لا شك أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية هي الدولة الأم للجمهورية العراقية منذ سقوط صدام حسين الرئيس البغدادي الراحل والذي أعدم بعد شهور من الغزو الأمريكي للعراق في 2003، ومنذ ذلك الوقت تسلمت طهران مقاليد الحكم في العراق بشكل غير رسمي، باعتبار أنها الداعمة للحكومة الشيعية العراقية سياسيا وعسكريا، وذلك ظهر جليا في الحرب التي خاضتها العراق بالتعاون من قوات التحالف الدولي، حيث برزت أسماء قيادات الحرس الثوري في معارك عديدة.
فارس وبابل
وعن النظرة التاريخية، يقول الدكتور محمد سعيد اللباد أستاذ الدراسات الإيرانية، أن «المطامع الإيرانية في العراق ذات جذور تاريخية قديمة تعود إلى العصر البابلي، وهو ما انكشف في الحروب التي نشبت بين بلاد فارس والبابليين الفرس للمرة الأولى، واحتلت على إثرها مدينة بابل عام 539 قبل الميلاد في عهد الإمبراطور الفارسي كورش».
وأضاف اللباد في حديثه لـ«إيران خانة»:«الدولة الفارسية لديها معتقد قوي بأن العراق هي مجرد امتداد استراتيجي طبيعي لها، وهو ما دفع الصفويون إلى اتخاذ مذاهب التشيع، وكذلك تكريسه في العراق بحكم الجغرافيا التي تفصل بين الجانبين بقرابة 1300 كيلومتر فقط، حتى إن الجنوب العراقي تشبع بالثقافة الإيرانية ومنطلقاتها».
وأشار إلى أن الصراع بلغ ذروته مع وصول الثورة الإسلامية الإيرانية إلى الحكم في طهران في العام 1979، إذ اندلعت عقبها بعام واحد حرب الخليج الأولى بين البلدين مباشرة.
غنائم إيران في الغزو الأمريكي
وعن السيطرة الكبرى، أكد اللباد أن إيران في العام 2003 دعمت إيران الغزو الأمريكي للعراق الذي أسقط الرئيس العراقي صدام حسين ، وقد أعلنت طهران تأييدها الكامل لأول حكومة تشكلت بعد الاجتياح الأمريكي للعراق.
وأشار إلى أن الغزو الأمريكي بمثابة فرصة كبرى للتخلص من أ صدام حسين، وقد فتحت المجال بعد ذلك بشكل كبير لزراعة النفوذ الإيراني في حواضر العراق بسهولة شديدة، بعد التفكك الذي أصاب البلاد بعد الغزو بعد تشكيل مجلس الحكم الانتقالي في العراق الذي دعمت إيران أشخاصه بلا حدود وأيدت خطواتهم.
التوغل
توغلت إيران بعد ذلك شيئًا فشيء لتمكن رجالها وتدعمهم في جميع مفاصل الدولة بإظهار المكون الشيعي على باقي مكونات الشعب العراقي سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، ففتحت الحدود مع إيران بعد حل وتسريح الجيش العراقي، وتوالت المليشيات في التكوين على إثر ذلك في الجنوب العراقي.
فيما بدأت تشكل الأذرع الأمنية والعسكرية المدربة إيرانيًا من قبل فليق القدس، وظهرت في هذه الأونة فرق الموت التي استهدفت تصفية الحسابات مع المكونات السياسية والمجتمعية الأخرى في العراق.
هذا وقد شرعت إيران في دعم حزب الدعوة الإسلامية الشيعي وجعلت ثقل مركز الحكم فيه، وكذلك المجلس الأعلى للثورة الإسلامية الذي اعتبره البعض أحد أذرع إيران السياسية في العراق، وقد تحددت الشخصيات التي تشغل المناصب السياسية الحساسة في العراق من هذه الأذرع.
الهيمنة السياسية
سعت إيران على توثيق روابطها مع الحكومات العراقية المتوالية منذ الغزو، وتمكنت من ذلك تمامًا عن طريق أذرعها السياسية التي تلاعبت بالعملية السياسية برمتها ونجحت في الهيمنة على مراكز صنع القرار في بغداد مبكرًا.
