بالجنوح إلى الولايات المتحدة الأمريكية، والتي لم نُعِطها قدرًا كافً من العرض والبحث، فسنجد أن الولايات المتحدة لم تُعط أي رد على ما حدث من طائرتين مُسقَطتين، وصواريخ تدوي، وسلاح جو يُشارك بعددٍ لا يُستهاَنُ به من طائرات F16 المقاتلة، سوى عقب الحادث وتداعياته باثنتي عشرة ساعة، آخذين أن الولايات المتحدة لديها جُنُود ومُستشارون ومعدات عسكرية على الأراضي السُورية، فلم تهتم أميركا بأمر الحادث ولا تداعياته ولم تُبد به اهتمام.
المُحلل العسكري لدى صحيفة هآرتس الإسرائيلية، تسفي برئيل، تساءل ضمنيًا، عن الطرف الذي يمكن لإسرائيل الاعتماد عليه. وكأنه يُعبِر عن الحالة التي انتابت إسرائيل حينها، من الفضاء العام والفراغ الدولي الذي وجدت فيه نفسها قبل وبعد الضربة، وكأن شيئًا لم يكُن، حيث أمضى الرئيس، دونالد ترامب، يوم هذه الواقعة، في نشر مجموعةٍ من التغريدات، يناقش فيها قلة الإجراءات القانونية ضد المتهمين بالاعتداء على النساء، ويهاجم الحزب الديمقراطي، ومكتب التحقيقات الفيدرالي، ووزارة العدل، وجيمس كومي.
حتى أن السفير الأميركي السابق لدى إسرائيل، ويعمل حاليًا زميلًا زائرًا في معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي، بتل أبيب، أدلى بتصريحاتٍ لموقع ذا دايلي بيست الأميركي قائلًا: “يُعدُّ ذلك مؤشرًا على أنَّ البيت الأبيض يمر بأزمة”، مضيفًا: “من الواضح أنَّ الرئيس ترامب مُشتَّتٌ بفعل التحقيقات الروسية، وسقوط أفراد من موظفي البيت الأبيض.
وقد هُمِّشَت وزارة الخارجية بشكلٍ عام من المباحثات مع إسرائيل؛ إذ يُدير العلاقات الأميركية-الإسرائيلية في ظل إدارة ترامب 3 أو 4 أشخاص بشكلٍ عام، الأمر الذي لا يُعدُّ وسيلةً صالحةً في إدارة الأزمات الحقيقية التي تتطلب استجاباتٍ منسقةٍ في المجالات السياسية والعسكرية والدبلوماسية والاستخباراتية”.
لاشك أن الولايات المتحدة الأميركية لن تُغيِّر من استراتيچيتها الدبلوماسية في دعم إسرائيل، ومجابهة إيران على طول الخط، في وقتٍ متأخر من يوم الحادثة، أصدر البنتاجون بيانًا يُعَّد غريبًا شيئًا ما، مفاده أنَّ الولايات المتحدة لن تشارك في التحرُّكات العسكرية الإسرائيلية بسوريا، ولكنها في الوقت ذاته تؤيد حق إسرائيل المتأصل في الدفاع عن نفسها ضد أي تهديدات لأراضيها وشعبها. مُعربًا عن أملهِ في وجود عزمٍ دوليٍ أكبر لمواجهة “النشاطات الإيرانية الخبيثة”.
وزارة الخارجية في بيانٍ لها هي الأُخرى، أكّدت أن الولايات المتحدة تشعرُ بقلقٍ عميق إزاء تصعيد العنف على الحدود الإسرائيلية، وإنَّها تدعم بقوةٍ حق إسرائيل السيادي في الدفاع عن نفسها، وسارت على نفس درب البنتاجون، فأكدت أن الولايات المتحدة مستمرةٌ في التصدِّي لمجمل النشاطات الإيرانية، مضيفةً أنَّ الولايات المتحدة مستمرةٌ في التصدِّي لمجمل نشاطات إيران في المنطقة، داعيةً إلى وقف السلوك الإيراني المُهدد للسلام والاستقرار.
