في الآونة الأخيرة، كشف موقع “إيران واير” الإيراني، عن تقارير تُفيد بهجرة رجال الدين الشيعة، من الحوزة الشيعية في مدينة قُم الإيرانية إلى حوزة النجف الشيعية في مدينة النجف العراقية.
أظهرت هذه التقارير ما مفاده، أن هُناك صراعًا تشهده المرجعيات الشيعية بين مدرستي إيران، والعراق المُمثَّلتين بالحوزة الشيعية بقُم، والحوزة الشيعية في النجف كما قدمنا سلفًا.
لماذا نزحوا؟
ذكر الموقع، الذي عبرت عنه عربي 21 بأنه تابع للتيار المدني الإيراني، إن محمد تقي رهبر، عضو مجمع رجال الدين المناضلين، المقرَّب من المرشد، أيّد التقارير التي تُشيِر إلى هجرة طلاب ورجال دين الحوزات الشيعية من قُم إلى النجف بالعراق.
وقال ما هو نصُّه: “هذه الموجة من هجرة رجال الدين إلى العراق تعتبر صغيرة، ولا تزال حوزة قم الشيعية تحتفظ بمرجعيتها الشيعية”.
أشار الموقع إلى أن رجال الدين في إيران يعتقدون أن هذه الموجة من النزوح النذير من المرجعية في قُم إلى مرجعية النجف، تُعد إحدى علامات “علمانيــة” الحوزة الشيعية في إيران، من أبرز هؤلاء، الملا حسيني اشكوري، الذي دوّن مقالًا له، علي موقع شيعة نيوز الحكومي، عن تعزيز الأفكار العلمانية بين الحوزات الدينية.
أي نستطيع أن نقول أن الأُصولية المذهبية في إيران تفقد بريقها، وأن الحوزة الإيرانية باتت تتجه نحو العلمانية على إثر التغييرات والتحولات الفكرية التي شهدتها الحوزة وطرأت على علمائها وطلابها بدلًا من الحفاظ على الطابع الأصولي كمرجعيةٍ دينيةٍ مذهبية لدى الشيعة في العالم.
أمرٌ قال عنه الموقع، أن المرشد الأعلى للثورة، علي خامنئي، ينفيه ويرفضه، وقال إنه في الوقت الراهن لا يُوجَد أي تأثير للفكر الرجعي العلماني على الحوزة الشيعية في قُم.
تمرُّد في صف خامنئي الأول
تصريحاتٌ قدتأتت من قِبل خامنئي، ورهبر في ظل انتقاداتٍ وجهّها رئيس مجمع المحاضرين، في حوزة قُم، ورجل الدين البارز، محمد يزدي، منذ عدة أيام، لبعض رجال الدين ومراجع التقليد الشيعة بسبب عدم “اهتمامهم للقضايا السياسية وقضية ولاية الفقيه في إيران”.
موقع إيران واير أشار إلى إن تقارير ظهرت في السنوات الأخيرة عن ميول رجال الدين الشيعة نحو فكرة فصل الدين عن السياسة داخل الحوزة الشيعية في قم، التوجُه الذي يرفضه رجال الدين القابعين على رأس السلطة الإيرانية. فقد عُدّت هذه وكأنها موجة من التمرد وهذا أمرٌ كان يُجهضه رجال الدين في السلطة كما أسلفنا، قبل ظهوره على سطح المجتمع الإيراني.
استطلعنا تقريرًا بصدد هذا الأمر على موقع “منظمة مجاهدي خلق الإيرانية”، ذُكر فيه أن الملا أحمد خاتمي، المتحدث باسم مجلس خبراء النظام، تحدث عن اعتزال مجموعة من رجال الدين والوعاظ عن العمل الديني، وعن تغيير توجهاتهم ورُؤاهم مبتعدين عن خامنئي، حتى أنه ذكر إنهم يمتنعون عن تذكر شهداء النظام.
حتى أن الملا محمد يزدي، الذي أشرنا إليه سلفًا، قال أن “طالبًا” من الحوزة خلال عامٍ كامل ، وكان يشارك في محاضرات أحد المراجع الدينية، لم يتفوه أو يتلفظ خلالها بكلمةٍ واحدة “لصالح” الحكومة، و ولاية الفقيه، والحكومة الإسلامية.
الملا جنتي، وهو رئيس مجلس خبراء النظام ذاته، تحدث عن الخلافات المتزايدة بين حوزة قُم، و خامنئي، فقال: “الولي الفقيه نعمةٌ من الله تُحَّل بواسطته جميع الخلافات والمشاكل في البلاد، ولكن من المؤسف أن البعض ناكرين للجميل، ويثيرون الشكوك حول مسألة ولاية الفقيه المطلقة في الفقه”، حسبما ذكر موقع “انتخاب” التابع للنظام.
يُواَجه هذا الرأي بشِدة من قِبل المحافظين في السلطة، فقد قال إبراهيم رئيسي، أحد صناديد المحافظين صلادةً وتشدُّدًا، والمُرشَّح السابق للرئاسة، والمسؤول عن العتبة الرضوية المقدسة، قال: “إن الشخص غير المبال بوجهاتِ نظر الولي الفقيه؛ لا يعتبر نفسه على نفس نهج الإمام، وفي مثل هذه المرحلة الراهنة والحساسة، لا يجوزأن نُشكِّك أبدًا في المسائل المختلَف عليها”.
