الجمهورية التي تخوض صِراعًا خارجيًا في ذُروة شراسته وأعلى درجاته مع الولايات المتحدة الأميركية والغرب، على إثر الوضع في سُورية، والضربات التي وُجِّهت إلى النظام السُوري، بالإضافة إلى التدخُل الإسرائيلي، والنزاع الذي بدا يأخذ منحنىً تصاعديًا بين الطرفين، استفاقت على أزمةٍ ماليةٍ جديدة تعتصر اقتصادها الهش والمتداعي، وقد كمُنت هذه الأزمة في عُملتها (الريال)، والذي انخفض إلى مستوياتٍ قياسية جديدة؛ في ظل تدافع وتزاحم المواطنين في البلاد على شراء الدولار الأميركي، فأعمل الريال في اقتصاد الجمهورية إثخانًا ونكالًا على ما فيه من عِلاتٍ ومآسىٍ.
فما هو تقييم الأزمة؟، وما أسبابها؟، وكيف السبيل إلى حلحلتها؟، ولماذا حدثت من الأساس؟.
الأزمة من ملفات الماضي القريب
كان قد شهد شهر ديسمبر / كانون الأول من عام 2016 ، انخفاضًا قياسيًا لسعر العملة الإيرانية، وقد أصبح سعر صرف الريال الإيراني في السوق الحرة آنذاك 41 ألفا و500 ريال مقابل الدولار، وقد كان في أواخر 2012 -أي قُبيل تطبيق العقوبات-، 40 ألف ريال للدولار.
ثم أنه في الرابع والعشرين من شهر تموز / يوليو لعام 2017، قررت الحكومة الإيرانية اعتبار “التومان” هو العملة الرئيسية للبلاد عِوضًا عن الريال، فيُصبِح التومان مساوىً لعشرة ريالات؛ وقد كان هذا هو الحل الوحيد لمواجهة حالة التضخم الذي اعتصر البلاد، ومحاولة الحيلولة دون استمرار نزيف العملة في الانحدار والتقهقُر والانخفاض؛ إذ فقدت العملة الإيرانية ثلث قيمتها تقريبًا أمام الدولار على إثر سنوات الحظر التي خنقت الاقتصاد والمجتمع الإيراني.
وعلى إثر هذا القرار تم إلغاء “صفرًا واحدًا” في العملة الجديدة، وقد كان يبلغ سعر صرف الدولار آنذاك بالعملة القديمة في السوق الإيرانية 32668 ريالًا، زمن ثمَّ أصبح سعر صرف العملة الأميركية بالعملة الجديدة 3266.8 تومان.
ثم شهد شهري أكتوبر ونوفمبر / تشرين الأول والثاني من عام 2017، هبوطًا وانحدارًا آخر ، ففي أكتوبر، تأثرت العملة فقط بأحاديثٍ دارت وتقاريرٍ نُشِرت في الصحافة ووكالات الأنباء حول احتمالية عدم مصادقة دونالد ترمب على التزام إيران ببنود الاتفاق النووي. ثم كان هُناك أمرًا جديدًا في شهر نوفمبر إذ أُعلِن عن عجز الميزانية في النصف الأول من العام المالي الإيراني آنذاك، وتم تداول تقارير حول التلاعب في سوق الصرف العملة الأجنبية لتعويض جزء من العجز في الميزانية، فانهارت العملة مجددًا.
تجدد الأمر في شُباط / فبراير من هذا العام، إذ امتدت طوابير المواطنين لشراء الدولار أمام مقرات الصيرفة والبنوك، وسقط الريال مجددًا في هُوة سحيقة، إذ انتثرت أخبار في الشارع الإيراني وسط العوام حول أسعار الذهب والدولار وتراجُع الذخائر المالية؛ قد كدرت الصفو الذي كان يحاول روحاني أن يُرسِيه في السوق الإيراني، وقد عكف هو وحكومته على طمأنة الشارع والمواطنين بعدم المجازفة بأموالهم في سُوق العُملة، وهذا ما لم يحدث.
الانفجار مجددًا
هذا السِلسال الممتَد من الأزمات ما كان لينتهي، وهو أمرٌ من طبائع الأمور؛ إذ أن المُسببات لم يتم حلها بصُورةٍ جذرية ناجعة، وأصبح الاقتصاد بالكُلية، كما يُقاَل في العامية المصرية “على كف عِفريت”. فقد تفجر الأمر كالعادة، وإن كان هذا العام يسير بطفرةٍ أسرع مما كان عليه في الأعوام السابقة.
