ما الذي يمكن أن يحدث إذا أخرج وكتب فيلم إيطالي مخرج إيراني؟ هذا ما حدث من خلال فيلم نسخة مصدقة أو certified copy الذي أخرجه وألفه عباس كيارستمي، وتم عرضه في السينمات عام 2010، وهو الفيلم الذي تدور أحداثه في إيطاليا، من خلال رؤية مخرجه الإيراني ذائع الصيت، والذي قامت ببطولته النجمة الفرنسية جولييت بينوش، التي حصلت على جائزة مهرجان كان كأفضل ممثلة عن هذا الفيلم.
خارج إيران
عرف كيارستمي بأفلامه التي ارتبطت بإيران، وروح الأرض، وطبيعة الحياة هناك، ليفاجأ الجميع بتلك الخطوة التي خرجت بعيدًا عن الأراضي الإيرانية، ورغم أن ذلك العمل هو الفيلم الروائي الأول له، إلا أنه قد سبق له أن قام بإخراج عدة أعمال أخرى وإن كانت كلها وثائقية مثل A.B.C. Africa وفي الفيلم الجماعي (Tickets) الذي تم تصويره داخل إيطاليا، وكذلك فيلمه (Five) الذي أخرجه مع المخرج الياباني أوزو ياسيجيرو وتم صور بين النسما وإسبانيا بجانب مساهمته بمقطع صوره بنفسه في الوثائقي «بيير ريسيان: رجل السينما» لتود مكارثي.
نجاح ورفض
استطاع الفيلم الذي تم إنتاجه بدعم إيطالي فرنسي أن يلاقي نجاحًا كبيرًا داخل أوروبا وأمريكا، بالإضافة إلى حصوله على جائزة أفضل ممثلة في مهرجان كان، إلى جانب مشاركته في العديد من المهرجانات العالمية، رغم ذلك فإن وكيل وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي الإيراني، قد قرر منع عرضه، لأنه حسب رأيه يتنافى مع القيم والأخلاق الإسلامية السائدة في البلاد، وهو الأمر الذي يصعب معه عرضه داخل إيران، دون أن يوضح ذلك السبب، أو يضيف أسباب أخرى.
فكرة فلسفية
تدور فكرة الفيلم داخل تسعة مشاهد مثلت الفيلم كله، بدأت أولها مع حفلة التوقيع الخاصة بالكاتب جيمس ميللر الإنجليزي الذي جاء إلى إيطاليا من أجل حفل توقيعه لكتابة “نسخة مصدقة”، ثم تدخل إيلي متأخرة، بينما تجلس مأخوذة بالكاتب، في حين يعكر صفوها ابنها الذي يستحثها على الخروج، تخرج البطلة بالفعل مع ابنها لتناول الطعام، فيما يوضح الابن كيف أنه يرى إعجابها بالمؤلف الإنجليزي، مشيرًا إلى أنه رأى والدته تعطي شخص مشترك عنوانها من أجل أن يلتقي بها الكاتب، في المشهد الثاني يأتي الكاتب لمكان عمل البطلة التي نتبين أنها تمتلك متجرًا لبيع التماثيل، يعجب الكاتب بها، وهنا يظهر أساس الفيلم من خلال رد البطلة بأنها ليست إلا مجرد “نسخ” من الأصل.
يقترح الكاتب الخروج من المحل، ويدعوها تنشق الهواء، وهنا يسيران بالسيارة دون وجهة محددة، يتكلمان فيها عن الأمر ذاته، إذ تحكي له عن اختها، تلك التي تبيع الاكسسوارات المقلدة، والتي ترى فيها نوع آخر من الجمال، يؤكد لها جميس فيما بعد أن اختها هي نسخة أخرى منه، فيما يلفت نظرها أثناء سيرهما بالسيارة عن الأشجار في الطريق، والتي تأخذ جميعها الشكل ذاته، لكن كل منها لها روحها.
حينما ينزلان إلى وجهتيهما، توضح إيلي إلى جيمس نسخة عن الأصل في المتحف، والتي تم اكتشافها ووضعها في المتحف، وتخبره أن النسخة الأصلية في مكان آخر، يبدو جيمس مختلفًا معها في فكرة الاهتمام بالنسخة الأصلية فقط لأنها أصلية، معتبر النسختين صورة طبق الأصل عن الوجه الحقيقي للمرأة نفسها.
