سيطرت شركات القروض والمصارف كما قدّمنا على 30 % من سوق العملات قاطبةً، وقد كان هذا الإحكام نابعٌ من الفائدة التي كانت تُقدمها مثل هذه المصارف والشركات لعملائها إذ كانت تصل لمعدلات 20 %، ما كان يدفع بهذه الحُموع الآملة في تحقيق أقصى ربح لأنفسهم، إلى وضع أموالهم في المصارف مقابل دخل ثابت يسمح لهم بحياة مستقرة.
سنجد على سبيل المثال، سوق العقارات، فقد ارتبط إيجار المنازل بمعدلات الفائدة، فكان أصحاب المنازل يُفضِّلون الحصول على مبلغٍ مقطوع من المستأجرين يضعونه في المصارف مقابل السكن على الحصول على إيجارٍ شهري، كان هذا المبلغ والمسمى ب (الرهن) يتم إعادته للمستأجر متى قرر ترك المسكن، بذلك يربح مالك المسكن الفائدة دون أي مترتبات على المستأجر، لكن لم يكن موضوع في الحُسبان، انهيار العملة، وقد خلّف هذا الانهيار تداعيًّا وتصدعات لا قِبل للدولة بها في سوق العقارات، وتداعيات لا حصر لها على جيوب المواطنين، الذين تفجروا غضبًا عقب ضياع مستحقاتهم وأموالهم.
المُستخلَص من هذه النقطة، أن نظام الثورة كأنه وضع بذور هدمه يوم زراعته وقُدُومه إلى الحكم عام 1979، وذلك عندما صنع نظامًا ثُنائيًا للحكم والإدارة، سياسيًّا واقتصاديًّا ومجتمعيًّا وعسكريًّا،لقد كان خطأً فادحًا دفعت وتدفع أمامه الإدارات الحاكمة للجمهورية الإيرانية دستوريًّا وتشريعيًا، المُمثَّلة في الرئاسة والحكومة، الويلات نظرًا لضعفها وتضعضعها أمام المرشد وأذرعه المنتشرة على طول البلاد وعرضها.
تُمثِّل الازدواجية جزءً لا يتجزأ من طريقة الحكم في إيران، فهناك مُرشِد ورئيس بل أن كلمة المرشد غالبة على كلمة الرئيس نفسه الذي هو مُجرَّد من الاستقلالية والصلاحيات على حدٍّ سواء، وهُناك القوات المُسلحة الإيرانية والحرس الثوري الإيراني والذي لديه نفوذ أقوى بمراحل يصعُب حصرها من الجيش الإيراني نفسه، ويه أذرع تنفذ عمليات خارجية في بُلدان الجوار وغيرها، كما يُشكِّل قوة مالية وتسليحية طاغية لا تُوضَع في موضع المقارنة من الأساس مع تسليح الجيش الإيراني نفسه، وهذه المليشيا الجيش من الممكن أن تفتك بالجيش الإيراني نفسه، كما أنها تأتمر بأمر المرشد فقط، وليس لأحدٍ كائنًا من كان سبيل له عليها سوى المرشد، وهو الأمر الذي جعل هذه القوة في صدامٍ شبه دائم مع رؤساء إيران من الإصلاحيين.
بالإضافة إلى مجالس ومكاتب تبوء بالطاعة للمرشد، والحكومة التي يرأسها رئيس البلاد لا قوة لها أمام هذا الطوفان من الأوامر والقرارات والتصريحات المتداخلة والمتقاطرة من كل هذه الهيئات والمؤسسات، ومن ثمَّ سنجد الأمر يُلقِي بظلاله على الاقتصاد أيضًا، هُناك بنوك ومؤسسات اقتصادية تابعة للدولة وهي التي من المُفترَض أن تُنظِم حركة الاقتصاد في الدولة، ولكن دخلت شركات القروض والائتمان على الخط والتي تعمل تلك المؤسسات دون الحصول على تراخيص من البنك المركزي وتستحوذ على نسبةٍ كبيرة من سوق العملات الإيرانية، فأثارت عبثية وفوضى عارمة في اقتصادٍ متهالِك بطبيعته.
وقد كان قطاع البنوك ضعيفًا أمام هذه العاصفة المالية التي هبت عليها قادمةً من هذه الشركات، وستؤثِر عليه إجمالًا وستستنزفه حتى آخر تومان في خزائنه، فاضطر للاضطلاع بهذه المهمة هو الآخر رُغم عدم صلاحية هذا الأمر المتمثِل في إعطاء القروض بصورةٍ تتسم بالسيولة في ذاته، ولقد كان القطاع يعاني بشدة.
كشفت هذه الشركات عن تغلغلٍ جديد تعيشه مؤسسة الحرس الثوري في عموم الاقتصاد الإيراني، نقل تقرير وكالة الأناضول عن تصريحٍ سابق لوزير الدفاع الإیراني، أمیر حاتمي: “إن أنشطة الحرس الثوري والباسيچ المالية والشراكات التي تعقدها تُواجَه بانتقاداتٍ شديدة”.
