لدى المملكة المغربية اعتقادٌ جازم بأن إيران فاعلًا رئيسًا في دعم قضية الصحراء الغربية، وأنها بين الفينة والأُخرى تُثيِر غُبارها وتسكب البنزين عليها فتُزيِدها إشعالًا، وقد ذكرنا في الجزء الأول مدى ما تمثُله قضية الصحراء للمغرب، ومدى غضبتها التي تُثيِرها المملكة على الدول أو المنظمات التي تقف إلى جنب قضية استقلال بوليساريو.
لكن عبر هذا الاعتقاد، فهل تؤيد إيران الانفصاليين في الصحراء المغربية؟
في دراسةٍ لأستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، بجامعة عبد المالك السعدي، عبد العلي حامي الدين، قدمها للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بتاريخ 17 يناير / كانون الثاني 2017. أشار فيها إلى ما نستطيع أن نُسميه الإطار الفلسفي والقيمي الكُلي للثورة الإيرانية في دعمها لقضايا التحرُّر والثورة بشكلٍ عام، والتي أتت مع الخُميني، الذي كانت أشرطته وكُتبُه تمتلئ بمثل هذه الدعاوى.
أشار الدكتور عبد العلي أن الإمام الخميني اعتبر أن الحرب “ظاهرةٌ استثنائية” في حياة الإنسانية، وقد قسَّم الحروب إلى ما أسماه بحروبٍ “طاغوتية”، وحروب “توحيدية”. وقد عرّف الأولى بأنها حروب تدفع إليها الأنانية، والشهوات الدنيوية، ورغبة القوى العظمى في السيطرة على الآخرين، في حين عرّف الخُميني الحروب “التوحيدية” بأنها إما حروب دفاعية للحفاظ على الاستقلال، أو جهاد يقوده المؤمنون للتوسع ولإصلاح البشرية.
وقد اعتبر الخميني إنشاء الحكومة الإسلامية في إيران ما هي إلا خطوة أولى تجاه إنشاء الدولة الإسلامية العالمية، كما حثّ إيران حُكامًا وشعبًا بُعيد الثورة على دعم “المستضعفين”، وحركات التحرير عبر العالم، وطالب حكومة إيران بأن يكون هدفها تحرير البشرية بأكملها.
ومن جهةٍ أُخرى، طالب المستضعفين المناضلين ضد هيمنة القوى الكبرى التي أسماها “بالشيطانية” في كافة أنحاء العالم بدعم إيران، التي أصبحت بعد الثورة -في نظره- مركزًا للمقاومة ضد القوى العظمى، وحذّر من أنه إذا تعرضت إيران للهزيمة، فسيعني ذلك هزيمة المسلمين والمستضعفين في العالم بأسره.
جدير بالذكر أن هذا الخطاب الذي يتم نقله نصًّا وتفعيله بدقةٍ متناهية في صنائع وأفعال إيران في الفترة الحالية في العديد من دول الجوار خاصتها، عبر تدعيم حزب الله في إيران، والحوثيون في اليمن، والشيعة في البحرين، والتمدُّد المُلاحَظ في بُلدان أفريقيا وآسيا، وأخيرًا التوسع الأُفقي الشامل في سُورية.
كما ينقل الدكتور عبد العلي في دراستهِ، أن الخُميني كان يرفض الإقرار بالحدود الجغرافية القائمة بين الدول، واعترف فقط بما أسماه بالحدود “الإيديولوچية”، وأكد أن خلاص البشرية يكمن في تطبيق قوانين الله (الشريعة).
وقد قسّم الخميني العالم إلى معسكرين: مستكبرون ومستضعفون، حيث يهيمن المعسكر الأول على الثاني، والذي يضم بجانب المسلمين شعوب العالم الثالث الأخرى، وتنبأ بأن ميزان القوى سيميل في نهاية الأمر لصالح المستضعفين إذا توحدوا للخلاص من سيطرة المستكبرين ولتحقيق السلام والأمن في العالم وتنفيذ وعد الله بالإمامة والحكم للمستضعفين في الأرض.
لقد كانت رؤية الخُميني ثورية إلى أعلى درجة، وهذا ما كان ليُسيِل لُعاب تلك الشعوب المُستضعَفة والمحكومة من قِبل رؤساء وملوك يسوسونهم بالحديد والنار، ويقودونهم بالسِياط، ومن ثمَّ لم تلق السياسة الإيرانية الجديدة الترحيب من قِبل الأنظمة العربية الحاكمة باستثناء “سُورية”، والمقصود شعوبها بخطاب الحُميني.
لكن وعبر لحظةٍ من الزمان، يقُم فيه النظام الناشئ بتثبيت دعائم دولته الناشئة الفتية، عام 1980، أعلن صدام حسين، رئيس العراق الأسبق، حربه على إيران مدعومًا من الغرب، لتكون الحرب الأطول في تاريخ الحروب الحديثة بحيث استنزفت موارد البلدين، بالإضافة إلى الخسائر البشرية الكبيرة، وقد استمرت ثمان سنوات كاملة، ابتداءً من عام 1980 إلى 1988.
وموقفٌ عربي اتسم بالجمود تجاه إيران رُغم أنها المجني عليها آنذاك، وعوضًا عن الاستفادة من التطور الإيجابي في سياستة إيران الخارجية من دعمها للقضية الفلسطينية ومعاداة إسرائيل، من قِبل العرب، لاسيما عقب تبدي إرهاصات التبرُم على العرب من حملهم للقضية الفلسطينية، وعدم قدرتهم على إيجاد حل ناجع للفسطينين الذين سُلِبت أراضيهم بين ظهراني العرب، فقد فعل العرب النقيض فبدأوا حملات التجييش ضدها، واختلاق الخوف من التمدد الشيعي، واستحضار كل الحقب السوداء في التاريخ المشترك.
