في الثامن عشر من هذا الشهر، ذكر خامنئي في خطابٍ بطهران، بمناسبة حُلُول الذكرى الأربعين للثورة الإسلامية الإيرانية، التي اندلعت عام 1979، والذي نُشِر على موقعه الإلكتروني، أنه: “حدث تقدُم في مجالاتٍ عدة؛ لكننا نُقِرُّ بأننا ظللنا متأخرين في مجال القضاء”.
وأضاف: “بكل تأكيدٍ لدى الناس انتقادات لبعض القضايا في البلاد، ونحن على عِلم كامل بهذه الشكاوى. لكن عندما يتعلق الأمر بمسألة الثورة والمنظومة، يخرج الناس للدفاع عنهما”. وتابع أنه من الضروري الاعتذار إلى الله والشعب الإيراني جرّاء هذا التقصير.
كانت كلمات خامنئي، هي إحدى المحاولات المستمرة منه، والتي يسير بها منذ انقضاء أحداث الاحتجاجات والتظاهُرات التي اندلعت في أنحاء الجمهورية، خواتيم العام المنصرم ومطلع العام الحالي، لعلاج تداعيات هذه الأحداث ولملمة آثارها والقضاء على مُسبباتها. ويقُم بذلك عبر العديد من اللقاءات والمؤتمرات والندوات التي يُدشِنها؛ في محاولاتٍ منه لإذابة جبال الجليد التي أصبحت بين النظام والشعب.
ولكن يبدو أن خامنئي شريكٌ أصيلٌ ومُكونٌ هام في ما حدث في إيران وما آلت إليه الأمور حينذاك، إن لم يكُن هو رأس الأمر، لاسيما عندما نتحدث عن القضاء.
حادثة سعيد طوسي
سعيد طوسي، هو اسمٌ تم تداوله في الداخل الإيراني، وهو قارئ قرآن في بيت علي خامنئي، ويشارك في أغلب المناسبات الدينية والمذهبية التي تُقام فيه؛ إذ إنه قارئ القرآن المفضَّل لدى خامنئي.
وكان اسم سعيد طوسي مقرونًا بقضيةٍ تفجرت داخل إيران عام 2016، وهي قضية “اغتصاب الأطفال”، والتي كان مُتهمها الرئيسي طوسي، وقد فجّرت مواقع محسوبة على التيار الإصلاحي القضية ، وتناولت هذه المواقع نشر القضية ووصّفتها بـــ “الفصيحة الأخلاقية”؛ إذ أن الشارع الإيراني تناقلها بشكلٍ واسع؛ وهذا ما قد دفع مكتب خامنئي إلى إصدار قرارٍ رسميّ بعدم تداول الخبر على صحف ومواقع إيران الرسمية.
فصل المقال في هذا الأمر هو أن سعيد طوسي محسوب على مكتب خامنئي ويعمل فيه!.
في تشرين الثاني / أكتوبر عام 2016، تناولت مصادر إعلامية خاصة داخل إيران، وجود 20 دعوى قضائية في محاكم طهران رُفِعت ضد سعيد طوسي من قِبل ذوي الأطفال الذين تم اغتصابهم وأغلبهم من العاصمة طهران.
وقد أثارت مصادر إيرانية لموقع “عربي21” ، أن أعداد الأطفال الذين تم اغتصابهم يتجاوز عدد الذين رفعوا دعاوى قضائية في محاكم طهران، وقد خبأ أو أخفى البعض منهم قضية الاغتصاب تلك؛ خوفًا من الفضيحة أو تحت تهديد جهاتٍ أمنية تابعةٍ لمكتب خامنئي.
عن موقع “عربي 21″، نقلنا حديث أحد الأطفال الضحايا على إحدى القنوات التلفزيونية الذي قال: “عندما كنت ضمن البعثة الرسمية الإيرانية للمشاركة في مسابقات القرآن الدولية خارج البلاد، كان طوسي رئيسًا للبعثة الإيرانية، ولكن خلال زيارتنا لهذه الدول الإسلامية، قام سعيد طوسي بتغيير حجز غرف الفندق، وقرر أن ينام في الغرف التي خُصِّصت للأطفال، وبعد ذلك وجدنا أنفسنا بين أيدي طوسي، وبدأ بفعلتهِ الشنيعة، وقام باغتصابنا داخل الفنادق، خلال مشاركتنا في مسابقاتٍ قرآنية خارج إيران”.
مضيفًا بأنه عند رجوعهم إلى إيران تحدث باقي القراء في جلساتٍ خاصة عن تحرش سعيد طوسي، وتعامله غير الأخلاقي معهم، وكشف أحدهم عن اغتصابه، وأنه ليس الضحية الوحيد الذي اُغتُصِب على يد طوسي.