وقد نشرت وكالة “آنا” الإيرانية للأنباء، في أغسطس/ آب 2017، أن شركات ومؤسسات مثل ثامن الحجج، وصالحین، وعسکریه، واعتماد ایرانیان، وأنصار، وسینا، وأفضل، وتوس، وفرشتكان، وثامن الأئمة، وکارسازان آینده، وقوامین، وحافظ، ومهر، وکوثر، وریحانه كستر مشیز، ومولی الموحدین، تعمل دون الحصول على تراخيص من البنك المركزي، وتتسبب بمشاكل للعملاء.
كما أفادت مصادر رسمية، فإن مؤسسات مثل ثامن الحجج، وعسکریه، وأنصار، وسینا، وثامن الأئمة، ومولی الموحدین، مملوكة وبشكلٍ مباشر للحرس الثوري الإيراني.
في تقريرٍ نشرته “فوربس”، في السابع عشر من مايو / أيار الماضي، أشار إلى مدى اتجاه الاقتصاد الإيراني نحو وجهةٍ أكثر سوءً نظرًا للتصدُعات المتتابعة التي يشهدها اقتصاد إيران لاسيما عقب إعلان ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي وأثر ذلك على الشركات الأوروبية العاملة في إيران، والتي أصبحت تحت مقصلة العقوبات والتهديدات الأمريكية لو أبقت على عملها في إيران، حتى أن شركة “توتال” النفطية الفرنسية العملاقة أحجمت عن الدخول إلى السوق الإيراني، إلا عقب تقديم كافة الضمانات التي تحمي الشركة من مَذبح العقوبات الثانوية الأمريكية، وهي شبكة من العقوبات لا تقتصر على الجانب المالي فقط بل هي أكثر تعقيدًا مما يعتقد البعض.
لا يتوقف الأمر عند ذلك بل حالة تصخُم وفقًا لموقع” TradingEconomics.com” تصل إلى 8.3 %، بينما فجّر أستاذ الاقتصاد التطبيقي بجامعة جونز هوبكنز، ستيف هانك، ما هو أعلى بمراحل حينما قدّم تقييمًا منتظمًا ومتطورًا لمستوى تحرك السعر داخل البلاد، حيث قال أنه في 8 مايو / أيار الماضي قُدِّر التضخم في إيران بنسبة 71.7 ٪، كما أضاف أن إيران أصبحت تحتل المركز الثالث في مؤشر البؤس. والمؤشر عبارة عن نسبة البطالة مضافًا إليها نسبة معدل التضخم. وكلما ارتفعت النسبة، كلما دلت على بؤس الحالة التي يحياها المواطنون.
أشار التقرير أيضًا إلى فكرة تعويل إيران على بيع النفط بصورته الخامة إلى السوق العالمية، فستطلب الدول المُصدَّر إليها الحصول على تخفيضات كبيرة في الأسعار بالنظر إلى الوضع الذي تعيشه إيران الآن، أمرٌ سيهوي بالعملة أكثر، وسيرفع السلع سعريًّا أعلى.
هذه الحالة العامة من التخبُط والعشوائية والفوضى الحاكمة لسوق المال الإيراني، والتي كانت سببًا كبيرًا فيها شركات القروض، تعكس تصريحات روحاني في خطابه عشية خطاب ترامب الانسحابي من الاتفاق النووي في الثامن من مايو / أيار الماضي، بأن البلاد فعليًّا لم تنجح في ضبط حركة سوق المال أو تُنفِذ منطلقات الخطاب؛ مخافة التأثير على الاقتصاد الإيراني بصورةٍ سلبية.
ها قد وصل التأثير إلى سواحل إيران حتى يكاد أن يُغرِقها، فهل يواجه النظام حقيقة ما يدور في أروقة اقتصاده المُتصدِع، ويتخذ بصورةٍ جدية حلولًا جذرية لهذا التداعي، أم يتوقف عند تصريحاته النارية وخطاباته المُشتعِلة التي لا تسمن ولا تغني عن جوع؟.
جدير بالذكر، أن مظاهرات يناير / كانون الأول الماضي، كان مبدؤها أسباب اقتصادية بحتة، والمسوغات السياسية التي تحولت لهتافاتٍ جامحة تطالب برحيل النظام والموت لروحاني وخامنئي، ما كانت إلا طفرة تطورية طبائعية لأي مسار ما ، ولكن الأسباب الاقتصادية كانت شديدة الوطأة، وهي من شكّلت غضب هؤلاء ودفعتهم للتهلكة والتقارُع مع النظام، وهذا ما علّق عليه تقرير فوربس عندما أشار إلى أنه عندما تتعطل قدرة الناس على تحمُل تكاليف إطعام عائلاتهم، فالاحتجاجات لا شك قائمة، وهذا ما لُوحِظ عندما ارتفعت أسعار المواد الغذائية، وهذا ما كان سببًا في إثارة ما يُسمّى بالربيع العربي في عام 2011، بالإضافة إلى احتجاجات ساحة تيانانمن في الصين في عام 1989.
وهذا ما يجعل نظام الثورة في مهب أي ثورة قادمة قد تُطيِح به من أعلى رأسه إلى أخمص قدمه، فكيف سيُقيِم النظام الإيراني اقتصادًا لا تحكمه شركات القروض التي ستدفعه نحو حتفه؟.
هذا ما ستُجيِب عليه الأيام المُقبِلة بصورةٍ أسرع مما نعتقد.
المصادر