وعلى هذه القيمة، وابتناءً عليها؛ عمل المغرب داخليًّا على التصدي لكل ما اعتبره محاولات إيرانية لتصدير الثورة إليه، بالموازاة مع ذلك عمد الموقف الإيراني في قضية الصحراء إلى دعم أطروحة الانفصاليين، ليزيد من عمق الهوة بين الدولتين.
وفي أعقاب القمة العربية الثانية عشر، في فاس، 1982، أثناء نشوب الحرب العراقية الإيرانية، أبدى الملك، الحسن الثاني، استعداد المغرب إلى جانب باقي الدول العربية، تنفيذ التزاماته تجاه العراق بموجب معاهدة الدفاع المشتركة العربية في حالة عدم استجابة إيران واستمرارها في الحرب.
هجمة إيرانية
ووسط هذه الحالة، في يناير / كانون الثاني من عام 1986، وعندما كان المغرب يرأس القمة الإسلامية، انعقد بمدينة فاس المغربية، المؤتمر السادس عشر لوزراء خارجية الدول الإسلامية، وتقرر فيه أن يعقد الوزراء اجتماعهم التقليدي في نيويورك، في شهر أكتوبر من نفس العام.
حيث يشارك وزراء الخارجية في دورة الأمم المتحدة، ويكون الاجتماع مناسبةً لاستعراض جدول الأعمال، ولكن قبل الاجتماع بيومٍ واحد أُجرِيت اتصالات بين الوفد السوري والوفد الإيراني، مدعومين بوفدين من ليبيا والجزائر، لإبعاد المغرب عن رئاسة الاجتماع؛ تمهيدًا لاتخاذ قرار بفصل المغرب من المنظمة، نظرًا لاستقبال رئيس الوزراء الإسرائيلي، السابق، شمعون بيريز، في مدينة إيفران المغربية، من قِبل الملك، الحسن الثاني، وهكذا تقدم كل من الجانب السوري والجانب الإيراني بطلبيهما أثناء الاجتماع بتعليق عضوية المغرب في منظمة المؤتمر الإسلامي، ولكن كان لدى الدبلوماسية المغربية يقظةً الدبلوماسية أثناء اللقاء ذاته، حالت دون نجاح هذه المناورة الإيرانية،و نجحت في إجهاضها، نقلًا عن السفير، محمد التازي، في كتابه “مذكرات سفير”.
لقد كانت علاقة إيران بالقضية الصحراوية قائمة على فلسفةٍ وعقيدة تظام الثورة، والذي أتى مُحمَّلًا بأيديولوچيته ومنظومته المفاهيمية والاصطلاحية الجديدة، التي تحمل كُلياتٍ عامة بصدد القضايا التي تشغل العالم، والتي ترتبط بالإسلام بشأنٍ أو بآخر.
اصطدمت هذه الاصطلاحات والتي استتبعتها إجراءات فعالة لتطبيق هذه المنظومة، بالعديد من الدول والحكومات التي تستهجنها، وكانت المغرب في قلب هذه الحالة، وقفت إيران وراء الانفصاليين في منظمة “بوليساريــو”، ودعمتها واعترفت بها، وهو ما فتح باب الشقاق بين البلدين.
كما كانت أفعال الحسن مع النظام “البائد”، تُشعِر إيران الثورة بالإهانة، فعكفت إيران على الأداء بالمثل، ورّد الصاع صاعين، والإثخان في جرح المغرب الذي لا يندمل.
ولكن مع مرور الوقت وعودة العلاقات بين البلدين، مثلما حدث عام 2014، وعام 1993، كانت إيران غالبًا لا تُقدِم على التدخُل في قضية البوليساريو، تعريجًا على أنها شأن مغربي داخلي بينما ريثما كانت تعاود القطيعة والتوتر في العلاقات بين البلدين، كانت إيران تنكأ في قضية البوليساريو، وتُجدد أصدائها، أي أنها كانت تستخدمها كورقةٍ سياسية تلعب بها وتُخرِجها وقت ما تشاء.
جدير بالذكر أنه يوم 25 كانون الثاني / يناير من عام 2017، في مدينة قُم، أُقيِم حفل افتتاح المؤتمر الدولي للحوار الثقافي بين إيران والعالم العربي، من قِبل وزارة الثقافة الإيرانية، تم عرض خريطة المغرب دون صحرائها.
بل أنه في مدينة مشهــد، حيث مشهد آخر من مشاهد المؤتمر، خاصين بالذكر حفل الختام، رُفِع علم “الجمهورية الصحراوية” عيانًا بيانًا، وتجدد عرض خريطة المغرب مبتورٌ منها منطقة الصحراء، وقد استمر هذا الأمر طيلة مدة الملتقى، الذي كان تحضره عدد من البلدان العربية، وإمعانًا في الدعم الإيراني فقد تم عرض علم البوليساريو على واجهة اللافتة الرئيسة الحاملة لأعلام جميع الدول العربية.
وما كان هذا إلا رسالةً لأُولي البصيرة في المغرب أن قضية صحرائهم قد أصبحت لدى الجانب الإيراني تعني انفصالية ودولة مُستقِلة ذات سيادة.