أتلانتك
في مقولة شهيرة لنابليون حذر: “عندما يرتكب عدوك خطأ، لا تقاطعه أبدًا”. في الأشهر الأخيرة، تعرضت جمهورية إيران الإسلامية لانحدار جراء أزمات متراكمة، بما في ذلك انهيار العملة، وحركات حقوق المواطنة وحقوق المرأة التي صار من الصعب كبحها، الإضرابات العمالية المستمرة. ومن الواضح بشكل متزايد أن هدف إدارة ترامب، كما أوضح وزير الخارجية مايك بومبيو مؤخرًا، هو إثارة هذه الأزمات لتسريع إما الاستسلام الإيراني أو الانهيار السياسي. وفي حين أن التحول السياسي الإيجابي في إيران هو هدف يستحق بالاهتمام، إلا أن تنفيذ إدارة ترامب المتهور لهذه الاستراتيجية قد يساعد في إعادة إحياء هذا النظام الفاسد.
وكان الربيع العربي بمثابة تذكير بأن انهيار الأنظمة الاستبدادية الذي يبدو مستحيلًا، أصبح لا مفر منه. وبالنظر إلى إيران، فمن الملاحظ ازدياد عدد الذي يفكرون بشكل علني في هذا الأمر. فقد أكد أستاذ علم الاجتماع الإيراني محمد فاضلي في خطاب انتشر مؤخرًا على شبكات التواصل الاجتماعي، أن البلاد تشهد “تجمعًا للأزمات” -اقتصادية واجتماعية وسياسية وبيئية وجيوسياسية- “على عكس أي بلد آخر في العالم. والأهم من ذلك، أن خطابه لم يُلقى في تجمع للمعارضة، بل في مؤسسة فكرية حكومية رسمية.
كما أن المراسلين الأجانب في إيران – كتوماس إردبرنك من صحيفة نيويورك تايمز ونجمة بوزوجميهر من صحيفة فاينانشيال تايمز- قد لاحظوا هذه الرأي المتنامي. وفي تقرير لبزورجميهر في 7 مايو الفائت، بدأت بسؤال لافت: “هل بدأ العد التنازلي لانهيار جمهورية إيران الإسلامية؟”. وقد اقتبست عن رجل أعمال إيراني ربما ردد دون قصد، رأي “دي توكفيل” بأن الأنظمة الاستبدادية تكون عرضة للخطر أكثر عند محاولة الإصلاح. وقال: “المشكلة هي أنه إذا قامت الجمهورية الإسلامية بإصلاح نفسها، فلن يبقى شيء منها. أما إذا رفضت، فسوف تجني على نفسها”.
وقد ركز بومبيو في خطاب الأول كوزير للخارجية على إثني عشر مطلبًا، يعرضون على قادة إيران خيارًا مماثلًا لتحويل أنفسهم إلى شيء يتعارض تمامًا مع ما كانوا عليه طيلة الأربعة عقود الماضية، وإلا فإن الوايات المتحدة ستسعى إلى تدميرهم. ورد المرشد الإيراني الأعلى، آية الله علي خامنئي، البالغ من العمر 78 عاماً ، بتحريم أي تعامل مع الحكومة الأمريكية. هذا، إلى جانب وجهة نظر خامنئي الراسخة التي تقول بأن الاستسلام للغرب لن يؤدي إلا إلى تسريع وتغيير نظام الحكم،مما يعني أن الولايات المتحدة وإيران على مسار تصادمي واضح.
هناك عادة شرطين أساسيين للانهيار الاستبدادي: الضغط من الطبقات الأدنى والانقسامات في الطبقة العليا. وبينما توجد في كثير من الأحيان علاقة تكافلية بين هذين الاثنين – يمكن أن تؤدي الاضطرابات الشعبية إلى إثارة الانقسامات النخبوية -فيمكن لمحاولات القوى الخارجية للتحريض على تغيير النظام أن تعمل على تعزيز تماسك السلطة الاستبدادية.
وقد سعى بومبيو إلى تحريض سكان إيران ضد النظام الإيراني الذي يصوره ككتلة واحدة موحدة. وقال بومبو: “هنا في الغرب غالباً ما يتم فصل الرئيس روحاني ووزير الخارجية ظريف بعيداً عن السلوك الإرهابي الطائش والمؤذ للنظام. ومع ذلك، فإن روحاني وظريف هما قائديكم المنتخبين. أليس هما الأكثر مسؤولية عن صراعاتكم الاقتصادية؟ هل هؤلاء الاثنين غير مسؤولين عن إهدار الأرواح الإيرانية في جميع أنحاء الشرق الأوسط؟”
في بحثهما عن “صمود الأنظمة الثورية” – تلك التي تنشأ من “النضال الفكري والمتقن والقوى من الطبقات الأدنى”- يظهر عالما السياسة ستيفن ليفيتسكي ولوكان واي أن الأنظمة التي أنتجتها الثورات الشعبية -بما في ذلك الاتحاد السوفيتي السابق وكوبا وإيران – عادة ما يتقاسمان أربعة صفات تعزز من قوتهم:
(1) تدمير مراكز القوى المستقلة.
