في مقابلة مطولة، سُئل عالم الاجتماع الإيراني البارز مقصود فاراساتخواه مؤخرا عما إذا كانت الصعوبات الاقتصادية هي السبب الأساسي وراء الاحتجاجات الأخيرة في إيران. ورد فاراساتخواه قائلا، “أعتقد أن الأسباب الأساسية لهذه الاحتجاجات أكثر من ذلك”. ويؤكد أن الدولة الإيرانية عرفت “نفسها” بأنها مثل أي دولة أخرى بما فيها الدول الديمقراطية.
ومع ذلك، فالمشكلة في إيران هي أن النظام غير مستعد للاعتراف “بالآخرين” وبحقوقهم. إنها الحوكمة في إيران، التي تقوم على هذه النظرة العالمية قصيرة النظر، والتي تسبب في التمييزفي المعاملة وإحداث فوارق وعدم المساواة الاقتصادية بما في ذلك ثروة إيران الهائلة وفجوات الدخل. ويضيف فاراساتخواه، هذا هو السبب الأساسي.
بين عامي 2009 و 2018
يؤكد فاراساتخواه أن هناك أربعة “آخرين” في المجتمع الإيراني فشل النظام السياسي في تعريفهم. أولا، مجموعة واسعة من ” الآخرين السياسيين”، وهي مجموعة تضم أولئك الذين يؤمنون بمعارضة غير عنيفة للحكومة مثل الإصلاحيين. ثانيا، الآخرين من أصحاب الثقافات والأيديولوجيات، والطبقة المتوسطة والمثقفين والفنانين يشكلون هذه المجموعة.
ثالثا، الآخرين الذين يعرفون أنفسهم على أساس مهنتهم مثل النقابيين والصحفيين. وأخيرا، “الآخرين الاجتماعيين”، وهي مجموعة تتألف من فصيل كبير من النساء الإيرانيات اللاتي يعارضن النظام الأبوي، الذي يهيمن عليه الذكور.
ومن الناحية الجغرافية، غطت الاحتجاجات الأخيرة مساحة أكبر من التي غطتها ثورة عام 2009 التي أعقبت الانتخابات المتنازع عليها للرئيس محمود أحمدي نجاد. وانتشرت الاحتجاجات لتصل إلى أكثر من 80 مدينة وبلدة. ورغم ذلك، من حيث أعداد المشاركين، لم تكن هذه الاحتجاجات مماثلة لمظاهرات عام 2009، التي انهالت فيها مئات الآلاف إلى شوارع المدن الكبيرة، بما في ذلك العاصمة طهران.
وهكذا يصبح السؤال لماذا حركة جماهيرية شعبية مماثلة لانتفاضات عام 2009 لم تنهض هذه المرة. وهذا على الرغم من أن قوات الشرطة والأمن الإيرانية امتنعت عن استخدام العنف على نطاق واسع، مقارنة بعام 2009.
يذكر أن هناك مجموعتان في المجتمع الإيراني لديهما القدرة على تشكيل احتجاجات جماهيرية. أولا، القطاعات الفقيرة والمحرومة التي تكافح من أجل العيش. ووفقا لتقرير صدر في يوليو من عام 2017 أعدته وزارة الطرق والتنمية الحضرية، يعيش 33 في المائة من سكان إيران تحت خط الفقر.
وحدثت واحدة من أهم أحداث الشغب التي شملت هذه المجموعة من السكان في العام 1995 عندما بلغ معدل التضخم الإيراني 50٪ خلال رئاسة آية الله هاشمي رفسنجاني بسبب سياساته المتعلقة بالانفتاح الاقتصادي.
وقد قام الآف ممن يعيشون فى حي اسلامشهر الفقير، فى ضواحى طهران، بمظاهرة غاضبة. وانضمت الأحياء الفقيرة المجاورة إلى المتظاهرين على الفور. وقد واجه المشاغبون، الذين تقدموا باتجاه طهران، قوات الحرس الثوري التي قمعت احتجاجاتهم.
ومن المثير للاهتمام أنه على الرغم من حجم الاحتجاجات الكبير، فهذا الجزء من السكان لم يكن لديه أي قائد لتمثيل مطالبه مطلقا. وعندما ينظر المرء إلى الاضطرابات الجماهيرية التي حدثت في عامي 1999 و 2009، يرى أن دعائمها كانت من الطبقة المتوسطة من سكان المدن، كانت مطالب المتظاهرين ذات طابع مدني، حيث كانت تشمل الحريات الاجتماعية، وحرية التعبير، ومعارضة فرض قوانين إسلامية صارمة .
ولم تكن الاحتجاجات الأخيرة استثناء. وفي حين أنه كان هناك غياب بشكل عام لأي نوع من القيادة، كان هذا هو الحال بشكل خاص فيما يتعلق بالقيادة التي تمثل الطبقة العاملة ذات الدخل المنخفض. وعلى هذا النحو، وعلى الرغم من أن بعض أعضاء هذا الفصيل شاركوا في الاحتجاجات، ولا سيما في المدن الصغيرة، فإنهم لم يخرجوا بشكل كبير بسبب عدم وجود قيادة لحشدهم وقيادتهم.
