عرضنا في الجُزء الأول -يمكنكم الاطلاع عليه من هنا– النصف الأول العُلوي من المجتمع الإيراني، حيث سكان الأبراج العاجية، هذا المجتمع الذي ظل مُوارَبًا عن الأنظار لسنينٍ طوال في عهد الثورة الإسلامية، وللمفارقة كيف جمع هذا المجتمع بين الأضداد فئة من الشباب، أبناء الأثرياء، والذين عربدوا بالأموال الطائلة في حياةٍ تعج باللهو والترف والبذخ والإنفاق الذي لا حدّ له، وضربوا عرض الحائط بقوانين وأعراف الجمهورية الإسلامية، وفئة رجال الدين الذين يدعّون التقشُف والزُهد بل ويدعُون الناس إليها، وهم يبسطون أياديهم على اقتصادٍ هائل، بلغ حسب تقرير رويترز، الذي اعتددنا به في الجُزء الأول، ثلاثين ضعف حجم اقتصاد الشاه محمد رضا بهلوي الذي قاموا بالثورة ضده.
الطبقة الدُنيا
في ظل الثقافات الرأسمالية، والنزعات الاستهلاكية، تكاد تنسحق الطبقات الوسطى، وهذه هي النتيجة المُفضّية بالضرورة لهذا الفكر التي تُعبِر عن خلاصته، الأثرياء يزدادون ثراءً والفُقراء يزدادون فقرًا، ولا مكان للوسط هُنا فهم لا ولن يستطيعوا مُجاراة السياسة السِعرية وفي الوقت نفسه أموالهم لا تُشكّل لهم قاعدة يستطيعون الوقوف عليها للقفز إلى أعلى والالتحاق بالطبقات الثرية التي تمتلك أموالًا هائلة، وبالتالي هؤلاء يستمرون في فُقدان المُدخرات خاصتهم ليلتحقوا سريعًا بالطبقة الدُنيا والتي تستمر في الاتساع الأُفقي في إيران باطرادٍ مُقلِق.
وفي ملحوظةٍ هامة، وهي أن الأجهزة الرسمية في الجمهورية تكاد عن عمدٍ تعمل على إخفاء طبيعة الفئوية والطبقية في المجتمع، وهذا بالطبع لئلا تُصدر إيران من نفسها صُورة تُصبح مثار التهكُم وعدم الصوابية من قِبل الذين يقفون على الجبهات وينتظرون أية صُورة سلبية لإيران للنكاية فيها، وهذا الإخفاء العمدي يظهر في عدم صُدور بياناتٍ دورية أو إحصاءاتٍ محددة المدة، وبتوقيتاتٍ معلومة يُعتَّد بها أو يُستند عليها في تقدير الموقف بصُورةٍ صحيحة.
لكن بإلقاء نظرةٍ مُبسطّة عن ماهيّةالوضع الاقتصادي لهذه الطبقات، فقد كان أحد ردود الأفعال على صفحة “أطفال طهران الأثرياء”، إنشاء صفحةٍ مقابلة تبرز الفقر الذي تعيش فيه الغالبية الكادحة من الشعب الإيراني بعنوان “أطفال طهران الفقراء”، وتجابه صُور الصفحة الأولى بالمثل ولكن على النقيض.
أول بيت قصيدتنا، ارتفاع أسعار الغذاء الذي كان سببًا رئيسًا في اندلاع الاحتجاجات في مقابل انخفاض القوة الشرائية للمواطنين المتمثل في ضعف الريال الإيراني، فقد ارتفعت أسعار البيض بنسبة 30-40 % جملة واحدة وقد كان سعره في نهاية 2016، يبلغ 600 تومان مايوازي 20 سنتًا أمريكيًا ، وذكر ت مجلة فوربس نقلًا عن موقع حبرستان الإيراني أن الزيادات السنوية في الرواتب تساوي قيمة بضعة كيلوجرامات من الفواكه كنايةً عن ضآلة هذه الزيادات وغُلُو سعر الفواكه، بل وصل الأمر إلى أن المعطيات الناتجة عن إحصائيات مركز الإحصاء ومصرف إيران المركزي أشارت إلى انخفاض 25 % من القوة الشرائية لشراء اللحوم، وقد أعلن رئيس اللجنة الزراعية للغرفة التجارية في طهران، كاوه زرغران، أن حصة أنواع اللحوم تقلصت من تكاليف العائلة من 6.1 % في عام 2006، إلى 5.4 % في عام 2015، وقد انخفضت نسبة استهلاك اللحم الأحمر في العوائل الحضرية أكثر من 25 % في العقد المنصرم.
بل امتد انخفاض استهلاك اللحم الأحمر من الأحياء سكنية في جنوب طهران إلى الأحياء الواقعة في شرق وغرب طهران وحتى شمالها. وأبرز دليل على ذلك ما أفاده المصرف المركزي الإيراني، أن معدل الاستهلاك السنوي للمواد الغذائية للفرد انخفض من 2870 كيلو جرام إلى 1870 كيلو جرام، نقلًا عن موقع منظمة مجاهدي خلق.
البطالة أيضًا تستشري في الجسد المجتمعي لإيران، فقد بلغت نسبتها حسب مركز الإحصاء الإيراني، إلى 12.4 % مرتفعةً عن العام الماضي بنسبة 1.4 %، أي ما يزيد عن 3 ملايين عاطل كما أفاد تقرير موقع فينانشيال تريبيون، وتُشير نسب أُخرى غير حكومية أدرجتها ورقة المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات أنها 24 % أي الضعف، وغالبية هؤلاء العاطلين يقعون في النطاق الإقليمي العربي داخل الجمهورية الفارسية الطابع.