وقد لعبت إيران على تناقضات البيت الشيعي الداخلي الذي صنعته بيدها عقب الغزو، وحرصت كل الحرص على جعله في صورة أضعف ما تكون، في حين تعمل طهران كمرجع لهذا البيت في حال اختلافه، لتُبقي إيران خطوط اللعبة في جعبتها، دون تغليب أحد على الآخر، إذ أصبح الساسة العراقيون منذ ذلك اليوم يحجون إلى طهران لحل أزماتهم الداخلية.
وكأحد مظاهر الهيمنة السياسية الإيرانية على العراق يمكن النظر إلى مواقف العراق الخارجية ومطابقتها بالمواقف الإيرانية، والتي تبدو أنها خرجت من جهة واحدة وهي إيران بالتأكيد، وقد ظهر ذلك في الموقف من الثورة السورية، وحرب اليمن، وغيرها الكثير.
وسعت إيران خلال وقت قصير من رهاناتها في العراق ولم تعتمد على فصيل شيعي بعينه، وشجعت الحركات الشيعية الناشئة والتيارات السياسية المختلفة إلى اقتحام المجال العام في العراق والهيمنة عليه، وذلك لضمان توسيع الخيارات وعدم الانحسار، خاصة وأن النفوذ الأمريكي كان في أوجه بعد الغزو مباشرة.
بداية تشكيل الميليشيات
وكذلك مرورًا بالطاولة العسكرية وتشكيل مليشيات مقاومة ضد الاحتلال الأمريكي، أبرزها جيش المهدي التابع للتيار الصدري الذي يتزعمه مقتدى الصدر الابن الوحيد على قيد الحياة لآية الله محمد صادق الصدر الذي اغتيل على يد النظام في العام 1999.
ومن هنا بدت أن السياسة العراقية تُصاغ عن طريق وكلاء الأجهزة الأمنية الإيرانية في بغداد، الذين عملوا على صياغة التحالفات داخل البيت الشيعي بمختلف مكوناته، كما عملوا على إذكاء صراعات وإخماد أخرى، والتحكم في نتائج الانتخابات، ودعم المرشحين، وتشكيل الائتلافات، وقد ظهر ذلك في الانتخابات البرلمانية 2005 و2010، في حين تراجع هذا الدور إلى حد ما في 2014 بعد إجبار نوري المالكي على التنحي لصالح حيدر العبادي رئيس الوزراء الحالي بضغط أمريكي، إلا أن إيران نجحت أن تتكيف مع هذا الوضع واستعادت زمام المبادرة مرة أخرى عبر حلفائها الذين يعملون على عرقلة وإعاقة حيدر العبادي.
الهيمنة الاقتصادية
تعد إيران المسيطر الأول على الاقتصاد في العراق، وأحد أكبر الشركاء التجاريين للحكومة العراقية، حيث بلغت إجمالي تقديرات حجم التجارة بين البلدين 12 مليار دولار في العامين 2013 و2014.
وبالتحديد في الجنوب العراقي يُلاحظ أن معظم البضائع الموجودة هناك ذات منشأ إيراني، حيث اعتمدت طهران على العراق كسوق رئيسي لمنتجاتها المختلفة في مختلف القطاعات الاقتصادية والصناعية وقطاعات الاستثمار والسياحة الدينية والقطاعات التجارية.
و بلغت الصادرات الإيرانية غير النفطية إلى العراق مبلغ 1.8 مليار دولار في عام 2007، ووصلت إلى 2.3 مليار دولار في العام 2008 وتضاعفت في أعوام 2012 – 2013 إلى 6.2 مليار دولار، وتزايدت في كل عام حتى وقتنا هذا، حتى إن مدينة البصرة وحدها تستورد من إيران في قطاعات غذائية وإنشائية مختلفة بمبلغ يقارب 50 مليون دولار.
وقد دخلت الحكومات العراقية المتعاقبة في شراكات استراتيجية اقتصادية ولوجستية مع إيران، من خلال مشاريع البنى التحتية ومشاريع الطاقة، واحتكارات تجارية لسلع استراتيجية، حيث بلغت تقديرات استحواذ إيران على منتجات الألبان والأغذية والسيراميك والأسمنت بالعراق إلى نسبة تقارب 80%، وفقًا لبعض تقديرات الباحثين في الشأن الإيراني.
