قام باحث وصُحافي استقصائي وكاتب بريطاني، يُدعى “نفيز أحمد”، بنشر تقريرا على موقع “Insurge Intelligence”، كان يحمل وثائقا تُثبِت أن وزارة الخارجية الأمريكية في حكومة ترامب أنفقت ما لا يقل عن مليون دولار؛ استغلالا لأعمال الشغب والتظاهرات الأخيرة في إيران لتأليب الجماهير على نظام الحكم، وإخراج التظاهرات في صورة ثورة جماهيرية، مستندا في تحقيقه على وثائق ومستندات وأوراق رسمية كانت قد قُدمت إلى مركز أبحاث الكونجرس الأمريكي.
ويأتي هذا في إطار ما تقُم به الحكومات الأمريكية المتعاقبة من توفير ميزانيات مالية لتدعيم الأنشطة المعارضة للحكومة الإيرانية، وهذا في دفع مستمر من قِبل هذه الحكومات، لتقديم الخُطط المعروفة باسم “نشر الديمقراطية”، على حسب ذكر الباحث السابق في CIA لشؤون إيران ودول الخليج، كنث كزمان.
أبرز هذه الوثائق، وثيقة ميزانية وزارة الخارجية الأمريكية، وقد تضمنت ملفا يُطالب فيه (استغلال أزمة المياه في ايران لتوجيه الرأي العام نحو عدم فعالية النظام الإيراني في إدراتها).
فما مدى وضع المياه في الجمهورية الإيرانية، للحد الذي يدفع الإدارة الأمريكية أن تُدرِجها في وثائقها، وتصبح زيتا يُسكب على بنزين المظاهرات فتُزيدها إشعالا؟، وما هو حجم أو قدر هذه المياه؟، وكيف تتعامل الحكومة الإيرانية مع هذا الوضع؟، وما أسباب وُصول الوضع المائي الإيراني لهذا الحد من السُوء؟، وكيف كانت الحلول حِياله؟، وهل أصبح الماء الإيراني سلاحا هاما يُستخدم في أهداف سياسية؟.
هذا ما سنوضحه في تقريرنا، لفهم الوضع المائي شديد التعقيد في إيران، ومحاولة حلحلة العديد من الأُحجيات والمعادلات التي أصبح عليها الوضع المائي في إيران.
مصادر المياه في إيران
تبلغ مساحة إيران 1,648 مليون كم2 -أي ضعف مساحة جارتها تركيا، وثلاثة أضعاف مساحة فرنسا- منها 1,636 مليون كم2 يابسة، و 12,000 كم2 مياه.
ولكن تُعتبر الشبكة المائية انعكاسا لطبيعة المناخ السائد في البلاد، والمناخ في إيران جافا قاحلا أو شبه قاحلا، وهذا ما ألقى بآثارهِ على على الجمهورية بأكملها، فسنجد أن غالبية الأنهار إن لم يكن كلها ليست لها انتظام دائم في الجريان والسيرورة، وعندما يأتي الصيف تنحسر معدلاتها لدرجة الشُح والجفاف.
يُوجد في إقليم “الأحواز” أو خوزستان كما تُسميه السلطات رسميا، أكبر الأنهار في البلاد المتمثلة في كارون، والكرخة، والدز، والجراحي. كما يُوجد نهر هامون، في منطقة بلوشستان. ونهر هلمند شرقي إيران.
بالإضافة إلى بيئة واسعة من العديد من البحار والبحيرات، والبحيرات بالأخص عديد منها مالحة وقليلة المياه، ويجف الكثير منها، أو تتحول إلى ممالح وسباخ. وأبرز البُحيرات في إيران، بحيرة “أورميا” التي تُعد أكبر بحيرة مالحة في الشرق الأوسط، وأكبر البحيرات العذبة بحيرة هامون.
