في ديسمبر عام 1991، التقى الرئيس الإيراني آنذاك هاشمي رفسنجاني وولي العهد السعودي الأمير عبد الله بن عبد العزيز آل سعود على هامش قمة منظمة التعاون الإسلامي في داكار في السنغال. وفي مناورة دبلوماسية نادرة، اتفق الطرفان على إجراء محادثات حول استعادة العلاقات التي عانت لسنوات بعد الحرب الإيرانية العراقية، ومقتل المئات من الإيرانيين خلال موسم الحج في مكة عام 1987. فأرسل رافسنجاني سفير إيران في ألمانيا، سيد حسين موسويان، للتفاوض مع ولي العهد السعودي.
بعد اجتماع أولِيّ في مدينة الدار البيضاء المغربية، سافر موسويان إلى الرياض لإجراء المزيد من المحادثات مع عبد الله في مقر إقامته الخاص. وبعد ثلاث ليال من المفاوضات المكثفة، التي تناولت قضايا تتعلق بالأمن الإقليمي والعلاقات الثنائية، تم وضع اتفاق مهد الطريق لفترة من الوفاق بين البلدين.
وفي إشارة إلى اجتماعه مع الملك فهد عام 1996 ، قال موسويان لقناة الجزيرة إن العاهل السعودي “كان سعيدًا ببناء علاقات ثنائية” مع إيران، لكنه “شعر بخيبة أمل كبيرة” لعدم تمكن العراق من الانضمام إلى الحلف، في أعقاب حرب الخليج الأولى. وأكمل أن الاتفاقيات أمنت علاقات سلمية بين إيران والسعودية لعقد كامل، مشيرًا لزيادة التعاون في مجال الأمن والتجارة بين الدولتين.
في عام 1997، رحبت طهران بزيارة ولي العهد السعودي الأمير عبدالله.
وبحلول عام 1998، كان رفسنجاني يزور واحة فدك، وهو موقع مقدس للمسلمين الشيعة، وأصبح بهذا أبرز قائد إيراني يزور المملكة العربية السعودية منذ الثورة الإسلامية عام 1979. وقد رافقه مستشاره للأمن القومي، حسن روحاني -الرئيس المستقبلي-.
الزيارة مهدت الطريق لعلاقات أقوى، وكذلك فعلت زيارات القادة الإيرانيين الكبار اللاحقة إلى السعودية، وفي 2001 كانت الطفرة، حين وُقعت اتفاقية أمنية متعلقة بالإرهاب والإتجار بالمخدرات.
وقال الصحفي المقيم في طهران “روح الله فقيهي” الذي أجرى مقابلة مع الرئيس رفسنجاني عام 2015، أن الرئيس الراحل تكلم باعتزاز عن علاقاته مع القادة السعوديين، وأعرب عن أمله في إحياء الدبلوماسية بين البلدين حتى وفاته 2017.
بعد ما يقرب من ثلاثة عقود منذ ذلك الاجتماع المصيري في عاصمة السنغال عام 1991، تجد إيران والسعودية نفسيهما على طرفي نزاع سياسي إقليمي متفاقم -من الحرب في اليمن والتوترات في العراق والبحرين ولبنان والنزاع المستمر في سوريا.
في شهر مارس الماضي، شبه ولي العهد السعودي الجديد الأمير محمد بن سلمان، خامنئي بهتلر. في المقابل، يشير المسؤولون الإيرانيون في كثير من الأحيان إلى بن سلمان بـ “المتوهم” و “غير الناضج” و “ضعيف العقل”.
في قمة جامعة الدول العربية في الرياض يوم الأحد، أدانت المملكة العربية السعودية ما وصفته “بالتدخل الصارخ” الإيراني في الشؤون الداخلية للدول العربية.
“العامل الأمريكي”
يقول موسويان الذي أصبح الآن باحثًا كبيرًا في جامعة برينستون في الولايات المتحدة أن ما أسماه بـ”حقبة الدفء” بين إيران والسعودية تحولت إلى العكس تمامًا بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003.