(2) تماسك الأحزاب الحاكمة.
(3) تضييق السيطرة الحزبية على قوات الأمن.
(4) أجهزة قسرية قوية.
والأربعة تنطبق على إيران. وتساعد هذه الصفات في “تحصين الأنظمة الثورية ضد انشقاق النخبة والانقلابات العسكرية والاحتجاجات الجماهيرية- التي هي ثلاثة مصادر رئيسية لتدمير الأنظمة الاستبدادية.
وفي حين شهدت الجمهورية الإسلامية نوبات من الاضطرابات الشعبية الكبيرة في الماضي، وخلال أوقات الأزمات بدا أن النخبة السياسية والعسكرية التي عادةً ما تكون مفككة قد فهمت أنه إذا لم يتم يتوحدوا معًا، فقد يتساقطون فرادى. أما جهاز النظام القسري -الحرس الثوري الإسلامي وقوات التعبئة الشعبية (الباسيج)- فهو جماعة مسلحة ومنظمة تضم ما لا يقل عن 300,000 رجل، بعضهم لديه مصلحة مالية قوية في الحفاظ على الوضع الراهن. وكما قال جاري كاسباروف عن روسيا، فإن كل بلد له مافيا خاصة به -لكن خامنئي والحرس الثوري يمثلون بشكل متزايد مافيا داخل بلادهم. وقد تتمكن الجمهورية الإسلامية أيضاً من الاعتماد على دعم حوالي 40,000 من جندي شيعي -بما في ذلك حزب الله اللبناني- فقد تم تسليحها وتمويلها وتدريبها خارج إيران. وقد أمضت هذه القوات سنوات في قتال المتمردين السوريين والجهاديين السنة، في حين أن المعارضين الإيرانيين للحكومة، على النقيض من ذلك، غير مسلحين وبدون قيادة.
كان أحد الانتقادات للاتفاق النووي الإيراني هو أنها كانت تستند إلى إمكانية حدوث تحول إيجابي في النظام الإيراني بآخر أكثر اعتدالًا بحلول الوقت الذي تنتهي فيه صلاحية قيود الاتفاقية على الأنشطة النووية الإيرانية في خلال العشر سنوات أو الخمس عشرة القادمة. وبالمثل، يبدو أن استراتيجية إدارة ترامب في التعامل مع إيران تراهن على قدرة سكانها المنقسمين وغير المسلحين على الإطاحة السلمية بنخبة حاكمة لا تتمتع بشعبية كبيرة ولكنها مسلحة تسليحًا ثقيلًا. ولكن في حين أن الثورة الإيرانية عام 1979 كانت قصة مجتمع مستعد للتضجية بنفسه ضد نظام لم يكن مستعدًا لارتكاب جريمة قتل جماعي، تجد الآن أن الأمر في إيران معكوسٌ تمامًا.
ومنذ عام 1979، حاولت الإدارات الأمريكية المتعاقبة دون جدوى تغيير سلوك النظام الإيراني أو النظام نفسه. وأحاطت إدارة جورج دبليو بوش إيران بأكثر من 250 ألف جندي أمريكي في العراق وأفغانستان المجاورتين ودعمت نشطاء الديمقراطية الإيرانية. لكن مع ذلك، خلال فترة حكم بوش، هاجمت طهران دون هوادة القوات الأمريكية في العراق، وتراجعت المعارضة السياسية في إيران. أما حرب العراق التي كانت تهدف إلى نشر الديمقراطية العراقية إلى إيران، فقد عملت على نشر الثيوقراطية –الحكم الديني- الإيرانية في العراق.
عندما تولى باراك أوباما منصبه، سعى إلى أن يكون مناهضًا لبوش. وأكثر من أيٍ من أسلافه، سعى أوباما للتقارب مع طهران،وذلك عبر رسائل عديدة كتبها إلى آية الله خامنئي. ووزير خارجيته جون كيري -الذي سعى في 2009 لزيارة طهران- أمضى وقتًا أطول في التحدث مع وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف، ربما أكثر من أي من نظرائه العالميين. وعلى الرغم من التوقعات العالية بعد توقيع خطة العمل المشتركة، إلا أن سلوك إيران الداخلي والخارجي والعداء تجاه الولايات المتحدة لم يتغير.