كاشفًا أنه وبالتنسيق مع عوائل الضحايا، قاموا بتسجيل 20 حلقة “CD” عن اعترافات سعيد طوسي بالاغتصاب والتحرش، وقُدِمت إلى مكتب خامنئي، ولكن مدير العلاقات العامة في مكتب خامنئي، أعطاهم اعترافًا موقَّعًا من طوسي بأنه قدَّم توبته، ويعتذر عن أفعاله السابقة ولن يكررها أبدًا.
رُفِعت دعوى قضائية مُجمَّعة، في الشعبة 15، في محكمة طهران المختصة بالموظفين في الحكومة الإيرانية، عقب فشل هذه العوائل في التحصُل على حقوقها وحقوق أبنائها، وبالفعل أدان القاضي، رضا كيان منش، رئيس الشعبة ورئيس المحاكم العُمومية في طهران، سعيد طوسي. وأصدر حُكمه الذي مُقتضاه تطبيق العقوبات الجزائية الإسلامية بحق سعيد طوسي، وفقًا للمصادر الفقهية والقوانين الإيرانية.
لكن حدث الانقلاب في سير القضية، عقب تهديد سعيد طوسي في إحدى المكالمات الهاتفية، التي تم تسجيلها ونُشِرت في وسائل الإعلام، بأنه سيفضح معه 100 شخصية إيرانية متورطة في قضايا التحرش الجنسي والاغتصاب في حال تمت إدانته من قِبل المحاكم الإيرانية.
ذكرت إحدى عوائل الضحايا بأنه: “بعد إدانة طوسي في محاكم طهران، تم إخفاء الملف من المحكمة، بعد تدخل ما يسمى بــ “البيت الرهبري” مكتب المرشد خامنئي، وتم نقل الملف إلى صادق لاريجاني، رئيس السلطة القضائية، في إيران، من أجل لملمة الفضيحة الأخلاقية التي طالت مكتب المرشد خامنئي”.
يُقالُ في العاميّــــــة أنه تم “طبـــخ القضية”، كنايةً عن تلفيقها والتخلُص من أوراقها لتبرئة الجاني، وهو ما حدث فعليًّا، إذ ذكر النائب البرلماني الإصلاحي، محمود صادقي إن محكمة الاستئناف في طهران أصدرت قرارًا بتبرئة سعيد طوسي، دون توقيع وختم رئيس المحكمة.
صادقي شدّد أن هذه القضية تُظهِر تأثيرًا واضحًا على عملية سير العدالة والتحقيقات القضائية من جهاتٍ عُليا في إيران، وأن هذا أظهر خيبةً أمل بين عموم الإيرانيين من العدالة في إيران.
السجون: سيف القضاء المُصلَّت
تم تداول في الآونة الأخيرة، عقب موجة التظاهُرات، ما كانت تُخبِئه السُجون الإيرانية من أحداثٍ أجداثٍ كانت تُلاقِي طريقها نحو القُبُور.
رواية السُلطة أن المُعتقلين يلاقون حتفهم جرّاء الانتحار لا التعذيب أو التصفية، فقد قضى ستة معتقلين نحبهم في السجون بسبب الاجتجاجات والتظاهُرات.
علي بولادي، البالغ من العمر 26 عامًا، وهو من أهالي منطقة تشالوس بمحافظة مازندران شمال إيران، وسينا جانباري الطالب ذو 23 عامًا، قضى نحبه هو الآخر في سجن إيفين بطهران عبر شنق نفسه في حمام، وفاهيد حيدري، البائع المتجول في الشوارع، الذي اُعتُقل ليلة رأس السنة خلال الاحتجاجات، زعمت السلطات أنه قتل نفسه بسكين.
وأخيرًا وليس آخر، أعقبهم منذ عدة أيام، الأستاذ الجامعي والناشط البيئي، كاووس سيد إمامي، والذي لاقى حتفه في سجن إيفين أيضًا، بعد أسبوعين على اعتقاله. وبالطبع كان التصريح المُعلَّب أنه انتحر على إثر قيامهِ بالتجسُس، وقد قدّم اعترافاته على ذلك.
أصبحت السُجون قطعةً من الجحيم في إيران، يتم اقتياد إليها المغضوب عليهم من قِبل النظام وخامنئي بالأخص، ودون أي إجراءاتٍ قانونية بل بمُباركة الجهاز القضائي الخاضع له، كما أن الجهاز يُلبِس عمليات القتل والتعذيب والاعتقال التعسُفي والعُنف والإعدامات تلك صفةً شبه شرعية وأنها ليست بمُستنكًرة.
بيان الأُمم المتحدة الأخير وصّف السجون الإيرانية بأنها “سلخانات” تُمارَسُ فيها كافة أنواع وأشكال الانتهاكات ضد معتقلين على أُمورٍ لم يقترفوها، وتحتل إيران المرتبة السادسة عالميًا في أعداد المعتقلين والسُجناء.