القنصل العام الإسرائيلي السابق، في نيويورك، ألون بينكاس، ذكر شيئًا هامًا: “لم تعُد الولايات المتحدة شرطة الطوارئ المسؤولة عن المنطقة”. مضيفًا أنَّ الولايات المتحدة تقوم في الوقت الحالي بفك ارتباطها بالكُلية بالمنطقة. مضيفًا: “لقد بدأ الرئيس السابق أوباما هذه السياسة، ويواصلها ترامب بشكلٍ أساسي، لكن بإيقاع مختلف.
وكان ذلك جليًّا في التعامل مع مصر، وليبيا، والحرب الأهلية السورية، واليمن؛ لذا لا يجب النظر إلى ما يحدث بأنَّه مفاجئ، ولا ينبغي لأحدٍ أن ينتحب على فك الارتباط الأميركي بالمنطقة”.
إذًا موقف الولايات المتحدة الأمريكية واضحٌ وبيّن وقد لا يقع في قائمةٍ تفسيريةٍ مُطوَّلة، إذ أن الولايات المتحدة الأميركية قد دخلت في حالةٍ من التخبُط بصدد الشأن السُوري، لاسيما عقب الضربة التي وجهتها إلى المقاتلين الرُوس المرتزقة، الذين يُقاتلون على الأراضي السُورية جنبًا إلى جنب مع النظام السُوري وميلشياته، والذين قد وُجِّهت لهم ضربةً وصفتها أحد التقارير بأنها جعلت منهم “لحمًا مفرومًا” لا يُمكِن التعرف عليهم، وما أثّر بالسلب على العلاقات الددبلوماسية الأميركية الروسية، بالإضافة إلى اتجاه العلاقات مع تركيا نحو طريقٍ مسدود بشأن عملية غصن الزيتون التي تخوضها تركيا في مدينة عِفرين وتوجهها ناحية التنظيمات التي تُهددها على الحدود مع سُوريا.
أمريكا تتجه نحو تصفية الأمور ولكنها لا تُريد أن تترك الأرض لروسيا. وهي مشغولةٌ بالعديد من الملفات الداخلية التي تعتصرها، بالإضافة إلى ملف نقل السفارة الأميركية إلى القدس واعتبار القدس عاصمةً لإسرائيل، ولكنها لن تستطيع أن تغُض الطرف عن إسقاط طائرة إسرائيلية عبر مُضاداتٍ أرضية روسيةً الصنع، واستخدامٍ إيرانيٍّ سُوري. وبالتالي فقد دخلت أميركا في لُعبة تغيير قواعد الاشتباك في سُوريا هي الأُخرى ولم تكُن مستثناة.
عندما نجنح إلى روسيا، فسنجد أنها تحاول قدر الإمكان إلى ضبط الأمور في روسيا وتعديل موازين القُوى، وإخراج إيقاعٍ هادئٍ، لا يشوبه الكثير من الاضطرابات التي تجعلها دومًا حاضرةً هُناك، ولكن الأمور لا تسير وِفق هوى روسيا، والتي تتهيأ لانتخاباتٍ رئاسيةٍ في آذار / مارس القادم، إنها تعلم أن الوضع في سوريا يميل للتأزُم بصورةٍ تتعاظم يومًا بعد آخر، تركيا أصبح لها موطأ قدم، وإيران لن تتخلى عن قيد شبرٍ سيطرت عليه في سُورية، أميركا تتدخل لمناصرة قوات سُوريا الديمقراطية ومدها بالدعم العسكري واللوچستي والمادي ليكونوا رديفًا لها هناك، المعارضة تُقاتِل بقوة وتحتل مساحاتٍ ليست بالضئيلة، وروسيا لا تهتم سوى بإيقاء بشار على كُرسيّه وتستخدم حق الفيتو لمنع أي مشروع قرار يطال بشار ونظام حكمه، إنها كالفُتُوة الذي يقف على ناصية الشارع يعترض طريق سالكيه.
ولكنها لم تُبِد اهتمامًا كبيرًا هي الأُخرى بقضية الطائرتين والصاروخ، وأكدت على ضرورة احترام السيادة المتبادل، ولم تُظهِر اهتمام بسيادة سوريا من الأصل، إنها تُظهِر اهتمامًا كبيرًا بضرورة سيادتها على الأراضي السُورية، وهذا ما تجنيه روسيا فعليًا. تركيا تؤكد أكثر من مرة أن عملياتها في روسيا تأتي بالاتفاق مع روسيا ونظامها.