وعاصرت إدارة ترامب صعود إيران إقليميًا وانحدارها داخليًا. وبدلًا من حشد الوحدة العالمية ضد الأنشطة الداخلية والإقليمية الإيرانية المؤذية -أبرزها المذابح الجماعية في سوريا- ركز ترامب على الشيء الوحيد الذي تفعله إيران بصواب: التزامها بالاتفاقية النووية. وبالتالي، ومنذ انسحاب ترامب من الاتفاقية، فإن اهتمام وسائل الإعلام الدولية -بما في ذلك الخاصة بحلفاء أمريكا- قد تم تحويله بعيدًا عن القمع الداخلي الإيراني والطموحات الإقليمية، ليركز على أمريكا باعتبارها قوة عظمى خطيرة وغير جديرة بالثقة.
في أعقاب خطاب بومبيو في إيران ، تصدر هاشتاج #RegimeChangeIran -تغيير النظام في إيران- على تويتر. وإنه لمفهوم لماذا يحمس الانهيار المحتمل لثيوقراطية معادية لأميركا الكثير من المسؤولين الأمريكيين والإيرانيين -داخل إيران وخارجها- الذين يتطلعون إلى حدوث تحول إيجابي في وطنهم. ولكن إذا كان هناك درس يمكن تعلمه من ثورة 1979 في إيران والانتفاضات العربية عام 2011، فسيكون أن الثورات تُقيم في النهاية بما تبنيه، وليس بما تدمره. من غير المرجح أن يتخلى “الحرس الثوري الإسلامي” و “الباسيج” مثل القوات العسكرية القوية في أي مكان آخر، عن السلطة دون إراقة الكثير من الدماء، وربما تتفوق عليهم حتى في حالة حدوث تغيير سياسي مفاجئ. فتغير النظام الإيراني ليس ضمانًا للوصول إلى إيران ديموقراطية.
وحذر الدبلوماسي الأمريكي الشهير جورج كينان في خطابه المشهور من موسكو من أن السياسات الأمريكية وحدها من عجلت، ولم تدبر، التغير السياسي في الاتحاد السوفييتي. وكتب كينان: “سيكون من المبالغة القول أن السلوك الأميركي الفردي هو الذي تحكم في الحركة الشيوعية وأنه من ساعد على السقوط المبكر للقوة السوفيتية في روسيا. لكن لدى الولايات المتحدة القدرة على زيادة الضغوط على عمل الاتحاد السوفيتي …”.
وكُتب مقال كينان في عام 1947، وقال فيه أن “القوة السوفيتية تحمل في طياتها بدايات سقوطها وهو أمر يتقدم بمعدل جيد”. وبعد قرابة الخمسة عقود وفي عام 1991 سقط الاتحاد السوفيتي في النهاية. وساعد رونالد ريغان في إدارة سقوطه ببراعة من خلال دعم المعارضين السوفييت ومقاومة النفوذ السوفييتي في الوقت نفسه مع مواجهة نظامه، مما ساعد على إثارة انقسامات النخبة والاضطرابات الشعبية -التناقضات الداخلية- التي أدت إلى الانهيار السلمي لإمبراطورية مسلحة نووياً.
ونظريًا، يمكن تطبيق نموذج مماثل على الإستراتيجية الأمريكية مع إيران. لكن الأمر سيتطلب قدرًا كبيرًا من الصبر والمرونة، والاستعداد لدعم المجتمع المدني الإيراني بتعقل ومكافحة التأثير الإيراني السيئ، ولكن أيضًا إنهاك النظام الإيراني بمضاعفة الانقسامات بين أولئك الذين يريدون أن تكون إيران دولة وأولئك الذين يريدونها دافعًا. ويتطلب الأمر الاهتمام بنصيحة كينان بأن “مثل هذه السياسة لا علاقة لها بالمظاهر الخارجية، ولا التهديدات أو التوعد أو والإشارات غير الضرورية بصمودها خارجيًا. ولكن يجب أن نكون واقعيين في أهداف سياستنا الخارجية، كما يجب علينا أن نكن واقعيين حول واقعنا السياسي الداخلي. فالرئيس الذي يعاني من الفضيحة، والمضطرب دوليًا، والذي لا يركز على الشأن الداخلي يقوض بشكل كبير من قدرتنا على الترويج لحكومة مناسبة أكثر أمام العالم.