قناة CNBC الأمريكية قد أشارت في تقريرٍ لها إلى حقيقة الوضع الذي تعتاشه العُملة في إيران، حتى أن البنوك التي ازدحمت الشوارع القاطنة فيها قد وصدت أبوابها أمام أُلوفٍ من المواطنين يريدون شراء الدولار، لقد كانت حالةً من الفوضوية التي ترتع في جسد الاقتصاد لا الشوارع والأحياء التي اكتظت بها الجماهير.
أشار التقرير أيضًا، إلى ملحوظةٍ هامة، وهي أن الدولار الواحد أصبح يساوي 60 ألف ريال؛ بينما كان الدولار يساوي 36 ألف ريال عندما تسلم الرئيس الإيراني حسن روحاني السلطة، عام 2013. وكان انخفاض قيمة العملة مستمرًا بشكل أساسي منذ الثورة الإسلامية عام 1979، حيث كان الدولار الواحد يساوي وقتها 70 ريالًا فقط.
لم تستطع الدولة أن تصمت عن هذا الأمر وعند هذا الحد، فقد أعلنت الحكومة الإيرانية طهران أنها ستحدد سعر الصرف لـ 42 ألف ريال للدولار، وقد هددت بعقوباتٍ قاسية، تشتمل على السجن، لأي شخص يحاول صرف العملة بسعرٍ مختلف بخِلاف ما تم تحديده.
فقد قال إسحاق جهانغيري، النائب الأول للرئيس الإيراني: “اتخذت إجراءات لضبط سعر صرف الدولار الذي سيصبح اعتبارا من اليوم 42 ألف ريال، وسيكون متاحًا لجميع الجهات المعنية بالقدر الذي تحتاجه للاستيراد أو لتسيير أنشطة الخدمات، ولجميع المسافرين للخارج، والطلاب الذين يتابعون دراستهم خارج إيران”.
مضيفًا: “سيتم توفير السيولة اللازمة بموجب الضوابط القانونية عبر البنوك ومراكز الصرف المرخص لها وبمراقبة من البنك المركزي”، مؤكدًا أن بلاده لا تعترف بأي سعر آخر للدولار “،حيث سنعتبره عملية تهريب وسيتم التعامل معه قانونيًا”.
وكما قال تقرير موقع “الجزيرة نت”، فقد ظلت إيران منذ فترة تسعى لتوحيد السعر في السوق المفتوحة المستخدم في معظم المعاملات التجارية والسعر الرسمي الذي هو سعر مدعوم لا يُستخدَم إلا مع المؤسسات الحكومية وبعض مستوردي السلع ذات الأولوية.
السبب المجهول
لكل حادثةٍ أو موقف تنخفض فيه العملة في الجمهورية الإسلامية، كانت تتلاحق المُسبِّبات وتكثُر المُسوغات حتى أننا ما نكاد أن نضع يدنا على سببٍ أو مُسوغ مُحدَّد لما تعتاشه العُملة في إيران.
ولكن ما يسير بنا ونصل عبره إلى طريقٍ مُحدَّد وتفسيرٍ واضح للانهيارات التي تترى على ريال الجمهورية، وتجعله هباءً منثورًا أمام قُوة الدولار؛ هو البيئة الاقتصادية الهشّة للوضع المالي في إيران، فارتفاع حجم الميزانية وكثرة العائدات والوُفورات النقدية المُستصدَرة من عمليات بيع النفط والوقود، ليست مؤشر قطعي على سلامة حركة الاستثمار وسلاسة تدفقها في البلاد، أو أن الوضع الاقتصادي العام بخير ويُشجِع على بقاء العُملة في حالةٍ نِديّة مع العملات الأخرى، لاسيما الدولار.
لم يتوقف المُحلِّلون أو خبراء الاقتصاد في إيران وحول العالم، عن وضع توصيفٍ للأسقام والأمراض التي أنهكت جسد الريال في إيران، والسبب الأشّم كان يكمن في الولايات المتحدة الأميركية، التي سبّبت لاقتصاد إيران صُداعًا مزمنًا، ورأس تلك المُسببات هو دونالد ترامب، الذي منذ لحظة إعلان فوزه بالانتخابات الرئاسية الأميركية، والذي يحمل رؤىً شديدة الحدية والقطبية مع الجمهورية، حتى تهاوت عُملتها وبورصتها صبيحة اليوم التالي.
