أصبحت النداءات الدولية المحلية تقطُر من كُل حدبٍ وصوب، وأصبحت الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية لا تتوقف عن توجيه التحذير لمواطنيها بألا يزوروا الأراضي الإيرانية، وأنهم مُعرَّضون في أية لحظة لخطر الاحتجاز أو السجن إذا سافروا إليها. وكانت هذه النداءات تتجدد بصورةٍ شبه مستمرة.
لقد شُحِنت الأجواء بصورةٍ شديدة في الجمهورية تجاه هذه الفئة، وأصبح من البيّن أنه يتم حصرهم وعزلهم عن المجتمع عبر خطابٍ مُحدَّد للفتك بهم.
وهذا ما أظهرت شبكة النبأ المعلوماتية جانبًا منه، في تقريرها في تشرين الأول / أكتوبر لعام 2016، إذ ذكرت أن محمود علوي، وزير المخابرات والأمن الوطني، خيّر المسؤولين الإيرانيين مزدوجي الجنسية الذين يعملون في الدولة، بين مناصبهم والجنسية الثانية، ونقلت صحيفة “جوان” الإيرنية -المحسوبة على التيار المحافظ- عن علوي قوله: “الاستخبارات لديها حساسية تجاه المسؤولين الذين حصلوا على الجنسية الثانية بعد توليهم مناصب في إيران”.
وأضاف قائلًا آنذاك: “خيّرناهم بين مناصبهم والإقامة، والجنسية المزدوجة؛ وفي حال اختيار الأمر الثاني فسوف يتم إبلاغ مسؤوليهم بأنه لا يمكن استمرارهم في مناصبهم”.
كما أعلن آنذاك أيضًا، الناطق باسم لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في مجلس الشورى (البرلمان) الإيراني، النائب حسين نقوي حسيني، عزل 39 مسؤولًا يحملون جنسية مزدوجة، بسبب مخاوف أمنية، ونقل عن وزير الاستخبارات محمود علوي قوله لأعضاء اللجنة: “بين المسؤولين البارزين في البلاد، عُزل 39 يحملون جنسية مزدوجة أو بطاقة خضراء أميركية(Green Card)”، وأضاف أن المسؤولين الـــ39 كانوا ضمن 79 مسؤولًا حقّقت وزارة الاستخبارات في جنسياتٍ قد يحملونها.
متابعًا: “إذا ثَبُت لدينا أنهم يحملون جنسيات مزدوجة، سنعزلهم”.
كما تمارس إيران دورًا رِقابيًا شديد الصرامة على مزدوجي الجنسية، إذ كشف وزير المخابرات الإيرانية عن مراقبة ورصد أمني لزيارات الأجانب داخل إيران.
حتى أنه قال: “إن زيارة السيناتور الأميركي، جيمز داباكيس، إلى إيران تمت تحت رصد أمني، وقد زار إيران مرتين إلا أن زيارته الأخيرة كانت تحت السيطرة تمامًا”. ورأى مراقبون أن ما ينص عليه الدستور الإيراني من السماح بتجنيد عناصر من الحرس الثوري للتجسس على بعض الشخصيات البارزة والدبلوماسيين سيعرض البلاد للفتنة.
أي أن البلاد تُوفِّر غطاءً قانونيًا دستوريًّا شرعيًا للقضية، وهذا يَنُمْ عن مستوى جديد أعلى وصلت إليه الجمهورية في قضية مزدوجي الجنسية، وأصبحت القضية تشغل لُباب الدولة وعقلها حتى أنها أدخلته في إطارٍ دستوريّ لئلا يكون هناك مجالًا للاعتراض قط.
ولم تُبالِ قيادات الجمهورية بذلك الأمر، حتى أن المدعِّي العام لطهران، عباس جعفري دولت أبادي، أعلن أن قوائم الاتهام قد صدرت بحق كُلٍ من هودفار، وسياماك نمازي، وزاجاري راتكليف، وإنه يجري تحويل القضايا إلى المحاكم للنظر فيها، وذلك حسبما ذكر موقع ميزان الإخباري الرسمي للقضاء.
