية عقب الثورة عام 1979، قمع مظاهرات الطلبة عام 1999؛ وقد كانت تُعتبَر هذه التظاهرات هي أشد التهديدات خطرةً على نظام الثورة، حتى أنه تم تهديد رئيس البلاد آنذاك، المحسوب على التيار الإصلاحي، محمد خاتمي، وهُدِّد الطلبة والتيار الإصلاحي أيضًا بعدم تجاوز الخطوط الحمراء للمعارضة.
تكرر الأمر عام 2004، عندما أراد التيار الإصلاحي استكمال تجربته بعد رئيسه محمد خاتمي، ولكن الحرس صنع حالة من الاستقطاب الشديد وضرب التيار الإصلاحي بقوة سياسيًا للدفع بمرشحه، أحمدي مجاد، للسيطرة على السُلطة، وتكرر الأمر مجددًا عندما ضرب الحرس تظاهرات الطلبة وأساتذة الجامعات الذين انتفضوا ضد فوز نجاد بالولاية الرئاسية الثانية عبر عمليات من التزوير، وقد قمعوها بقوة، وتكرر الأمر مؤخرًا في مطلع هذا العام.
شملت هذه الحالة والهالة التي صنعها الحرس الثوري لنفسه، أو بفعل العوامل الأُخرى، تكريسًا لدوره القديم الجديد، ولكن هذا يضعنا أمام منطقٍ جديد، وتعريفٍ مختلف لقوة الحرس الثوري، والتي أضحى دورها الحالي يكمن في الحفاظ على مصالحها وامتيازاتها، وأن تكون ضمان بقاء نظام الثورة، والحول دون وقوعهِ، وهذا ما نحا بالتقرير إلى الاستشهاد بسرديةٍ كانت قائمة عام 1979، وهي قصة معارضة شعب كان على استعداد للاستشهاد الجماعي ضد نظام لم يكن راغبًا في ارتكاب جريمة قتل جماعي، إلا أنه في إيران اليوم انعكست هذه الأدوار، وأصبح النظام الإيراني المُسلَّحتسليحًا ثقيلًا كما يصف التقرير، على استعداد لارتكاب إبادات جماعية في حق بني شعبه، المُنقسِمين العُزل بلا قيادة، إن كلف الأمر ذلك.
وكان هذا هو تلخيصٌ هام لكيفية تحول الحرس الثوري إلى جيشٍ مُصغَّر سينطلق كقطيع من الذئاب على غابةٍ تعج بالخراف، فيعيثون فيها ذبحًا وإفسادًا. ولكنه يؤكد لنا مصداقية التاريخ أن الجارب تتكرر في حال تضافُر أسبابها، كتجربة الجنود الانكشارية في عهد الدولة العثمانية، وتجبة الحرس الإمبراطوري في عهد الدولة الرومانية.