إيران هي الأخرى جلساتها ومؤتمراتها مع روسيا لا تكاد تنقطع أو تتوقف. إسرائيل تتودد بزيارات وُفُودها ورئيس وزرائها مرارًا وتكرارًا إلى روسيا لتنسيق الأمور معه حول حجم الدور الإيراني في سُورية، وضرورة أن تتدخل روسيا في تحجيم الدور الإيراني في سُورية مخافةً أن تنطلق إلى حيزاتٍ لا يُمكن ردعها فيه.
وبالنسبة لإيران، فيبدو أننا نستطيع أن نُمثِّل إيران عبر ردّ جواد ظريف، وزير خارجية إيران، عندما رفع نتنياهو قطعةً من حُطام طائرة الدرون الإيرانية، وقد نادى نتنياهو على ظريف ليستلم القطعة، حتى أن نتنياهو وصف ظريف باللباقة والتنمُق والكذب، خرج ظريف ليقول: “لقد رأيتم سيركًا هزليًا” وأضاف أنه ليس هنالك حاجة للرد عليه وعلينا أن نتجاوزه.
إن رد جواد يوضح لنا مدى عدم عِبء إيران بكلام إسرائيل أو أفعالها، وأنها باتت تتخذ هدفًا واضحًا وهو محاصرة إسرائيل والتضييق عليها وإحكام الخناق مما سيدفعها للمواجهة وهو ما ترغب فيه إيران، ولكن بحدود على ألا تشتعل حربًا، ولكن مناوشات تجعل إسرائيل تضج بهذا النوع من التضييق الچيوسياسي.
نجحت إيران في تحقيق مكاسبٍ شيدة الأهمية والخطورة من حادث العاشر من فبراير، فقد وجّهت صفغةً لإسرائيل أسقطت فيه هيبتها العسكرية، وأعطت للتنظيمات العسكرية القاطنة في البلدان المُتاخمة لإسرائيل دفعةً قويةً للتهيئة للمواجهة وإمكانية الإثخان في إسرائيل بشكل أكثر مما هو متوقع أو مُتخيَل، كما أرادت إيران أن تُوصِل رسالةً لروسيا أن لها في سوريا مثلما لها كروسيا، وأنها تستطيع أن ترُد، وأن لديها قدرات على الدخول في معارك مع إسرائيل ليست بالبسيطة، ستؤثر على روسيا سلبًا، وعلى قرارها في سوريا.
إن الاعتقاد بأن الموضوع يسيرٌ في سوريا هو أمرٌ مغلوط، لذلك حاولنا تفصيل الأمر قدر الإمكان في سبع تقاريرٍ مفصلات، تُوضح حجم دخول شريكٍ حربيٍ جديد في الأراضي السُورية سيُغيِّر قواعد اللُعبة وسيقلب الطاولة على رأس إيران، وروسيا نفسيهما وسيجعلهما يُعيدان التوازن لطاولتهما؛ لئلا يضيع حجم ما بذلاه من مجهوداتٍ في سُورية، مجهودات قامت على أشلاء مئات الآلاف من السورييت الذين اكتووا بنيرانهم، وشُرِّد الملايين، وذُبحت الحياة على مذبح السياسة والسُلطة، وقُدِّم كل هؤلاء كقرابينٍ لرغبتهما في توسيع نفوذهما، دمٌ يتدفق، وبيوتٌ تُهدَم، وطائرات تضرب، وصواريخ تدُك، ومعارك لا تنتهي، ومازال البحث جاريًّا، ولازالت ظِلال النار آخذةً في الاشتعال لكي تذهب بنا إلى طريقٍ وآفاق لم تُحدَّد أشكالها بعد، ستُكشَف في الأيام القادمة.
المصادر
1 / 2 / 3 / 4 / 5 / 6 / 7 / 8 / 9 / 10 / 11 / 12 / 13 / 14 / 15 / 16 / 17 / 18 / 19 / 20 / 21 / 22 / 23 / 24 / 25 / 26 / 27 / 28.