أثار نبأ اعتقال السُلطات الإيرانية لحُسين شيرازي، وهو نجل أحد المراجع الشيعية الهامة وذائعة الصيت في مدينة قُم، قلعة المشاعر والحوزات الدينية، ألا وهو صادق الشيرازي. على إثر إلقاء حُسين لخطبةٍ أو ما هو بمثابة محاضرة، رمى فيها المرشد الأعلى للثورة الإيرانية، عليّ خامنئي بأنه “فِرعونْ”.
هذا ما أثار الكثير من التساؤلات حول الشيرازية، ووضعها، ومن هُم من الأساس؟، وما علاقتهم بالثورة الإيرانية؟، ولماذا هذا الانقلاب من قِبل المرشد على الشيرازيين؟. وهذا ما سنستعرضه في تقريرينا هذين.
التيار الشيرازي: مدخل تاريخي
الشيرازية هم مجموعة شيعية تسير على المذهب الاثنا عشري، وهم أتباع للإمام الشيعي الراحل، محمد الشيرازي، الذي أسَّس هذه الطريقة منطلقةً من محافظة كربلاء بالعراق، في فترة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي. هذا التيار تدفق وانهمر بقُوةٍ في العديد من البُلدان المجاورة التي ينتشر فيها الشيعة لا سيما الاثنا عشريون منهم؛ كلُبنان وإيران والكويت وسُورية والبحرين وحتى السعودية ذاتها.
يذكر الباحث الدكتور، علي المؤمن، في كتابه “سنوات الجمر”، والذي يؤرخ للحركة الإسلامية العراقية، إن بدايات الشيرازيين ما بين عامي 1965 – 1967 وكانوا ينشطون في كربلاء تحت مُسمى “حركة الرساليين أو الطلائع الرسالية”، وحركة المرجعية. وأن هذا التيار كان يواجه معارضةً شرسة من المرجعيات الشيعية في النجف، ولاسيما مرجعية الإمام محسن الحكيم.
حتى أن الخلافات اشتدت بين الطريقة الشيرازية في كربلاء، والمرجعيات الشيعية في النجف، وهو الأمر الذي كان يتحول في كثير من الأحايين لصداماتٍ في الزيارات بين مواكب المدينتين.
هذا الكتاب أيضًا، أثار نقطةً هامة في اختلاف نسب التيار لمؤسسه الأول وهو “أن السيد مهدي الشيرازي -وهو والد محمد الشيرازي والذي يُنسَب إليه تأسيس التيار- هو من كان صاحب قصب السبق بتأسيس الفكر الشيرازي، وقد استغل مهدي الشيرازي الأب رغبة عوام المدينة بالاستقلال عن سطوة المرجعية النجفية وتحولت بمرور الزمن الحوزة الكربلائية إلى حوزةٍ تُمثِل هُوية سكان الولاية الذين كان العديد منهم من جذورٍ إيرانية، فنشأت حركة الشيرازي بمعزلٍ عن حوزة النجف كمرجعيةٍ كربلائية بديلة، ولم تكن تملك مشروعًا سياسيًا حتى منتصف الستينات”.
وبحكم كونهم تيارٌ نشِط فقد سيطروا على الشارع الشيعي وتناصفوه في المناطق المقدسة مع حزب الدعوة العراقي الذي كان شبيه بالتيار الصدري حاليًّا.
وقد مثّلوا هُم وحزب الدعوة انتشارًا وتنظيمًا كبيرين، وكانا أصحاب مشروعٍ فكريّ إسلاميّ متكامل، ولكن تأتّت فرصةً هامةً للشيرازيين، وهي انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية، وعلى إثرها نجحوا في تحقيق اختراقاتٍ هامة في الواقع الشيعيّ العراقي، واستطاعوا الحصول على وُفوراتٍ مالية، وموارد إعلامية وعسكرية ضخمة، وهذا ما حوّلهم من الدور القُطري المحلي إلى دورٍ إقليميّ كبير في العديد من النشاطات الثقافية والفكرية والعسكرية في عددٍ من الدول العربية.