هل يحاول خامنئي تخفيف الضغط؟
في الثالث عشر من فبراير، أصدر علي خامنئي، قرارًا بالعفو أو خفض وتبديل العقوبة عن 564 سجينًا من مُداني المحاكم العامة والثورية، ومؤسستي التعزيرات الحكومية والقضاء العسكري؛ بمناسبة الذكرى السنوية الـ39 لـ”انتصار الثورة الإسلامية”، حسبما ذكرت وكالة الأنباء الإيرانية.
وتأتّى هذا عبر اقتراحِ قدمه رئيس السلطة القضائية، صادق آملي لاريجاني، على علي خامنئي، بإصدار عفوٍ أو تخفيض وتبديل عقوبة هؤلاء المدانين الذين تمتعوا بالشروط اللازمة والتي حددتها اللجنة المركزية للعفو.
كان هذا الفعل من خامنئي قُبيل تصريحاته بتأخُر النظام القضائي في بلاده، وعقب مساهمته وتدخُله الشخصي بإطلاق سراح سعيد طوسي مُغتصِب الأطفال الذي قدمنا حالته، يُمكن تفسير هذا السُلوك بأنه محاولة إمساك العصا من منتصفها قدر الإمكان.
خامنئي أكثر الناس تفهُمًا بمُسببات الاحتجاجات التي وصفته بالديكتاتور ونادت بالموت له وهي سابقةٌ لم تحدث ذي قبل مُطلقًا، إذ أنه يعلم هذا، هو سيُطلِق سراح أعدادًا متوسطةً من المعتقلين وليس جميعهم، لأنه كأي نظام شموليّ لا ينصاع لصوت الجماهير إلا بقدرٍ محدود حتى يضمن بقائه في السُلطة قدر الإمكان ويُطيِلُ حُكمه، وفي الوقت نفسه سيخُرج في اللقاءات والمنتديات معبرًا عن تأخر نظام القضاء في بلده الذي يتحكم هو فيه بصفةٍ شخصية.
كذلك أنه يريد تفويت الفُرصة على مناوئيه السياسيين، وهم أبناء التيار الإصلاحي الذين يقودون هجماتٍ متعاقبة على أركان حكمه في مؤسسات الدولة، لاسيما الملف القضائي وتسييسه.
في تقرير أو ورقةٍ بحثيةٍ لمهدي خلجي، تحت اسم “عسكرة السلطة القضائية في إيران”، والذي نشره في أغسطس / آب لعام 2009، على موقع معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، أظهر فيه أن خامنئي يفرض رقابةً دقيقةً على السلطة القضائية الإيرانية، إذ أنه لا يُعيِّن رئيسها فقط، بل يعمل على تقديم توصياتٍ غير رسمية لمسؤولين كبار آخرين في السلطة القضائية.
الدستور الإيراني يوضح أن السلطة القضائية تُشرِف على جميع الإجراءات القانونية والقضائية، ولكننا نجد أن بعض الهيئات، مثل “المحكمة الخاصة لرجال الدين”، تعمل تحتٍ إشراف مباشر من خامنئي.
كما أن الحرس الثوري، والباسيج، والشرطة، ووزارة الاستخبارات، والمحكمة الخاصة لرجال الدين، يقومون بإدارة العديد من مراكز الاعتقال الإيرانية، ليس للسلطة القضائية صلاحيات قضائية على أيٍّ منها.
خامنئي وصلت سُطوته لئن يتمتع بحق نقض الشريعة الإسلامية لحماية مصالح النظام. فتستخدم السلطة القضائية القانون الإسلامي كأساسٍ لقراراتها عندما يرى خامنئي بأن هذا الاستخدام لا يتعارض مع مصالح النظام، وهذا وفق منظومته المفاهيمية والتعريفية.
هذه السلطة القضائية لا تتمتع بالنفوذ، فهي كطيرٍ مقصوصٍ جناحاه، وقد وصل بها الأمر الذي يمكّنها من تجاهل الشريعة الإسلامية، والقانون الجنائي للبلاد أيضًا.
على خامنئي أن يراجع نفسه كثيرًا، قُبيل أن يشتعل الفتيل مجددًا، اشتعالًا قد يطالهُ هو شخصيًا، وليس هُنالك شخصًا أكثر من خامنئي قابل أن يقع تحت مقصلة الغضب والمحاسبية الشعبية، التي ستسأله من أين لك كل هذا؟.
وهذه المرة لن يقوى خامنئي لا أن يمسك العصا من منتصفها، ولا حتى يقوى على أن يضرب بها من يخرج عن طاعته، فلا بُد أن يُرخِي خامنئي قبضته عن النظام القضائي في بلاده، وأن يمنحه استقلاليةً، حتى لا يصل إلى مرحلةٍ من الفساد لا ينفع فيها علاج أو دواء.
المصادر