وما زالت تغريدات ترامب التي يُدوِّنها عبر حسابه -الذي لا يُوقِّف من خلاله سيل رؤاه وأحكامه ومنهجه في الحكم- على منصّة تويتر، تؤثر بقُوة على عُملة إيران ووضعها داخل البلاد، إذ ما كتب تدوينة هاجم فيها إيران أو سياساتها أو أشخاص تابعين لها. والوضع يزداد عُسرةً ووُعورة كلما نفذت الأيام من المدة التي حددها ترامب للاتحاد الأوروبي والدول المشاركة في الاتفاق النووي مع إيران 5+1، والتي أخرج فيها ترامب قراره الأخير بأن بلاده ستنسحب من الاتفاق ما لم يتم تعديله على الصورة التي ترتضيها أميركا.
وتُشير تقارير عدة، أن انسحاب ترامب من الاتفاق ما هو إلا مسألة وقت وأيام معدودات، وشهر مايو / أيار، هو من سيُحدد هذا الأمر، وستكون ضربة قاصمة للريال الذي لن يقوى كثيرًا عقب هذا القرار.
سببٌ آخر، وهو حالة عدم اليقين لدى المواطنين الإيرانيين حول الأوضاع الاقتصادية والسياسية في البلاد، هذه الحالة هي التي تجعل الإيرانيين دومًا في حالة طرقٍ وقرع لأبواب البنوك أولًا بأول لتحويل أموالهم لصورةٍ تُدِرّ عليهم صورةً حياتية ومعيشية سويّة، بالإضافة إلى عدم الاطمئنان النفسي والهلع والذُعر الدائم الذي يزور نفوس المواطنين من فُقدان مُدخراتهم لقوتها الشرائية. وهذه إحدى عيوب اقتصاد العصر الحديث،الذي سُرعان ما ينهار عبر الشائعات فقط ليس إلا، لاسيما اقتصاد السوق المحلي.
نأتي إلى سببٍ ثالث، وهو الفساد المالي وحالة الفوضى التي تعُم إيران، إذ أن هناك مؤسسات تطغى بميزانياتها التي تفوق ميزانية الجمهورية إجمالًا، كما أن هناك أموالًا لا يُقدَّر حجمها ولا يُعرَف وزنها في السوق المالي كنايةً عن ضخامتها، يتم تسييرها ونقلها لجهاتٍ تابعةٍ للمرشد، يفعلون بها ما يشاءون ولا يخضعون عبرها لأية جهاتٍ رقابية، أو جهاتٍ تحاسبهم على تصريفها.
كما تتحكم ميكانيزماتٍ اقتصادية متعددة في عملية انهيار العملة في إيران، كعمليات المضاربة التي تتم خارج إطار ضبط الحكومة لها. بالإضافة إلى قيام الحكومة بخفض أسعار الفائدة البنكية، مما ترتب عليه سحب المُودِّعين 20 مليون دولار من البنوك، وهذا ما ساهم في انهيار العُملة.
أيضًا سببًا آخر، وهو طامة الأسباب، والذي يتمثل في أن الحكومة الإيرانية عندما يكون هناك عجز في الموازنة، تسمح الحكومة لسعر صرف الريال بأن يرتفع مقابل الدولار بشكلٍ متعمَد لتقليص عجز الموازنة، أي يتم تغطية العجز الهائل في الموازنة عبر هذا المسلك الذي تنتهجه الحكومة، كما يتم نوجيه الاتهام للحكومة بأنها المستفيدة الرئیسية من ارتفاع أسعار الدولار، وذلك لبیع مخزونها من الدولار والذهب في الأسواق بأسعارٍ مرتفعة بهدف سد عجزها في الموازنة. وهذا ما يقابله نفيًا تامًا من قِبل الحكومة، حتى أن روحاني تدخل بالتصريح رسميًا، لنفي هذا الأمر.
كما يُؤكِد خبراء اقتصادیون، ووسائل إعلام رسمية، ومسؤولین في الحكومة، أن الحكومة تواجه عجزًا في المیزانية یبلغ 12 ملیار دولار، مؤكدین حینها أن الحكومة ستتوجه نحو العزف علی وتر بیع الدولار بأسعارٍ مرتفعة من أجل سد العجز في ميزانيتها. وهذا ما أُكِّد من قِبل البنك المركزي الإیراني عبر قيامه بضخ كمیات كبیرة من الدولار إلی الأسواق، وبیع الذهب ضمن مزایداتٍ حكومية رسمية في هذا الاتجاه.
في تلك الحالة الهوجاء من الأسباب التي تعتصر عملة إيران، فهل سيقوى روحاني على مواجهة المحافظين في جولةٍ جديدة من الصراع الدائر بينهما، ويُخرِج الريال من عثراته المتكررة، أم سيُطيح الريال باقتصاد الدولة التي تقف في قلب العاصفة ولا تواجهها؟.
وهذا ما ستكشف عنه الإجراءات لمُتخَذة في الأيام المقبلة.
المصادر