قراءة تفسيرية
ونحن نضع يدنا هُنا، وتتملك الجميع الرغبة في معرفة ما هي العِلل والأسباب التي أفضت لأفعال وصنائع إيران في أبنائها الذين يمتلكون جنسيةً ثانية، وجعلوا حياتهم محوفة بالخطر والتهديد، وكأنهم ارتكبوا جُرمًا جنائيًّا، ولكن لا غرو في أن الجمهورية التي صنعت معيارًا جديدًا للجريمة والعقاب منذ عام 1979 في أن تصنع اتهامًا كهذا وتعاقب في سبيله جُملةً ضخمة من أبنائها، وتستخدمهم في عمليةٍ خاصة لتحقيق رغباتها أمام الغرب وأميركا.
المدير التنفيذي لـمركز حقوق الإنسان في إيران، والذي يتخذ من بروكلين في نيويورك مقرًا له، هادي غايمي، قال إن كل ما يحدث للرعايا المزدوجين هو أمرٌ “سريالي وغير منطقي”.
كما يضيف قائلًا: “أنهم بيادق في لعبة شطرنج كبيرة بيد أشخاص لا يريدون التغيير، ويرغبون في التمسك بسلطتهم وامتيازهم، ويريدون تخويف الناس”.
وتكوّن لدى غايمي اعتقاد أن الهدف من استهداف الرعايا المزدوجين؛ هو مقايضتهم بالأموال الإيرانية المجمدة لدى الغرب.
وهذا هو السبب الأول، وهو أن إيران ما تقُم به فقط هو عملية استخدام رعاياها من مزدوجي الجنسية،
كأوراق ضغط أو مساومة أو مقايضة، من أجل تحقيق مكاسب جبرية منهم، لا سيما أن الغرب وأميركا كان يرفضون رفضًا تامًا وقاطعًا الجلوس مع إيران على طاولةٍ واحدة، وبالتالي لم يكن لدى إيران وسيلة سوى إجبارهم على الجلوس معهم، لعبوا على أشد النقاط التي استنفارًا للغرب، وتجعل من التدخل في سيادات الدول طبيعة لازمة فيه، وهي إيذاء مواطنيهم وعقابهم على أراضي غيرهم والتنكيل بهم والعسف بحرياتهم وقمعهم وتعذيبهم، ووضع ليبرالية هذه الدول في اختبار، كما حدث ويحدث في كثيرٍ من الأحايين، ومن ثمَّ ستخضع أوروبا لهم طوعًا أو كرهًا.
وتختلف هذه المكاسب حسب الحاجة الإيرانية سواء الرغبة في الحصول على الأموال المُجمَّدة، أو إجبار الغرب على الجلوس على مائدة التفاوضات، وأي شيء من هذا القبيل.
وعلى سبيل المثال، ما شهده يناير / كانون الثاني من عام 2016، حينما تم احتجاز أربعة أمريكيين من أصلٍ إيرانيّ في إيران، وقد كان من بينهم جيسون رضائيان، الذي قدمناه سلفًا، والذي قد أُطلِق سراحه في إطار عملية تبادل. وفي المقابل خُفِّفت الأحكام على سبعة إيرانيين محتجزين لدى الولايات المتحدة الأميركية، وكانت تُهم أغلبهم تتعلق بمخالفة العقوبات الأمريكية على إيران. وقد كان هذا التخفيف يقف جنبًا إلى جنب مع الــــ 400 مليون دولار الذين تحصلت إيران عليهم من الولايات المتحدة الأمريكية.
وفي تشرين الأول / أكتوبر من عام 2015، احتجزت السلطات الإيرانية الرئيس السابق للتخطيط الاستراتيجي بشركة نفط الهلال في طهران، سياماك نمازي. وكان نمازي أمريكيًا من أصلٍ إيرانيّ، وقد عمل من قبل مستشارًا في إيران لسنوات شجع فيها الشركات الأجنبية على الاستثمار في الجمهورية الإسلامية.
وقد توجه باقر والد نمازي البالغ من العمر 80 عامًا، وهو مسؤولٌ سابق بصندوق الأمم المتحدة للطفولة إلى إيران في فبراير / شباط 2016، ولكن السلطات الإيرانية اعتقلته هو الآخر، واحتُجِز باقر الذي يحمل الجنسيتين الإيرانية والأمريكية أيضًا في سجن إيفين مع ابنه.
