عرضنا في الجزء الأول من قرائتنا الاستنباطية، مدخل للفرضية التي سنعرضها في تقريرنا هذا، وفندنا الفعل الذي انتهجته المملكة في عدم رفع أعداد الحجاج الجزائريين حسبما طلبت الجزائر، وأشرنا إلى قضية التدويل للحرمين وإدارته من قبل هيئة إسلامية معينة، الأمر الذي فجرته إيران منذ عدة سنوات، وعرضنا صحيفة الاحتدام السعودي – الإيراني في شعيرة الحج، والمواقف التي جمعت بينهما في هذا الإطار.
ونستعرض في هذا التقرير حقيقة تسييس السعودية لشعيرة الحج أم لا، وتفنيد أدلة ذلك، بالإضافة إلى ذكر الافتراض الإيراني القائم، وتحليل الوضع الإيراني -السعودي حول قضية الحج.
هل تسيس السعودية الحچ؟
في منتصف يونيو / حزيران لعام 2017، نشرت صحيفة “لوموند” الفرنسية، تقريرًا للصحفي، بنجامين أوجي، يكشف فيه أن السعودية استخدمت أساليبًا عدة؛ للضغط على دول للوقوف معها ضد قطر، لاسيما الدول الأفريقية.
وكان من ضمن هذه الأساليب، سيطرة السعودية على تحديد حصص الحچيچ لكل دولة، واستخدامها كورقة ضغط على دول أفريقية ذات غالبية مسلمة كنيجيريا مثالًا، وهددت المملكة بـعرقلة حصول مواطني هذه الدول على تأشيرات الحج والعمرة، حسبما أفاد التقرير.
فنجد أنه عندما بدأ الحصار على قطر منذ مطلع حزيران / يونيو 2017، عددت المملكة من إجراءاتها لإعاقة عملية السفر للحچ والعمرة لحملة الجنسية القطرية، وهو ما أشارت إليه لجنة حقوق الإنسان القطرية، وكان من أوجه هذه الإعاقات، أن يقم مسلمو قطر القاطنين خارج قطر بالعودة لبلدهم والمغادرة منها للحچ لا أن يغادورا من الوجهة التي يقطنون فيها من الأساس، وأيضًا أن يتم السفر عبر الجو فقط وعبر معبرين جويين حصرًا، كما رفض التواصل مع وزارة الأوقاف القطرية لتسلم قائمة حجاج العام الماضي.
وهو ما أكدته المنظمة العربية لحقوق الإنسان أيضًا، فهاجمت المملكة من قيامها بالتلاعب بحق أساسي وهو حرية ممارسة الشعائر الدينية بأداء فريضة الحج. وشكلت قضية الحجاج القطريين مدخل اهتمام، واستحضار لشأن تسييس المملكة للحج، والضغط على خصومها السياسيين.
هذا الموضوع تبدى أيضًا، بالنسبة للحجاج السوريين، فقد كان العام الماضي، هو العام الخامس على التوالي، الذي يتم فيه منع الحجاج السوريين من أداء شعيرة الحج ومناسكه،وقد أكدت وزارة الأوقاف السورية، أن السلطات السعودية تستمر في حرمان السوريين من أداء فريضة الحج لهذا العام أيضًا، لتسييسها هذه الفريضة.
وأفادت الوزارة أن المملكة تتعامل مع “لجنة الحج العليا السورية” التابعة للائتلاف السوري التابع للمعارضة السورية، ولا تتعامل مع النظام السوري في البلاد، مما أفضى بالضرورة إلى تسييس الشعيرة، وحرمان المئات والآلاف من أداء الشعيرة.
وظهر هذا الأمر مجددًا، في مطلع آب / أغسطس 2017، عندما قامت المملكة بمنع الحجاج من البدون الكويتين -وهم الحجاج عديمو الجنسية، وفي القانون الكويتي هم المقيمون في الكويت بصورة غير شرعية، وهم من أبناء البادية والقبائل- للسنة الثالثة على التوالي من أداء شعائر الحج، وذلك منذ عام 2014، ويتمثل سبب المنع في رفض السعودية الاعتراف بالوثائق المؤقتة “جوازات المادة 17” التي تصدرها الكويت لصالح البدون، واشترطت وضع جنسية “البلد الأصلي” للبدون.
وهذا رغم تنسيق وزارة الأوقاف الكويتية مع وزارة الخارجية ولجنة البدون في مجلس الأمة طوال 5 شهور، لحث السلطات السعودية على السماح للحجاج البدون بإتمام مراسم الحج،عوضًا عن الإلحاح الكويتي سنويًا على المملكة وخارجيتها للسماح للبدون بأداء شعائر الحج؛ لكن النشطاء الكويتيين يقولون إن جوازات البدون تحمل “الشفرة الكويتية” الخاصة بالجوازات العادية، وهو أمر يتماشى مع مواثيق المسار الإلكتروني السعودي، وأبدوا أن التعنت السعودي الحاصل هو جزء من معركة دبلوماسية غير مفهومة بين الخارجيتين الكويتية والسعودية تورط فيها البدون.