ولكن على العموم فقد أُطلق عليهم لقب “الشيرازية” نسبةً لاتباعهم الاجتهاد الفقهي، والمنهج الفكري، لمحمد الشيرازي، والذي قام على إثره بتوريث هذه المرجعية لأخيه الأصغر، صادق الشيرازي. عقب رحيل أخيه الأوسط، حسن الشيرازي.
إنهم “السادة الشيرازية”، أو عائلة “الشيرازي”، التي تخرج منها وينتسب إليها العديد من المراجع الدينية، والقيادات الشيعية الفقهية والسياسية.
أبرز رموزهم
من أبرزهم قائد ثورة العشرين 1920، في العراق، ضد الاحتلال البريطاني، السيد محمد تقى بن المرزا مجب عليّ، والمُلقَّب بالإمام الحائري الشيرازي. جدير بالذكر أن ثورة العشرين كانت إحدى النقاط الهامة التي أبرزت الشيرازيين في التاريخ الشيعي.
ومن أبرزهم في الوقت الحالي، المرجع المجدّد في إيران، آية الله العُظمى السيد ناصر مكارم الشيرازي، وهو يقيم في مدينة قُم.
ومن رؤوس التيار الشيرازي قديمًا، -والذين قدمناهم في بداية التقرير- المرجع السيد عبدالهادي الشيرازي، والذي توفي في ستينات القرن الماضي.
فخلفه ولده، السيد مهدي الشيرازي والذي لم تدُم فترة مرجعيته، فخلفه هو الآخر، أبنائه الثلاثة، الأول الإمام محمد الشيرازي الذي توطّن في العراق، وقد تطور الأساس الفكري للحركة على يد محمد بعد هجرته لدولة الكويت هاربًا من مضايقات البعثيين الذين نثرهم صدام حسين في العراق، وانتقل لبلده الأم إيران بعد نجاح الثورة الإيرانية، عام 1979، فقام بإنشاء “منظمة العمل الاسلامي” على أرض “إيران”.
وكان النجل الثاني هو الإمام حسن الشيرازي والذي توطّن في لُبنان، عقب مغادرته العراق التي اعتُقُل فيها. ويُعد من الشخصيات المعتدلة داخل هذا التيار شديد الراديكالية، وتشير مصادر أن له فضل التقارُب بين العلويين والشيعة في سُورية قُبيل اغتياله من قبل المخابرات العراقية بلُبنان عام 1981.
والنجل الثالث هو صادق الشيرازي، والذي صار حاليًا مرجعًا في قُم.
التنظيم وسِمات أبنائه
الشيرازيون يتسمون بالحيوية والهِمّة فكانوا يركزون على جلسات الشباب الحسيني، والمدارس الدينية، ومدارس حفظ القرآن، وإصدار النشرات الإعلامية والثقافية، ونشر الكتب والمؤلفات وإقامة الحُسينيات، ومجالس العزاء وصولًا إلى امتلاك القنوات التلفزيونية الفضائية. فعلى سبيل المثال مجلة “عفاف”، وهي متخصصة، حيث تناقش قضايا المرأة. كما اهتموا أيضًا بافتتاح فروع للحوزات العلمية في كل البقاع التي يتواجد فيها عدد كبير من التابعين.
لدى الشيرازيون واحدٌ من أعمدة تيارهم وهو السيد هادي المدرسي، وهو ابن أُخت المؤسس محمد الشيرازي، والذي قام بالعمل عبر أسلوب الكتابة المبسطة من خلال إصدار مئات الكتيبات الصغيرة، والكتب المتنوعة، والتي تتناول كافة قضايا الحياة، وأبرز المعضلات والأزمات الاجتماعية معتمدًا في أسلوبه على مخاطبة الشباب مباشرةً ومحاورتهم.
كما أصدر الإمام محمد الشيرازي عشرات المؤلفات من أجل توطيد مرجعيته، ودوره الفكري والفقهي في ظل المواجهات التي خاضها ضد المرجعيات الأخرى في مدينة النجف.
