كثيرًا ما يتكلم صناع السينما حول رغبتهم في صناعة فيلم يشبه الحياة، وكثيرًا ما يتم توجيه الانتقادات لفيلم لأنه لا يحترم الواقع ولا يشبهه ويقدم صورة أخرى، وإذا استثنينا مدارس الفن من أجل الفن، فإن السينما هي رحلة محاكية للواقع، بالتأكيد تضيف عليه، وتحذف منه، ولكن بالتأكيد فإن الواقع هو المادة الخام لصناعة السينما، وهنا في فيلم “كلوز آب” يبدو الربط بين عالم الحقيقة وعالم الخيال متماديًا إلى حد كبير، فهنا يمزج المخرج بين التوثيق والروائية، لصناعة فيلمه في نهاية الأمر.
عن قرب
في فيلم المخرج عباس كيارستامي “كلوز آب” أو “عن قرب” يبدو اسم دال للغاية، بداية من لقطات الكاميرا التي اعتمدت الكثير من على لقطة الكوز آب، خاصة على بطل الفيلم، أو “كلوز آب” بما يعني الاقتراب من حياته، فلولا كيارستامي لظل “حسين سابزيان” مجرد خبر في الجريدة، ولكن كيارستامي قد قرر أن يأخذ المبادرة، ويصور كل اللحظات التالية، فصنع فيلمه الوثائقي الذي صار من أهم الأفلام الإيرانية على العموم.
تعد أهم ميزة لفيلم عباس هي ذلك المزج بين التمثيل والحقيقة، فمشهد المحاكمة هو مشهد حقيقي تم تصويره داخل قاعة المحكمة، وكذلك مشهد لقائه الأول بحسين في السجن، غير أنه قد أعاد تصوير المشاهد الحقيقية مرة أخرى بين الأبطال الحقيقيين، فكل الشخصيات هنا قامت بتمثيل ما سبق وعاشته، وهو أمر كثير ما فعله كيارستمي عالعموم ولكنه لم يظهر بذلك الوضوح إلا في ذلك الفيلم، إذ جعل عدد من الشخصيات في أفلامه تقوم بدور شخصيات هي تشبهها في الواقع.
ثيمة السيارة
تعد السيارة هي أيضًا رمز مهم في أفلام المخرج الإيراني، إذ يكون التصوير دائمًا في أفلامه داخل سيارة، بل يعد التصوير بداخلها هو المشهد الافتتاحي في الفيلم، من خلال هذا المشهد يبدو الفيلم واضحًا للغاية، يتحدث الصحفي لسائق السيارة التي تقلهم بصحبة الجنديين أنهم في سبيلهم للقبض على الشخص الذي ادعى أنه المخرج الشهير “محسن مخلباف” وأثناء ذلك يسترسل الصحفي عن الحكاية، ويستعلم منه صاحب السيارة، فنعلم كل تفاصيل الحكاية، لا يعدنا الفيلم بأكثر من هذه التفاصيل، إذ تتمحور كل أحداثه على تلك الحادثة بالذات، لا يحيد عنها، ولا يتناول سواها، ولكنه يحاول استكشاف السبب الذي جعل هذا الرجل البسيط أن يدعي أنه ذلك المخرج المشهور، يعتمد الفيلم على وقت المحاكمة، ومن خلال هذا الوقت نجدد عدد من الفلاش باك التمثيلي –في الغالب- لاستعراض ما حدث.
سبب الفيلم
لم يكن هذا الفيلم إلا صنيع الصدفة، فعباس الذي كان بصدد مشروع آخر في هذا الوقت، قرر أن يتوقف تمامًا، ويتوجه صوب هذه الحادثة التي قرأ عنها مقالًا في الجريدة، ليتتبع كل خيوطها موثقًا هذا التتبع عبر كاميرا الفيديو والتي رصد كل لقطاتها داخل فيلمه الوثائقي، ولا نعلم هل يمكن اعتباره وثائقيًا بالكامل رغم وجود عدد من المشاهد التمثيلية بداخله أم لا، فالفنية مازالت موجودة حتى مع كونه فيلم توثيقي في المقام الأول، وهو أمر ربما أوضحه قوله “لا يمكن أبداً أن نقترب من الحقيقة إلا عبر الخيال””
أراد كيارستمي أن يصنع فيلمًا عن الشغف بالسينما على نحو خاص، وهو ما ظهر من خلال فيلمه “كلوز آب” فالعمل الخاطئ الذي قام به بطل الفيلم كان بسبب حبه للسينما، وهو ما جعل الجميع يتعاطف معه، بداية من العائلة التي خدعها هو نفسه، مرورًا بمخرجي السينما، انتهاءً بمخلباف نفسه.
ودون حرق للتفاصيل، فإن الفيلم هو تمجيدًا رغم بساطته واحتفاء عالي قدر لهؤلاء الذين صدقوا أحلامهم حد التماهي، فبشكل واعي يحقق عباس حلم “حسين” ذلك الذي يمتلك فيلمه الآن، ويتحدث عن معاناته، كما سبق وطلب من كيارستمي في أول لقاء جمع بينهما داخل السجن، فأي جائزة تلك التي دفع ثمنها أيام من حياته داخل السجن من أجل أن يتم تخليده في فيلم يحكي عن شغفه الأكبر؟ إنها جائزة ربما يساوم عليها حياته كلها.
مجرم أم ضحية؟
لن يجيب الفيلم عن السؤال المباشر حيال كون “حسين سابزيان” مجرمًا أم ضحية للفن، لا توجد هنا أجوبة أو أحكام مطلقة، الفيلم لا يقدم لك سوى مشاهد من حياته، تلك التي يعترف فيها أيضًا بعدد من الأعمال الحمقاء، والأخطاء التي قام بها من العائلة مثل اقتراض المال باعتباره المخرج “مخلباف” أو غيرها من الاستغلال للعائلة، بل إن كيارستمي يسأله في قاعة المحكمة حول إن كان كل ما يفعله محض تمثيل أم لا، فعباس لا يريد أن يضع بطله في خانة الضحية، فهو نفسه لديه تساؤلات يطرحها حيال بطل فيلمه، ولكنه لا يملك في النهاية سوى أن تجذبه هذه التفصيلة ويسعى وراء توثيقها، كما فعل حسن نفسه في تقليده لمخلباف.
في اللقاء الأول الذي جمع كيارستمي وحسين، كان الطلب الذي طلبه هو أن يعلم مخلباف “فيلم راكب الدراجة الهوائية جزء مني” يبدو هذا طلبًا عاديًا وجميلًا في آن، إنه طلب ينم عن حب حقيقي بلا ادعاء لأعمال المخرج بالفعل، وهو ما يجعل آخر مشهد في الرواية يحظى بكل هذه السحرية والجمال، عندما يركب حسين الدراجة النارية بصحبة حسن مخلباف، نرى الشبه واضحًا، بينما يذهب “حسين” ليحضر إصيصًا للورد، وتمضي الكاميرا معهما حتى النهاية، لصبح ذلك المشهد رغم كل بساطته مشهد لن تملك نفسك إلا أن تبتسم أمامه.