فرض الثقافة
وفرضت اللغة الفارسية نفسها على التعاملات التجارية في محافظات العراق الجنوبية، حيث اضطرت نسبة كبيرة من المجتمع العراقي في تلك المحافظات للتحدث بها في التعاملات التجارية والاقتصادية بالنسبة لحركة البيع والشراء.
سياحة ضخمة
و اتسع نطاق السياحة الدينية بشكل غير مسبوق بين العراق وإيران حتى وصل في بعض التقديرات إلى 3000 زائر رسمي يوميًا ناهيك عن الأعداد التي تدخل بطرق غير رسمية.
الهيمنة العسكرية
وكشفت تقارير دولية دور فيلق القدس الإيراني التابع للحرس الثوري في إدارة المشهد الميلشياوي في العراق، إذ إن غالبية المليشيات الشيعية تدربت وتسلحت على يد هذا الفيلق.
و دعمت طهرات في البداية «فيلق بدر» التابع للمجلس الأعلى الإسلامي في العراق، ثم وسعت من دعمها ليشمل جيش المهدي التابع لمقتدى الصدر، ولتظهر كتائب فرعية جديدة كعصائب أهل الحق وحزب الله العراقي.
وعقب الانسحاب الأمريكي من العراق في العام 2011 اختفت بعض هذه المليشيات لكنها ظهرت فجأة إلى الصورة بعد سيطرة تنظيم داعش على مدينة الموصل، حتى ظهرت مرة أخرى متحدة تحت لواء «الحشد الشعبي» الذي تقدر أعداده بـ 100 ألف متطوع مدعومين إيرانيًا، لديهم القوة والإمكانيات التي مكنتهم من الصمود أمام داعش أكثر من الجيش العراقي المسلح أمريكيًا.
اليد الطولى لأنشطة فيلق القدس، سيما لجهة استخدام أجواء العراق ومطاراته لتجاوز العقوبات الدولية ضد إيران، وكانت أطلقت إبان حكم نوري المالكي، وازدهرت مع تسلم هادي العامري لوزارة النقل العراقية، فيما بدأ العبادي في الحد منها، مؤخرا، مع إطلاقه حملة الإصلاح، التي اعتبرتها إيران تمردا خفيا ضد انشطتها في العراق.
ويقول نائب في البرلمان العراقي آثر عدم ذكر اسمه، تعليقا على ذلك: «سليماني يجوب العراق من المرجعية إلى العاصمة بغداد، محموما، لإنقاذ المالكي من جهة، ولضمان استمرار ضمان يده طليقة في العمل في العراق، والانطلاق من العراق نحو سوريا ولبنان».
وخصصت إيران ما يسمى بـ «الدائرة 198» التابعة لفيلق القدس، لتنظيم نقل الأسلحة والعتاد العسكري الى سوريا، بواسطة رحلات جوية تنطلق من إيران، وتحلق في أجواء العراق وتحط في مطار دمشق الدولي في سوريا.
كما أنها أحيانا تحط في بغداد و تنطلق كطائرات عراقية، لتجاوز الرقابة الدولية.
المسار الجوي هذا يشكل الطريق الرئيس لنقل أسلحة وعتاد وتمويل وشخصيات من إيران إلى سوريا مما يتيح تزويد القوات السورية وحزب الله باسلحة بشكل متواصل.
وتتمتع إيران بعلاقات قوية بكردستان العراق وقواتها البيشمركة، وقد سعت من خلال ذلك إلى تعزيز وجودها وأنشطتها الاستخباراتية في كردستان إذ يوجد في السليمانية مقر عمل قسم تابع لقوات الحرس الثوري الإيراني مسؤول عن شمال العراق.
الهيمنة المذهبية
يسيطر على الشارع الشيعي في العراق مرجعيات عدة وتيارات تربت في حوزات إيران أهمها علي السيستاني، وتيار مقتدى الصدر، والمجلس الإسلامي الأعلى بزعامة عمار الحكيم، وحزب الدعوة بفروعه المختلفة، وثمة مرجعيات نجفية أخرى تربت في النجف لكنها أقل في النفوذ من المشتغلين في السياسية القادمين من قم.
وبشكل عام تعمل إيران على ضمان النفوذ الأكبر لرجال الدين الذين تربوا في حوازات قم الذين يضمنون ولاءهم الكامل أكثر من رجال الدين الذين تربوا في حوزات النجف غير الفاعلة سياسيًا.