وقال آنذاك المحلل المتخصص في الشأن الإيراني لدى مركز كارنيجي للسلام الدولي، كريم سجادبور، إن الهدف من القبض على نمازي فيما يبدو هو إرسال إشارة لأصحاب الجنسيات المزدوجة الذين يمكنهم مساعدة الشركات الأجنبية على الاستثمار في البلاد.
مضيفًا أن خطر الاعتقال سيردع الإيرانيين الأثرياء من أصحاب الجنسيات المزدوجة في الشتات من الاستثمار في إيران وهو ما “سيقلل المنافسة الاقتصادية مع الحرس الثوري”.
وهذا هو السبب الثاني، والذي ظل لفتراتٍ غير مُعلَن عنه ومُوارَبًا عن الأنظار، وهو ما شكّله مزدوجو الجنسية من خطرٍ على إمبراطورية الحرس الاقتصادية في إيران، إذ عُدّ تدفق الإيرانيين الذين غادروا البلاد وقت قيام الثورة، إلى إيران مجددًا، بمثابة تهديدًا جازمًا على الحرس، لأن هؤلاء حينما يعودون؛ فهم سيعودون مُحمَّلين بثرواتهم وأموالهم ناشدين تأسيس استثمارات، تُدِّر عليهم أرباحًا، ومُوجِدين أيضًا حركة اقتصادية تُحرِك بحيرة الاقتصاد الإيراني الراكدة.
وهو الأمر الذي كان ينشده روحاني، ولذلك خاطبهم بالعودة عند بداية ولايته الأولى، وهذا ما لم يأت على هوى الحرس الذي قد خلع لتوه ردائه العسكري وأصبح قوة مجتمعية وسياسية واقتصادية هائلة يصعب تحجيمها، وتُناطِح قوتها ونفوذها، قوة ونفوذ الدولة الرسمي، ما كل هذا إلا بإذنٍ من المرشد.
وهذا ما عرّج بكثيرٍ من الباحثين ووكالات الأنباء إلى التأكيد على أن حال مزدوجي الجنسية البائس والتعيس، كان سببًا كبيرًا فيه يعود إلى الحرس الثوري، والذي افتعل قضايا التآمُر على النظام الحاكم، وتهديد أمن الجمهورية، والتجسس والعمالة لصالح دولٍ أجنبية، والانخراط في أنشطةٍ مخالفة لهُوية الجمهورية الإسلامية، وإلى ما هذا القبيل من تُهمٍ وجرائم وجنايات تُودِي بك عبر أقصر الطرق إلى حبل المشنقة الذي يقطر منه دماء الكثيرين من هؤلاء.
ومن ثمَّ كان تدخُل الحرس الثوري في أمر مزدوجي الجنسية، إحدى العبوات الناسفة التي تقع على طريق روحاني نحو نفُوذٍ حقيقيّ واستقلال بالقرار في سُلطة البلاد، وبالتالي أصبحت قضية مزدوجي الجنسية أمرٌ وشأوٌ كبير، وأضحت السُلطة في إيران تستخدمهم كقرابين تُقدِمهم للمذبح واحد تِلو الآخر، تُعلِق عليهم أخطائها وخطاياها، وتتهرب عبرهم من فشلها في حل مسائل سياستها الخارجية وعدم نجاحها في تحقيق مفاوضات أو تسويات لا تأت عبر هذا الطريق، غير آبهةٍ بأي تنكيلٍ واقع أو عسفٍ طائل.
ويظل هذا الملف مُشرَّعًا لا تُطوى ورقاته، حتى يجِد الجديد في أسلوب إدارة النظام للجمهورية في ملفاتها الخارجية، أو يخضع الغرب لتسويةٍ على الشروط الإيرانية. كما تضع القضية سؤالًا حاكميًا حول ماهية استخدام إيران لقضية مزدوجي الجنسية فهل هي مسألة هُوية تذود به إيران عن أعرافها وسليقتها أم هي مجرد ورقة قوية التأثير على الغرب للإذعان لمطالبه.
المصادر