وكانت السعودية قد عارضت قرار الرئيس الأمريكي جورج بوش حينها بغزو العراق خوفًا من أن يؤدي خلع صدام حسين إلى تمكين الأغلبية الشيعية في العراق على حساب السنة، ومن ثم تغيير توازن القوى الإقليمية لصالح إيران.
وأصبح هذا الشك حقيقة، حين دفع الغزو الأمريكي العراق إلى دائرة النفوذ الإيراني، بينما ترك حليفه السعودي، يشعر بالضعف.
وحتى عندئذ، استمر الملك عبد الله في الحفاظ على اتصاله مع الإيرانيين، حيث رحب بالرئيس محمود أحمدي نجاد في زيارة رسمية في عام 2007. وعلى الرغم من التوترات الشيعية-السنية في البحرين في عام 2011، قام أحمدي نجاد برحلة أخرى إلى الرياض في عام 2012.
ومع عام 2015، توفي الملك عبد الله، وانتقلت سلطة المملكة العربية السعودية إلى أخيه غير الشقيق، سلمان بن عبد العزيز آل سعود، الذي جعل العلاقة أكثر تصادمية مع طهران. في نفس العام، وقعت إيران اتفاقية نووية مع القوى العالمية.
وقال محجوب زويري، الباحث والمدير الإيراني ل مركز الدراسات الخليجية في جامعة قطر، أن المملكة العربية السعودية شعرت “بالتهميش التام” عندما دعم الرئيس الأمريكي باراك أوباما الصفقة النووية الإيرانية.
وقال الزويري أن رحيل أوباما واستلام دونالد ترامب في عام 2017، قد قدم للرياض فرصة لاستعادة مكانتها كقوة مهيمنة في الشرق الأوسط. وكرئيس، قام ترامب بأول رحلة خارجية له إلى المملكة العربية السعودية. كما هدد بالتخلي عن الصفقة النووية الإيرانية، وعين متشددين مناهضين لإيران في حكومته.
وقال الزويري: “أن السعوديين يريدون أن يروا هزيمة دبلوماسية وسياسية لإيران ما دام الجمهوريون في السلطة”. وأكمل: “هم يريدون أن يظهروا إيران معزولة ومهمشة وتواجه ضغوطاً”.
وعلى حد قوله: ” المملكة العربية السعودية لا تريد “خروج إيران من اللعبة” بالكامل، لأن وجودها يمنح قادة الرياض الجدد (الشرعية). هم يريدون إظهار أن هناك تهديدًا، فيتمكنوا من استخدام هذا للأغراض الخارجية والداخلية، بما في ذلك التعزيز العسكري”.
أما رامي خوري، وهو زميل في السياسة العامة في الجامعة الأميركية في بيروت، فيقول في موقعه الإلكتروني “العربي الجديد” في مارس الماضي، أن جزءًا من المشكلة هو أن إيران فشلت في مطابقة “خطبها الوردية” مع نشاطها عبر الشرق الأوسط.
وقال أنه وسط وعد إيران بالوفاق، تتساءل العديد من الدول العربية: “ما الذي تفعله القوات الإيرانية، والأموال، والأسلحة، والتكنولوجيا … في العديد من الدول العربية”.
“احتمال ضعيف للحوار”
أدى غزو السعودية لليمن في مارس 2015، ومقتل مئات من الحجاج الإيرانيين خلال موسم الحج 2015 ،وإعدام الزعيم الشيعي الشيخ نمر النمر في عام 2016، إلى مزيد من العقبات في علاقتها مع إيران.
فعقب إعدام نمر، هاجم الإيرانيون السفارة السعودية في طهران، مما أدى إلى انقطاع علاقاتهما الدبلوماسية.
وقال سينا توسي الخبير الإيران بجامعة برينستون: “التوترات بين إيران والسعودية وصلت الى حد أن احتمالات الحوار ضعيفة جدًا وأقل نجاحًا دبلوماسيًا”.
وقال توسي أن خطاب القيادة السعودية، بما في ذلك من بن سلمان ووزير الخارجية عادل الجبير “يعكس وجهة نظر سلبية حول إيران ودورها الإقليمي”.
