استعرضنا في الجزئين السابقين قضية المياه في إيران، فقد عرضنا في الجزء الأول من سلسلة تقاريرنا “إلى أي مدى وصلت أزمة المياه في إيران”، عرضًا عامًا وبانوراما لطبيعة الوضع المائي في إيران، فحددنا مصادر المياه في إيران لاسيما العذبة منها، وسردنا قضية الجفاف وشح المياه في الماضي القريب في الجمهورية وأرجعناها إلى أقرب فترة ضرب فيها الشح المائي البلاد منذ عام 1999، واستعرضنا معدلات الاستهلاك شديدة الارتفاع من قِبل الإيرانيين للمياه في بلادهم، متوازيًا مع حجم النضوب في معدلات هطول الأمطار التي تتناقص عام عن آخر.
وتناولنا في الجزء الثاني مدى انعكاس الجفاف على بحيرة أورميا ذائعة الصيت حتى قاربت على الجفاف بصورة نهائية، وبحيرة هامون العذبة التي جفت فعليًا، واستعرضنا كذلك قضية السدود التي فعلت نقيض هدفها الذي أسست من أجله، وأهدرت الملايين من المترات المكعبة من المياه كما أن المياه استخدمت في أهداف أخرى غير الشرب، وكيف أن طهران العاصمة ذاتها تأثرت بمآسي هذه السدود
ولكننا نستعرض في جزئنا هذا، وهو جزءٌ من أصل ينعكس على كل قطر في الأرض، وهو كيف يستخدم النظام المياه في إيران كسلاح ذو تأثير حاد لتحقيق أهداف له داخل الجمهورية نفسها أو خارجها، وكيف أثرت هذه المياه على العلاقات الدولية بين إيران وجيرانها.
المياه الأفغانية
بيئة أفغانستان بيئة زاهرة بالحياة، فجنبًا إلى جنب كونها بيئة ذات طبيعة جبلية فهي أيضًا بيئة مائية، فتندفع وتتدفق من أفغانستان 5 أنهر وتسير حتى الحدود الأفغانية الإيرانية، والأفغانية الباكستانية، فأربعة أنهار من هذه الخمسة تعتمد عليها كلٌ من إيران وباكستان.
أبرز مجهودات أفغانستان في المجال المائي هي رغبتها في بناء سدود تحجِم مياهها التي وجدت أنها تهدر على إثر عدم قيامها كدولة أو نظام في حفظها، ولذلك رأت أفغانستان في السدود أنها أداةً لري وضبط للطوفان، كما تعد مصدر للإنتاج المحلي للطاقة الكهربائية، وستسهم في إقلال اعتماد البلاد بصورة تامةعلى استمداد الكهرباء من دول الجوار.
ولكن هذه الجهود تواجه بشدة، فأفغانستان لديها اعتقاد شبه جازم بأن كلًا من إيران وباكستان تخربان عمدًا كافة مجهوداتها في السيطرة التامة على مواردها المائية.
فإيران تعد البلد الوحيد الذي وقع على معاهدة مياه مع أفغانستان، ولكنها تتحصل على 70 % أكثر من الكمية المتفق عليها في المعاهدة، بل وأنشأت بنية تحتية للمياه الواردة من أفغانستان من دون موافقة الأخيرة.
في تقرير لموقع إيلاف، في آب / أغسطس 2017، روي خبير مياه نقلًا عن مسؤول في وزارة الطاقة والمياه الأفغانية، أن البنك الدولي أوقف تمويل مشروع سد كبير، بعدما علم بأنه يحتاج إلى إذن خاص من إيران، وصرح قائلًا: “إن جيراننا يقيمون علاقات مع المانحين الكبار، مثل البنك الدولي، ويضغطون للحصول على قروض أكبر لأنفسهم، لكنهم يخلقون عقبات أمام مشاريع في أفغانستان”.
فأفغانستان التي تحوز أصل 57 مليار متر مكعب من متوسط الأنهار السنوي خاصتها، لا تستهلك إلا أقل من 30 % هذه الحصة، ويذهب المتبقي كله من المياه إلى الدول المجاورة.
مثالٌ آخر، إيران تتدخل بقوة حول سد “سلمى”، والذي يتم تشييده بتعاون هندي إداري ومادي، في مقاطعة هيرات غربي أفغانستان على الحدود مع إيران، و كان لهذا السد القدرة على ري زهاء 75 ألف هكتار زراعي، وإنتاج وتوليد 42 ميجاواط من الكهرباء.
وهذا السد متوقف بناؤه منذ فترة طويلة، بالتدقيق الزمني فقد تأخر المشروع قرابة أربع سنوات عن الموعد المحدد لتشييده، ومن ثم ارتفعت تكلفته بنسبة 50 % على إثر التأخير.