الشيرازيون أقرب لفكرة التنظيم منهم عن المرجعية العقائدية، فهم يسعون لنشر قضيتهم وفكرتهم ومذهبهم، حالهم حال كل فرق الشيعة، الذين يسعون سعيًا حثيثًا لنشر مذهبهم حتى وإن تعددت فرقهم أو اختلفت مذاهبهم أو انتثرت مرجعياتهم مستندين في ذلك على ثوابتٍ عقدية مُأوَّلة لديهم.
لدى الشيرازيون اهتمامٌ بالغ ويظهر بصورةٍ جلية عن باقي فرق الشيعة، وهو الاهتمام بالناحية التربوية في تنشئة الأفراد لديها، إيمانًا منهم بأن الفرد هو وحدة بناء المجتمع، فيعملون على ترسيخ وتهذيب الأفراد بالعقيدة، حتى يكون ما يُسمّى بمثابة دعوةٍ تمشى على قدمين. فألقوا اهتمامًا شديدًا بالأنشطة الاجتماعية، وأسّسوا قواعد تربوية تنظيمية مُحكمة وصارمة بغرض تنفيذ هذا الهدف.
ينفصل الشيرازيون عن بقية فرق الشيعة، بقضية الاهتمام بالعقيدة اهتمامًا شديدًا للغاية. فعلى سبيل المثال، انتهجوا فى التربية منهج “البراء الجهري”، أي مذهب الولاء والبراء، وهو الولاء لآل البيت، والبراء من أعدائهم وهم رموز أهل السنة والجماعة، من بعض الصحابة وأمهات المؤمنين رضوان الله عليهم.
وهذا ما أنتج بالضرورة خلاف مع رأس الشيعة وهُم شيعة إيران حاليًا، ومرجعيتهم “الخامنئية”. فالأخيرة ترى أن الصدام المباشر لن يولد إلا الفُرقة بين جناحيْ المسلمين السُنة والشيعة، وسعت مرجعية خامنئي لرأب الصدع بين السُنة والشيعة، وهو الأمر الذي يعتبره كثيرٌ من الشيعة وعلى رأسهم الشيرازيون، “انبطاحًا” يصل إلى حد الاتهام بالابتداع في المذهب الشيعي.
خلفت تلك الراديكالية المتصلفة المتصلبة، والتي تسعى لتشديد العداء بين السُمة والشيعة عبر هذا الخطاب التعبوي التحريضي، فقد خلفت أجيالًا من العلماء والمثقفين والذين اختلفوا بالكُلية مع هذه المدرسة واتبعوا أساليبًا أُخرى كالسير على مناهجٍ أكثر وسطيةً وأقرب للتقارُب المنهجي، وأطلقوا حركةً إصلاحية تتبنى تجديد المنهج بما يتوافق مع متطلبات الوحدة والتقارب غير التي تنشأوا عليها، ونجح هؤلاء كذلك في إطلاق أفكارٍ تجديديةٍ في الواقع الشيعي.
وشُقت الطاعة في المدرسة الشيرازية، وحدثت الانشقاقات، وقد كانت أبرز الانشقاقات التي تعرض لها الشيرازيون هي المجموعات التي تعمل في المملكة العربية السعودية، ومن أبرز رموزها هم، الشيخ حسن الصفار، والأستاذ زكي الميلاد، والأستاذ محمد المحفوظ، والذين نجحوا في إنهاء الخلاف مع السلطة في السعودية، واعتمدوا أساليبًا جديدة في العمل الإسلامي والحوار مع مختلف التيارات الإسلامية وخصوصًا التيار السلفي.
يتشكل لدينا الآن أن الشيرازيين وتيارهم هذا، يقعون في تناقُض وهو ادعاءهم كونهم دُعاةً للتجديد في الفكر الإسلامي والواقع السياسي، وهم يتبنون خطابًا شديد التعبوية والتحريض والإمعان في العداء والإثارة المذهبية والعاطفية ليس ضد أهل السُنة فقط، ولكنهم حملوا على كافة الفرق الشيعة التي تخالفهم رؤاهم وأفكارهم العقدية.
لكن رُغم هذا، فالشيرازيون صاروا يُشكِّلون أنفسهم كتيارٍ فاعل في الواقع الشيعي، وصاروا رقمًا صعبًا في معادلة الشيعة في العالم الإسلامي.