وقال كل من بن سلمان وجبير أن إيران هي المسؤولة عن معظم الصراعات في المنطقة، ووصفت طهران بأنها “دولة ترعى الإرهاب”.
وصرح توسي: “الزعماء السعوديون يشعرون أنهم آخر بلد عربي يقف في طريق الهيمنة الإيرانية الإقليمية. لذلك يعتقدون أن أي تعامل مع إيران، سيكون بمثابة رضوخ لها ولدورها في المنطقة”. واستدل على كلامه بأن جهود الرئيس الإيراني روحاني ووزير خارجيته جواد ظريف للتواصل مع الرياض قد رُفضت.
وفي عام 2013، قام روحاني بمبادرات للمملكة العربية السعودية لإجراء حوار. وفي أكتوبر عام 2017، قدم ظريف حلًا مرضيًا لكل الأطراف في مقال نشرته المجلة الأمريكية “ذي أتلانتك”. كما أعلن في يناير من هذا العام أن إيران مستعدة للتوقيع على “معاهدة عدم اعتداء” مع جيرانها.
وصرح توسي أن الشعب الإيراني لا يزال “داعمًا وبقوة” للدبلوماسية. وأن إعادة انتخاب روحاني في عام 2017 تشير إلى دعم الجمهور لسياسته الخارجية البراغماتية.
لكن “علي نوراني” الصحافي الإيراني في طوكيو الذي يعمل في محطة “إن.اتش.كيه” التلفزيونية في طوكيو، قال أن جانبي الخليج يتحملان مسؤولية الأزمة.
وقال “أعتقد أن جزءًا من المشكلة هو أن البلدين لا يريدان تهدئة التوتر بينهما”.
واتفق معه زويري، قائلًا أن جيران إيران العرب ينظرون إلى روحاني كمعادٍ، في حين أن بن سلمان يؤكد التوقعات الإيرانية التي تصفه بأنه “غير ناضج سياسياً”.
“البحث عن محاور”
وقال “إسفنديار باتمانغيليدج”، وهو خبير في دبلوماسية الأعمال الإيرانية، أن السعودية لديها ميزة في “الحرب الكلامية” الحالية.
وقال: “أعزو ذلك في معظمه إلى حقيقة أن السعودية تتمتع بالأفضلية على إيران بسبب اتصالاتها وصلاتها الكبيرة”.
وأكد أن رحلة بن سلمان الأخيرة إلى الولايات المتحدة تظهر بوضوح إمكانية الحكومة السعودية الهائلة للوصول إلى أكثر الشخصيات تأثيراً في السياسة الأمريكية والإعلام والأعمال التجارية.
وأطرد باتمانغيليدج أنه طالما أن الشعب السعودي يكافئ بن سلمان بسبب لهجته ضد إيران، فإن “الدبلوماسية ستبدو غير مقبولة”.
وأضاف أن موقف السعودية المتشدد يعقد أيضًا أي دعم من جانب إيران للدبلوماسية. فقال: “لو أن إدارة روحاني قررت مواصلة الحلول الدبلوماسية، فإنها ستواجه مقاومة عنيفة من داخل إيران للسبب ذاته”.
وأكمل أنه من غير الواضح من الذي يمكنه لعب دور الوسيط بين البلدين بفعالية: “ترامب لا يصلح للعب دور المحاور، بسبب كراهيته تجاه إيران. أما حكومة عمان، التي لعبت دور الوسيط في المنطقة في كثير من الأحيان، فترى أن مجال الحوار محدود وضيق”.
في غضون ذلك، حذر توسي، من جامعة برينستون، من أن تهديد ترامب بالانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني من شأنه أن يزيد من الصدع بين السعودية وإيران.
وقال: “إن انسحاب الولايات المتحدة سيقلل إلى حد كبير من فرص الحوار والتعاون الإقليمي وسيزيد من المعارضة الإيرانية للمصالح الأمريكية في المنطقة”.
المصدر