ومن ثم فجر هذا التأخير إشكاليات تفسيرية في أفغانستان، فتعجب المسؤولون الأفغان من المهندسين الهنود، والذين قاموا بتشييد وبناء ورصف شبكات الطرق السريعة في أفغانستان في وقت قياسي، وقارنوا هذا بالتأخر الهائل في تنفيذ مشروع سد سلمى، واستكمال عملية بنائه،فتوصلوا إلى نتيجة مفادها أن هناك تدخلًا دبلوماسيًا إيرانيا هو ما تسبب في التأخير.على الرغم من نفي الجانب الهندي للادعاء الأفغاني، فقط لعدم امتلاك الجانب الهندي أدِلة على أن التوترات الأمنية الواقعة في محيط السد لإيران يد فيها.
أفغانستان أيضًا تنظر إلى تغلغل إيران في البلاد، وتسقِطه بمنظور تفسيري على كافة الأمات المائية التي تقع لها، فقد شيد خبراء إيرانيون مركز أبحاث داخل وزارة المياه الأفغانية، يعمل على جمع المعلومات والبيانات عن موارد المياه في أفغانستان، وهذا تحت مظلة قيامهم بتقديم خدمة جليلة لأفغانستان من ناحية أن العديد من الدول أو الشركات ترفض مساعدة أفغانستان: نظرًا لطبيعة الوضع الأمني المأزوم في البلاد.
فيقول الدبلوماسي الأفغاني، عنايات الله نبيل، إن مسألة أن الإيرانيين يديرون مركز أبحاث داخل وزارة المياه الأفغانية أمر خطير جدًا، إنهم يمثلون بلادهم، وإن ولاءهم لإيران ولمصالحها فقط.
في حادث آخر، ظهر في تقرير للحياة، في منتصف تموز / يوليو 2017 نقلًا عن موقع فوربس الأمريكي، فقد دار منتصف العام المنصرم خلافًا حادًا بين أفغانستان وإيران، وقد كان الخلاف قائم على سد “كمال خان”.
أفغانستان أخذت تشيد هذا السد على نهر هلمند -أطول أنهار أفغانستان، وينبع من جبال هندو كوش، غربي العاصمة كابول، متدفقًا في الجنوب الغربي حتى يصب في الأراضي الرطبة في هامون على الحدود بين أفغانستان وإيران، ومنها يضرب طريقه إلى محافظة سيستان وبلوشستان الإيرانية، والمحافظتين الأفغانيتين نمروز وفرح-.
وهذا المشروع لا بد أن يحتكم إلى اتفاق نهر هلمند -المبرم بين البلدين في 1973-.لكن لكون الاتفاق غير دقيق، وقابل للتأويل، فتبادلت كلٌ من العاصمتين الاتهامات على إثر الإخلال بالاتفاقية موجباتها.
ثم تطور الأمر حتى أعلن حسن روحاني، أن حكومته لن تصمت أمام الضرر البيئي الناجم عن السدود الأفغانية المشيدة على أنهر تصب في إيران، ومنها سد “سلمى” سالف الذكر، وسدا “كجاكي” و”كمال خان” على نهر هلمند.وأكد روحاني أن الأضرار لن تنل من إيران فقط بل ستلحِق بأفغانستان أخطار كبيرة.
فردت حكومة أفغانستان على روحاني، وأعلنت أن تشييد السدود على نهر هلمند من أولويات الحكومة، واتهمت إيران بتشييد أكثر من 30 سدًا على أنهار تتدفق إلى أفغانستان، وتقيد من دفقها إليها.رئيس أفغانستان ذاته، أشرف غني، أكد أن حكومته لن تغير مشاريعها؛ لأنها ستكافح الفقر، وتولد الكهرباء، وسترفع حجم الإنتاج الزراعي، وتشييد البنية التحتية لشبكة المياه والبلاد بصفة عامة على إثر العائدات الناتجة عن هذه المياه.
كابول تؤمن أن إيران تدعم مقاتلي طالبان في أفغانستان لعرقلة تشييد سد سلمى، بالإضافة إلى تهم انتهاك السيادة، على إثر عبور مروحية إيرانية الحدود الأفغانية في محافظة فرح، ولكن إيران نفت هذا الأمر.
بالإضافة إلى قضية اللاجئين، فملايين الأفغان هاجروا إلى إيران في العقود الأخيرة، وإيران تسعى بقوة إلى إعادته إلى موطنهم الأم، وتستغل إيران مدى تأزم المناخ العام السياسي والاقتصادي والاجتماعي في أفغانستان لتناوِرها في هذا الصدد.وإن عادت هذه الملايين إلى أفغانستان فستزداد الأزمات بصورة لا يمكن دفعها.