الحجيج اليمني لاقي مصير أقرانه، ففي العام الماضي كان العام الثاني على التوالي، الذي يمنع فيه الحجاج اليمنيون من أداء الشعائر، وقد أكد وكيل قطاع الحج والعمرة في وزارة الأوقاف في اليمن، عبد الله عامر، أن السعودية ماطلت في إعطاء التصاريح لخمسة عشر ألف حاج يمني في مسعى لتفويت فرصة الحج عليهم، وقد كان هذا الأمر في إطار الحرب الدائرة بين المملكة، والحوثيين، فاستخدم غالب الظن هذا الأمر كورقة ضغط على اليمنيين رغبةً منهم في تأليب اليمنيين على حكم الحوثيين لهم.
مطلع عام 2016، اتخذت السلطات السعودية قرارًا بحظر تأدية الفلسطينيين المقيمين بالدول العربية مناسك الحج والعمرة، مبررةً القرار بأنه صدر لمنع دخول عناصر إرهابية إلى المملكة، مشددةً على أن قرار الحظر يستهدف الفلسطينيين اللاجئين بسوريا دون غيرهم.
ولكن هذا كان مناقضًا للواقع الواقع فقد أكدت مصادر عدة، أنه قد تم تعميم قرار الحظر على كل فلسطنيي الشتات، وليس حاملي الوثائق السورية فقط كما تدعي السعودية؛ مما أثار مشاعر الغضب لدى الكثير من الفلسطينيين المتواجدين خارج الأراضي المحتلة.
بالنسبة للأمر الليبي، فقد رفضت المملكة السعودية استقبال الحجاج الليبيين شريطة أن يحملوا جواز السفر الإلكتروني، تأكيد من وزارة الأوقاف الليبية، ومخاطبة لوزارة الحج السعودية، وطلب ليبي لإعفاء الحجيج الليبي من الشرط، ولكن تعنت سعودي رد بالرفض، وكان التعليل هو أن هذا القرار مطبق على كل الحجاج.
أتى هذا في ظل تسليم السلطات السعودية ثلاثة معتمرين ليبيين إلى قوات حفتر عقب اعتقالهم، ويقبعون في سجن قرنادة، منذ 25 يونيو / حزيران 2017، وكانت قد طالبت حكومة الوفاق الوطني، برئاسة فايز السراج، من الخارجية السعودية، الكشف عن مصير هؤلاء في السجون السعودية منذ يونيو العام قبل الماضي بعد اعتقالهم عقب أدائهم العمرة.
الافتراض القائم
دعوى التسييس هي أول ما واجهته إيران عندما فكرت يومًا في إعطاء إدارة الحرمين لهيئة إسلامية حيادية بعيدةً عن السلطات السعودية كدولة قطرية. هذه الرغية كانت تواجه سريعًا وبقوة من قبل إدارة المملكة، والعلماء والدعاة، وحتى حكومات الدول الإسلامية، ردعًا لإيران ورغبتها في نشر المذهبية والطائفية وتسييس الفريضة، فتحجم تطلعاتها رغم دعواتها المتجددة.
لكن كيف نحرر الأفعال السعودية تجاه بسط سيطرتها على قضية الحج، وإدارتها لها؟
من الواضح أن المملكة السعودية قد قررت أن تحيل دعوى إيران الخاصة بالتحكم في ملف الحج لحقيقة واقعة، وقد بدا لها أنها تجهل موطن قوة لم تستخدمه من قبل، وتقم باستخدمتها كورقة سياسية في أحايين عدة، ومع مواطني دول عدة، هذا ما أفاده أستاذ العلوم السياسية بجامعة قسنطينة الجزائرية، مراد سيق، الذي أوضح أن ما يحدث في إجراءات الحج والعمرة، أصبح أمرًا تصنيفيًا فئويًا وفق علاقات المملكة مع هذا البلد.
وأضاف في حديثه لهاف بوست عربي، أنه ليس مستبعد عن اليوم الإجراءات التي اتخذتها السعودية ضد القطريين بسبب الأزمة بين البلدين، استنادًا إلى ما حدث بين إيران والسعودية. وبالتالي وصل إلى نتيجة مفادها، أن السلطات السعودية رفضت رفع أعداد الحجاج الجزائريين، لأن الرد على طلب الجزائر كان موازيًا مع الأزمة التي ولدت مع حادثة الراية.