الفيلم عبارة عن جزئين، جزء يبدو فلسفيًا من خلال النقاشات عن الأصل والصورة، بينما الجزء الثاني يبدو لأول وهلة مسرحية شديدة الاتقان بين البطلين لم تكن عن عمد، حين تظن صاحبة المقهى الذي سيجلس فيه إيلي وجيمس أنهما متزوجان، تشير إيلي أنها لم تصحح الموقف، وكأن تلك اللعبة تستهوي جيمس الذي يوضح أنهما بالفعل يشكلان ثنائيًا جيدًا، ومن هنا تبدأ حكاية تبدو بشكل كبير نسخة طبق الأصل عن حياة كل منهما، تختفي النقاشات الفلسفية، ونشهد خلافًا يبدو خاص بزوجين قديمين، يعانيا من أزمة في علاقتيهما، لتستغرق إيلي في تفاصيلها تمامًا وكأنها الأصل ذاته، لتختفي الحدود بين الأصل والنسخة في لعبتهما المتقنة، حتى بالنسبة لإيلي نفسها، التي تبكي في نهاية كل شجار.
اختيار الأبطال
كان اختيار بطلة الفيلم “جولييت بينوش” بناءً على تحمس شديد لها من جانب الشخصية، وجدها كيارستمي مناسبة تمامًا للدور، وهي تنفعل وكأنها هي الشخصية تمامًا أمام الأحداث، يوضح كيارستمي في مقابلة له بأنه إذا حكى هذه القصة لأحد غير “جولييت” لربما لم يهتم، ولكن الممثلة الفرنسية أبدت اهتمامًا حقيقًا للقصة لأنها تماهت مع القصة إلى حد كبير.
أما اختيار “ويليام شميل” لأداء دور “جيمس” فقد كان اختيار “كيارستاميًا” للغاية، فكيارستمي الذي عُرف عنه حبه للأداء الواقعي، اختار صديقه الكاتب ليقدم دور كاتب، وهو دور شعر أنه مناسب له للغاية، مثلما كان يفعل في بقية أعماله، فهو نفسه الذي يقول “في كل التجارب السينمائية التي قمت بها حتى الآن، لطالما كان بداخلي شيء من شخصيات الفيلم، فأفلامي ليست متمخضة عن شكل فني معين ولكن من الواقع”.
روح إيرانية
إلى جانب الأداء الواقعي الذي تتميز به سينما كيارستمي والسينما الإيرانية بشكل عام، يظهر تأثير عنصر السيارة الذي يبدو بارزًا في أعمال كيارستمي الإيرانية، وهي مشاهد برز بقوة في أفلام مثل “طعم الكرز، ستحملنا الريح، حياة ولا شيء أكثر” بالإضافة إلى فيلم “عشرة” الذي يتكون من عشرة قصص تدور أحداثها داخل سيارة أجرة.
حتى الأدب الإيراني يبدو حاضرًا على لسان البطل حيث يوضح كيف يتخذ الحب شكلًا آخر، شكلًا لا يشبه بدايته المزهرة، فالحديقة بعد الزهور تبدأ بإعطاء الثمار، ومن ثم تصبح حديقة بلا أوراق، حيث يستشهد “جيمس” بقصيدة “حديقة بلا أوراق” ويوضح للبطلة أنها قصيدة فارسية، ويبدأ في الإنشاد: حديقة بلا أوراق، من يتجرأ على القول أنها ليست جميلة” فالحب ربما يختلف، ولكنه يظل جميلًا رغم ذلك.
الفكرة مقابل الدراما
لن نلمح أثر كبير للدراما داخل الفيلم، فليس هناك صراع، ولا تغيرات وتحولات درامية للأبطال، كل ما هنالك هو مجموعة من المشاهد الحوارية الطويلة نوعًا ما، والتي تمزج بشكل متقن بين الحياة الشخصية للبطلين، في مقابل الفكرة الأساسية للفيلم حول “الأصل والنسخة”.
ربما هذا الأمر يجعل الفيلم مملًا إلى حد ما، ولكنه في نفس الوقت يسمح لكل أفكار كيارستمي أن تظهر من خلال بطليه، وهو أمر لا تخنقه أيضًا الفلسفة العميقة، بل تظهر براعة كبير للمؤلف والمخرج الذي يتمكن من تخفيفه بحياة الأبطال، فتبدو فلسفة واقعية إلى حد كبير.