ولكن يتم حاليًا محاولة توفيق الرؤى حول هذا الملف، لكي تصب المصلحة في البلدين، ولا تتضرر إحداهما جراء هذا النزاع شبه الدائم.
إقليم الأحواز في حصار مائي
في تقرير منصة منشور الذي أشرنا إليه سلفًا، يقول صحفيٌ إيراني من منطقة الأحواز، يدعى حميد، أن سكان الإقليم يتظاهرون لإيقاف مشروع نقل مياه نهر “كارون” الذي أصبح أمرًا روتينيًا، لدى النظام في طهران.
وأضاف أن نهر “كارون” أو “قارون” في قراءة أخرى، يمثل الحياة بالنسبة إلى سكان الأحواز، عاصمة محافظة خوزستان جنوبي إيران، لكن منذ 30 عامًا، والحكومة تقدِم على حفر قنوات لتحويل مياه النهر إلى محافظة أصفهان، التي تعانى هي الأخرى من شح المياه.
كان هدف الحكومة من هذا المشروع هو نقل مليار متر مكعب من مياه نهر قارون إلى مدينة أصفهان، وهو ما عد مأساة أو كارثة على سكان الإقليم، الذين يعتمدون على المياه في الزراعة بشكل رئيس.
مسؤولٌ سابق في وزارة البيئة الإيرانية، اشترط عدم كشف هويته في حديثه مع منشور، أكد أن كلفة المشروع تصل إلى نحو 1.5 مليار دولار، وهذا الرقم كان كفيلًا بحل أزمة المياه في مدينة أصفهان، دون اللجوء إلى نقل مياه نهر كارون.
سنجد هناك شيئًا هامًا، وهو إصرار الحكومة على إتمام المشروع مهما كان الأمر، مع الأخذ أن الحكومة تعلم أمر النتائج المترتبة على إثر هذا المشروع.
تقرير فوربس، أشار إلى أن محافظة سيستان وبلوشستان -ذات الغالبية السنية في إيران، أي إنها تخالف العقيدة والهوية الجمعية لعموم الجماهير الإيرانية، وفي القلب منه النظام المحافظي المتشدد دينيًا- تعاني هذه المنطقة من جفاف، واقتصاد هش، واضطرابات اجتماعية، كما تتوقف حركة مساعي تحفيز النشاط الاقتصادي لها والمتمثلة في تطوير مرفأ تشابهار على خليج عمان، وشق ممر بري الى أفغانستان.وأصبحت المحافظة قاعدة لهجمات من قِبل مسلحين يتم شنها على قوات الأمن الإيرانية في السنوات الأخيرة.
وهذا يأتي متوازيًا ضمن ما قد أعلِن عنه عام 2016 حول إمكانية نقل المياه من مصب نهر الدجيل في الأحواز، إلى إقليم كرمان وسط إيران، ضمن مشروع “بهشت آباد”، الذي تقدر الإحصاءات المختلفة حجم المياه التي سيتم استلابها خلاله بنحو 180 مليون مترمكعب سنويًا، وستنقل هذه الكمية من المياه إلى المناطق الشمالية من إقليم كرمان، وهي مدن رفسنجان، وسيرجان، وزرند، وشهربابك، وبردسير، وأنار.
وقد قدرت المآسي المفضية لهذا القرار على منطقة الأحواز في ازدياد حالات التدمير البيئي للإقليم، وتحويله إلى موقع لمكب وتخزين المواد الكيماوية والبيولوچية، وغيرها من العناصر المؤشرة من مخلفات الحرب الإيرانية العراقية، التي اكتفت الحكومة الإيرانية بدفنها وتخزينها في أراضي إقليم الأحواز دون أي إجراءات لمعالجتها.
نلحظ في هذا الصدد أو هذا العنوان، أن الأحواز ذوي الانتماء العقدي السني، وإثنيتهم العربية، هذان العاملان هما سببا ما يعانيه الأحواز في مجال المياه والسلب الهائل الذي يحدث لهذا المورد من إقليمهم، وهذا ينعكس إجمالًا على كافة المجالات الحياتية والمعيشية لسكان الإقليم من العرب المسلِمين السنة، والذين يعانون من صنوف الأسى من قِبل النظام الحاكم وملاليه، ومدى تأزم الوضع المائي للجمهورية حتى أنها لم تترك منحىً أو مصدر تحاول أن تفض اشتباك أزمة المياه عبره، حتى لو كلفها ذلك الدخول في صراعات مع دول جوار أو تصفية لمجموعات وسيطة لصالح وحساب المجموع الكلي للجماهير.