مضيفًا: “قد يكون لدى الطلاب الشباب أحيانًا عتاب، كما قد يشككون في بعض المشاهد، وعلينا أيضًا أن نكون حساسين بشأن مواضيع النظام الإسلامي، وإذا استمر الوضع لا سمح الله، وتتراجع الحساسية منَّا، فستُؤدي إلى انهيار الحوزة، وسنُواجِه حينها خسارَةً خطيرة”.
يُذكَر أن خامنئي، في الأول من ديسمبر2012، قال: “أنه لمن العار على رجل دين يحمل عباءته علي كتفيه، ويقول إني غير مهتم وغير مُبالٍ بأمورالبلد وبمواضيع النظام، يجب على كل ملأٍ أن يُرحِّب بهذا النظام، بكل ما أُوتِي من قوة، لا يمكن للحوزة الدينية أن تكون علمانية. ووفقًا لذلك فإنه من الخطأ بما كان اعتبار اللامبالاة بأمورالنظام والحكومة يدل على توجهٍ علمانيّ”.
لكن من الواضح أن كلمات خامنئي لم تلق صدًّا مسموعًا، لا سيما أن هذا الأمر طفا على السطح عقب كلمات خامنئي السابقة بما يزيد عن خمس سنوات.
نستطيع أن نستنبط من هذه الحادثة التي تتسم بالغرابة، العديد من التحليلات والرُؤى التي قد تضعنا على مُفترَق طُرقٍ لأبحاثٍ وتقاريرٍ قد يصعُب حصرها.
تستشعر مما حدث أن “كم من نارٍ مخبوءة أسفل الرماد”، أن هذه الأمور والتي لم تكن محل عرض قبل سابق، ولم تنلْ أي اهتمام يُذكَر، تُظهِر أن النظام الإيراني ظل لفتراتٍ مديدة ومازال يحاول أن يكسو البلاد بكُل ما فيها برداءٍ نُسِج على عينه، يحول دون خُرُوج أو ذيوع أي شيء يحدُث في البلاد، ويُكنِّفه بكثيرٍ من الغُمُوض والسِرية، ولكنها الآن قد أصبحت تطفو على السطح وتُبرَز حتى أصابت جيش خامنئي الأول، وهُم المراجع الدينية والحوزات والذين يُشكّلون السدنة على عقيدة المجتمع ويُطوعونها للنظام.
هذا الطفو نستبينه ونعزوه إلى موجة تظاهرات يناير 2018، والتي من الواضح أن خامنئي دفع وما زال يدفع ثمنًا باهظًا على تداعياتها وآثارها ويحاول ترميم هذه اللثمة التي أُحدِثت في جداره، وقد أشرنا في تقارير عدة سابقة، هذا الأمر ومحاولات خامنئي المستمرة لعلاجها، وهذا الأمر شديد الحساسية لدى خامنئي الذي ليس على استعداد بأية صُورة أن يُواجَه أو يستشعر أية معارضة في سدنته وحَملة مفاتيح أبواب قصره من رجالات الدين، فقد يسمح بهذا التمرُّد في أي صف أو أي هيئة إلا هؤلاء.
قد يكون تسلّل إلى رجال الدين، دعاوى التظاهرات والتي كانت تُنادِي بالتفات النظام إلى الشؤون الداخلية وألا يُولِي وجهه شطر لُبنان وسُورية والعراق واليمن وغيرها من الدول، ولكن بسياقٍ مختلف، فمن الممكن أن يكون قد تبدى لطُلاب العلم ورجال الدين، أن الاهتمام بالأمور السياسية والمَناخ العام الذي تُضفيه إيران على أفعالها السياسية سواء داخليًّا أو خارجيًّا؛ قد أثَّر بالسلب على الخطاب الأُصولي المذهبي خاصتهم، وأدّى إلى تراجع الاهتمام به لدى العوام، وليس هذا فقط.
بل أيضًّا في قلعة الحوزات الدينية الراديكالية، قُم، على طُلاب العلم ورجال الدين، الذين ذهب منهم الكثيرون وراء استخدام النظام لهم في ربط قضية الدين بالسياسة، والانشغال بالمُعترك الإيراني الخارجي والحروب التي تخوضها إيران عبر أذرعها ووكلائها في المنطقة والتي غُلِّفت برقاقةٍ عقدية.
نستطيع أيضًا أن نصل إلى أن خامنئي سيعمد إلى حل هذه المعضلة بطريقةٍ تتسم بالودية، والسياسة الفطنة، والكياسة ولن يلجأ بأية صُورة لستخدام القوة لحلحلتها كما فعل مع آخرين.
أن هذا الحدث يُنبِؤنا بأن خامنئي سيذهب أيضًا إلى تسخير كافة ملكاته وميكانيزماته الذاتية فطريةً ومُكتسَبة لمُعالجة الأمر طالما أن حديثه لم يُؤبَّه به منذ خمس سنوات، والأمر يتفاقم
فماذا سيفعل خامنئي يا تُرى؟، وكيف سيتجاوز تلك العقبة الكؤود التي تُلقِي بظلالها بقوة على منصبه نفسه؟.
هذا ما ستكشف عنه الأيام القادمة.
المصادر