الجفاف:جُذُور من الماضي القريب
يُعد إحالة قضية شُح المياه في إيران إلى أعوام متأخرة ليس هو الضابط الأساسي للأزمة المتفاقمة في البلاد، فقد وجدنا تقريرا صادر عن وكالة الأنباء الكويتية “كونا”، في آب / أغسطس لعام 2000، أشار أن أزمة جفاف المياه انطلقت منذ عام 1999، وقد ضربت المناطق المكتظة بالسكان، والأراضي الزراعية لاسيما في الأقاليم الجنوبية والشرقية بل في العاصمة طهران نفسها. وأن الحكومة آنذاك كانت تشُن حملات توعوية عامة ومُوجهة للمزارعين، والمصانع، والمواطنين لحثهم على تقنين استخدامهم للمياه.
وكانت أسباب الأزمة تتعلق بنقص هُطول الأمطار وانخفاض معدله السنوي إلى الثُلُث فقد انخفضت معدلاته عام 2000 عن عام 1999 بما يُقدر بنسبة 20-30 %، بالإضافة إلى ارتفاع معدلات استهلاك المياه من قِبل المواطنين، وأيضا التوسع العمراني العشوائي، والزيادة السكانية الهائلة، وتطوُر القطاعات الزراعية والصناعية التي كانت تستنفذ كميات هائلة من المياه، كل هذه أسباب أدت إلى حدوث تظاهرات على إثر قلة المياه الصالحة للشُرب، وانقطاعها عن بعض المناطق لمُدد طويلة، كما حدث في مدينة عبادان، التابعة لإقليم خوزستان، وهو واحد من أبرز الأقاليم التي تُعاني من انخفاض معدلات المياه بصُورة كبيرة.
وصرح أحد المسؤولين الكبار في مصلحة المياه آنذاك يُدعى، مهدي سابزواري قائلا: “في حال استمر الوضع على ما هو عليه، فإننا على ما يبدو سنجد لدينا أزمات كبيرة أقرب مما يظن الناس”.
معدل الاستهلاك الفردي كان يبلغ 300 لتر، أي ما يعادل ثلاثة أضعاف المعدل العالمي، ووضع خبراء الأمم المتحدة بعد تفقدهم للعديد من المناطق الإيرانية، نُشِر في مطلع أغسطس 2000، أفاد أن ملايين الإيرانيين قد يُرغمون على النزوح من ديارهم على إثر هذه الموجة العسيرة من الجفاف، وأن 60 % من قاطني الريف سيتوجهون صوب المناطق الحضرية، والمدن الصناعية والتي تُعانِي بدورها نقصا في معدلات مياه الشرب. وأنها ستؤثر على ما يُقدر بــــ30 مليون نسمة من أصل الـــــ 60 مليون آنذاك،والكارثة بدورها تفوق قُدرة الدولة على إلمامها أو التعامل معها بصُورة صحيحة.
وقُدرت الخسارة المالية لإيران لعام 2000 على إثر أزمة المياه تلك، بسبعــــة تريليونات ريال إيراني أي ما يوازي 875 مليون دولار أمريكي، على حد ذكر أحمد خوارزم، نائب وزير الداخلية لشؤون المدن آنذاك.
شُح المياه بين معدلان الاستهلاك ونُضُوب الأمطار
استطلع تقريرا لجيدة العربي الجديد، في نهايات عام 2015، مدى تردي الوضع المائي في طهران، عبر عرض قصة معاناة لمزارع يُدعى، محمد إسماعيلي، في فتحه لإحدى قنوات الري التي تُوصِل المياه إلى أرضه بعدما جفت قنوات مائية عِدة، لكن قناة واحدة يتبقى فيها مياه وهذا يُمكنه من ري أرضه المزروعة بأشجار التوت، هذه الأرض التي لم تعُد تُنتِج كما في الماضي بعدما ضرب الجفاف مساحات زراعية واسعة على طول البلاد وعرضها.