وبالتالي لا يمكن الاعتداد بالتوافق الإيراني-السعودي حول قضية الحج في العام الماضي، فهذا التوافق بالإضافة إلى أنه قد حدث قبيل هذا الاحتداد المتأزم الذي طال العلاقات الإيرانية السعودية في شهور ما بعد الحچ، فهذه سياسة؛ من الصواب بالطبع ألا تزحف السياسة نحو شطآن العبادات أو تقاربها لأنها بالطبع ستضفي حالة استقزام على الأطراف التي تتبناها، ولن يحظوا بأي تقدير من قبل الرأي العام لا سيما عموم الجماهير المسلمة وسيوصمون هذا الأسلوب وفاعله بأوصاف سيئة السمعة.
وهذا ما استفادته السعودية ووظفته عندما دعت إيران لفكرة التدويل؛ فتحصلت السعودية على زخم واكتسبت دعمًا وتأييدًا جماهيريًا، ووصمت إيران بصفات طائفية، وفتحت أعين الكثيرين -شاملةً العوام أنفسهم- على عقيدتها الدينية الشيعية المناوئة والمخالفة لعموم المسلمين المنتهجين مذهب السنة.
ولكن -وهذا هو الافتراض- من الممكن أن تجدد إيران اللعب بهذه الورقة، وتستغل الحالة الجزائرية، وتضعها كورقة جديدة في ملف مدجج، تستطيع أن تعيث من خلاله كثيرًا من الغبار في الداخل السعودي، رغم ما حققته من مكاسب في موسم حج 2017، لأن السعودية عقب موسم الحج، ومع صعود الأمير محمد بن سلمان، في واجهة الصورة السعودية، فتحت النار على إيران في عدة جبهات، كاليمن، وسورية، والعراق، ولبنان، في سبيل تحقيق نصر سياسي خارجي يضفي شرعيةً على أحقية ولاية محمد بن سلمان للعهد.
أشارت إيران في أكثر من مرة، أن السعودية تحاول التغطية على معضلاتها الداخلية بإثارة قضايا خارجية، وهذا يعني أن إيران لديها قراءةً تفصيلية بالوضع العام السعودي، وهذا الأمر يمكنها من سكب المزيد من الزيت على النار، وتوسيع رقعة خسائر المملكة الخارجية، وإلحاق بها أذى داخلي، لا سيما أن الإدارة الإيرانية لديها اقتناع تام أن السعودية كانت تشارك بشكل أو بآخر في تأجيج الاحتجاجات التي ضربت إيران نهاية كانون الأول / ديسمبر الماضي وحتى الأيام الأولى من شهر كانون الثاني / يناير الحالي، رغم عدم استبانة هذا الأمر بالمرة حتى الآن.
تهيئ السعودية الأرض عن دون قصد أو عمد لإيران أن تعبأ العديد من الدول المسلمة -رغم سنيتها، وأيضًا رغم اختلافها السياسي مع إيران- أن تقف معها في سبيل تحقيق هدف شعائري بحت لمواطنيها، وهذا ما يؤدي قطعًا إلى تفريغ وفض الأعوان والحلفاء من جوار المملكة السعودية إلى جوار الجمهورية الإيرانية، ونستطيع أن نعبر من هذا الصدد قضية الحج إجمالًا إلى الخروج بتفسيرات حول السياسة الخارجية للجانبين السعودي، والإيراني.
يتبين للناظر، أن السعودية تنظر إلى مسألة تنظيمها للحچ على أنها قضية حياة أو موت،لا تقبل البتة النقاش فيه أو التنازع حوله، فقد صرح وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، سابقًا، أن دعوة قطر لتدويل مناسك الحج على أنها (إعلان حرب) بهذه الصيغة، رغم النفي القطري التام لهذا الأمر.
ولكن هذه المسألة كخطوط حمراء، تلفح السعودية بالنار من يقترب منها، ولكن الأمور تختلف من فترة لأخرى، إذ أن المتضررين من أسلوب المملكة في إدارة قضية الحج، سيرتمون في أحضان إيران مهما كان اختلافهم معها ويلتفون حول قضية واحدة، هذه القضية ستقاد وسيصل مدها إلى ما هي أبعد إذ غطست في مستنقع السياسة.
السعودية ترى دعوى التدويل أنها تحمل أهدافًا ومضامينًا إيرانية، وأنها تريد تفتتيت المملكة وضعضعتها عبر ابتزازها ومساومتها عبر ملف الحچ. وإيران تضمر أهدافها الحقيقية ولا تعبر عنها -وهي لاشك عقدية هوياتية صرفة ملبسةً برداء سياسي- استنادًا إلى موقف المنع من الحچ الذي أصبحت تعانيه دولًا عدة، وإن كانت إيران قد رمت المملكة بتسييس قضية الحچ في وقت لم تكن السعودية تنتهجه، فالسعودية أصبحت الآن تتلبس بهذا الأمر وهذا وفق العديد من آراء الخبراء والمحللين، هنا أرض السياسة.