وسبب آخر يفسر غياب السكان هذا في الاحتجاجات وهو أن جزءا كبيرا من هذا الفصيل يشكل القاعدة السياسية للحكومة. فالعديد من الفقراء متحفظون دينيا جدا، وبالتالي يرفضون التورط في اضطرابات ضد حكومة تستند إيديولوجيتها على الإسلام.
والمجموعة الثانية في المجتمع الإيراني التي يمكن أن تشكل الحركات الجماهيرية هم الحضريون من الطبقة المتوسطة. ويمكن العثور على جميع مجموعات “الآخرين” الأربعة التي حددها فاراساتخواه في هذا القطاع من السكان الإيرانيين.
جدير بالذكر أن هذه المجموعة، التي تشكل الدعامة للانتفاضات الشعبية في عام 2009، اختارت حركة وقيادة لنفسها، وهم الإصلاحيين، بقيادة الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي. وبسبب دعم خاتمي لمير حسين موسوي، رئيس الوزراء الإيراني السابق، الذي عاد مرة أخرى على المسرح السياسي الإيراني بعد عقدين من العيش في عزلة ، وترشح للرئاسة في عام 2009، وبرز كزعيم لما يسمى بالحركة الخضراء.
ونتيجة أيضا لدعم خاتمي ظهر حسن روحاني، وهو شخصية سياسية غير معروفة للجمهور، في عام 2013 للفوز في سباق الرئاسة في الجولة الأولى، ليفاجيء جميع المحللين بشكل كبير، حتى أولئك المحللون في إيران.
حركة الإصلاح
من الناحية النظرية، تطالب حركة الإصلاح بإنشاء مجتمع مدني تحترم فيه الحقوق المدنية والديمقراطية. وروحاني هو المعتدل الذي لم يكن أبدا إصلاحيا، ولكن الآن يؤيده الإصلاحيون. وخلال حملته لانتخابات الرئاسة في عام 2017، ومن أجل اجتذاب أصوات الإصلاحيين، تحول بوضوح من معتدل إلى إصلاحي.
وعلى أية حال، لم يشارك الفصيل الثاني أيضا بشكل كبير في الاحتجاجات الأخيرة لثلاثة أسباب.
أولا، لأن مظاهرات مشهد بدأت بشعارات “الموت لروحاني”، وكان هناك اعتقاد على نحو واسع يتمثل في أن السيناريو كان ينظمه المتشددون لإرغام روحاني على الاستقالة.
وكان أعضاء الطبقة المتوسطة الذين عاشوا في المدن الكبيرة والذين صوتوا بأغلبية ساحقة لصالح روحاني قبل ستة أشهر فقط، لم يروا أي سبب للانضمام إلى المظاهرات التي كان من شأنها أن تعرض موقف روحاني للخطر لصالح خصومهم، المحافظين.
ثانيا، في اليوم الثاني، اندلعت حالة من العنف، حيث حطمت الحشود نوافذ مباني الدولة وأضرمت الحرائق في المباني والشوارع. وأصبح الرأي القائل بأن إيران يمكن أن تتحول بشكل سريع إلى حالة من الفوضى، كما حدث في سوريا، واسع الانتشار وانتشر على شبكات التواصل الاجتماعي قبل أن تمنعها الحكومة.
وقد خلق هذا حالة من الخوف الشعبي الذي منع سكان المدن من الانضمام إلى المظاهرات.
وأخيرا، فمجمع رجال الدين المجاهدين (ولا ينبغي الخلط بينه وبين الهيئة المحافظة جدا لجمعية رجال الدين المجاهدين)، والذي يرأسه خاتمي، نأى بنفسه عن الاحتجاجات بأقوى الكلمات من خلال إصدار البيان التالي، “بدون شك يواجه الناس في إيران صعوبات في حياتهم اليومية، ولهم الحق في المطالبة والاحتجاج سلميا.
“ولكن أحداث الأيام الاخيرة أظهرت أن الانتهازيين ومثيري الشغب قد استغلوا المظاهرات لخلق مشاكل وحالة انعدام للأمن وتدمير المباني العامة، في حين قاموا بإهانة القيم الدينية والقومية المقدسة”.
يذكر أنه ليس هناك شك في أن مجموعة من العوامل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المعقدة، مثل، أولا وقبل كل شيء المحسوبية العلنية تجاه أنصار النظام والتمييز ضد بقية السكان والضغط عليهم، ستؤدي على الأرجح إلى مزيد من الاضطرابات في المستقبل.
ورغم ذلك، ما دامت المجموعة الأولى لا تزال بلا قيادة ولم تدر ظهرها إلى النظام، وإذا ظلت المجموعة الثانية موالية لحركة الإصلاح بقيادة محمد خاتمي، فغير محتمل ظهور انتفاضة واسعة النطاق “تهدد بقاء النظام” في المستقبل القريب.
وبعد كل شيء، على الرغم من أن الإصلاحيين يعارضون سياسات “الدولة العميقة” بشدة، إلا أنهم لا يسعون لإطاحة بالنظام.