لم يتغير الوضع كثيرا، فقد كشف أحدث تقرير صادر عن مركز الإحصاء الإيراني، أن معدل هطول الأمطار ما زال يبلغ ثلث معدل الهطول العالمي مع تناقُص مستمر في الهطول، وقد أفاد المركز الوطني للجفاف وإدارة الكوارث التابع للأرصاد الجوية الإيرانية، بأن معدل هطول الأمطار، انخفض 18%، خلال عام 2015، مقارنة بعام 2014، وبمقارنة الجداول والأرقام التي ترصد معدلات الهطول في المناطق الإيرانية، وثقت مُعِدة التحقيق لجريدة العربي الجديد، فرح الزمان شوقي، أن محافظة هرمزغان الواقعة جنوب الجمهورية، هي الأقل من بين المحافظات، إذ تضاءلت نسبة هطول الأمطار بنسبة 53% عن 2014، وتليها محافظة بوشهر بنسبة 48%، وبعدها محافظة البرز بنسبة 41%.
هذا أمر دفع مدير مكتب دراسات وأبحاث المنابع المائية التابع لوزارة الطاقة، رضا راعي عز أبادي، إلى الإعلان عن أن 12 محافظة من أصل 31 محافظة إيرانية قد دخلت مرحلة الخطر فعليا ، مصرحا أن حجم المخزون من المياه وراء 160 سدا صار شبه خال، إذ وصل حجم الماء فيها إلى أقل من النصف، على الرغم من أهميتها القُصوى في تأمين مياه الشرب والزراعة للإيرانيين.
كما أفاد تقرير حديث لمركز الإحصاء الإيراني الرسمي، أن كل إيراني يستهلك، يوميا، ما يعادل 170 لترا من الماء، أي ضعفي معدل الاستهلاك العالمي للفرد الواحد، في الوقت الذي يبلغ فيه معدل هطول الأمطار السنوي 251 ملليمترا، بينما يصل المعدل في العالم إلى 800 ملليمتر سنويا، وهذا أرغم الدولة على رفع حالة المطالبة بالترشيد وتوجيهها للمواطنين.
هذا قد أُكد عام 2015، من قِبل معصومة ابتكار، نائبة الرئيس الإيراني حسن روحاني لشؤون البيئة، التي أعلنت أن معدل استهلاك الإيراني للمياه يبلغ ضعف معدل الاستهلاك العالمي، وأن إيران قد استهلكت ما يُقارب من 70 % من احتياطي المياه لديها، مما سيصنع أزمة هائلة قريبا، وقد دعت معصومة كالعادة، وفي صورة متواترة ،الإيرانيين إلى ترشيد استهلاك الماء.
وفي تقرير حديث لجريدة العرب، أشار مسؤول الشركة الوطنية لتوزيع المياه في إيران، أن مستوى الاستهلاك اليومي للمياه في البلاد يبلغ 250 مليون لتر، متجاوزا بذلك معدل الاستهلاك العالمي اليومي البالغ 150 مليون لتر.
نستنتج من هذا أن مُعدل الأمطار بدا آخذا صورة تنازُلية انحدارية بشكل حرج، لاسيما أن علماء البيئة قد أخذوا يعتمدون على آمال منذ الماضي أن ترتفع نسبة ومعدلات هطول الأمطار، عن كل موسم مقارنة بالذي يسبقه، آملين في الذي يليه؛ لإحداث توازن لنِسب المياه المتواجدة في الجداول أو الأنهار أو البحيرات.
ولكن من الواضح أن هذه الآمال سُرعان ما كانت تُلاقى بالخيبة على إثر حجم الانخفاض الذي كان يتزايد، وعلى الضفة الأخرى كان هناك عدم وعي تام من قِبل المستخدمين سواء كانوا جماهير أو مؤسسات أو قطاعات خدمية والتي كانت تستهلك معدلات يومية تفوق ضعفين وثلاثة أضعاف المعدلات العالمية، دون إدراك بما هو قادم، أو معرفة بحجم الأزمة.