ويأتي هذا نقيض الرؤية العشرينية الممتدة من (2025-2005) والتي بموجبها يتعين على الحكومات إيجاد 600 ألف فرصة عمل سنويًا. حتى أن وزير العمل الإيراني، علي ربيعي، حذر في وقتٍ سابق قُبيل 2016، من “تسونامي بطالة” في بلاده، خصوصًا لدى الشباب، مؤكدًا أن 1.1 مليون من خريجي الجامعات لا يجدون فرصة عمل، إضافةً إلى 4.5 ملايين طالب جامعي آخرين، وشدّد على أن إيران ستواجه 5.6 ملايين متعلّم باحثين عن فرص العمل.
فعلى سبيل المثال في عهد الرئيس المحافظ، أحمدي نجاد، أُوجِدت 600 ألف فرصة عمل ، بينما كان من المفترض أن تُوجَد 4 ملايين و800 فرصة عمل، على حد قول مسؤولين في حكومة الرئيس الإصلاحي روحاني.
والفقر يضرب بجذوره في أصقاع البلاد، في عام 2016، كان البنك المركزي الإيراني قد كشف عن بياناتٍ اقتصادية تتمثل في أن هناك 47 مليون إيراني من بين 70 مليون نسمة يعيشون تحت خط الفقر، أي أقل من أربعة دولارات أمريكية في اليوم، وتقديراتٍ متباينة تتناول أن عدد من يعيشون تحت خط الفقر لا يقلون عن 25 مليون نسمة من مجموع السُكان، فنحن نتحدث عن ثلث إلى ثُلُثي المجتمع يعيشون تحت خط الفقر في ظل دولةٍ يُمثِّل اقتصادها ثاني أقوى اقتصاديات منطقة الشرق الأوسط خلف السعودية، فقد بلغ إجمالي الناتج المحلي عن عام 2016، ما يُقدّر بـــ 412.2 مليار دولار، وبتعدادٍ سُكاني وثروة بشرية تأتي خلف مِصر مباشرةً.
يأتي كذلك التضخُم المالي بنسبة تصل إلى 17 % -على خِلاف ما تدعيه حكومة روحاني أن نسب التضخم انخفضت إلى ما دون 10 %- ومعدلات النمو متذبذبة نسبها وأرقامها بطريقةٍ واضحة، بين ما تُشيرُ إليه حكومة روحاني، وبين إشارة صندوق النقد والبنك الدوليين، روحاني قال بصفةٍ طلِقة، في ذكرى احتفال عيد النيروز “20 آذار / مارس” لعام 2017، أن حكومته حققت نجاحًا في رفع نسبة النمو إلى 8 %، ومركز إيران للإحصاء أشار إلى أن نسبة النمو الاقتصادي مع احتساب النفط، وصلت في الشهور التسعة الأُول من العام المالي “مارس 2016 / مارس 2017” إلى 8.9 %، ودون احتساب النفط وصلت إلى 6.4 % . وذهب المصرف الوطني المركزي إلى إن النمو الحاصل في الناتج المحلي الإجمالي، خلال فصل الخريف لعام 2017، وصل إلى 15.7 % مع احتساب النفط.
بينما في مطلع عام 2017، أشار في تقريرٍ له عن وضع الاقتصاد الإيراني، أن الاقتصاد الإيراني مُهدد بتجدد حالة عدم اليقين؛ نظرً للعلاقات السيئة مع الولايات المتحدة الأمريكية في ظل حكم ترامب، وخطر فرض عقوبات جديدة على طهران لبرنامجها الصاروخي الباليستي -وهو ما حدث منذ عدة أيام-، وأن إيران تحيا حالة انتعاشٍ هشّ.
سنجد شيئًا جديدًا لم يكُن محل عرضٍ هام في التقارير والأبحاث، وهو قطاع العقارات، وقضية الإسكان في إيران، موقع فياننشيال تريبيون في تقريره، منتصف 2017، أشار إلى أهمية هذه القطاع، وأنه شِريان حياة رافد للاقتصاد الإيراني وفشله كقطاعٍ إنتاجي هو فشل للاقتصاد الإيراني إجمالًا، فحاليًا هناك وحدة سكنية مملوكة من كل عشر وحدات مملوكة غير مأهولة، وارتفعت تكاليف السُكنى مقارنةً بالمصاريف الأخرى، وأصبحت 70 % من نفقات الأسرة الإيرانية تذهب لتسديد قيمة الإيجارات السكنية في ظل استئجار ثُلُث الإيرانيين لبيوتاتٍ ومنازل.
وهذا ما أفضى بالضرورة إلى ارتفاع نسبة سُكان العشوائيات الذين وصل عددهم إلى 15 مليون منهم ثلاثة ملايين في العاصمة، طهران، حسبما أفادت صحيفة شهروند الإيرانية. مع عدم توقع الخُبراء مستقبلًا -خلال السنوات العشر القادمات بالتحديد- تحرُك نسبي أو تقدم في هذا القطاع لتبديد هذا الركود.
وبالنظرة للوضع الاجتماعي، سنجد حالةً مزريةً للغاية، في تقريرٍ واسع لمجلة إيران بوست، أفادت أن إيران أصبحت واحدةً من كُبريات مُشتري الأفيون الأفغاني، والأمر مثله للهيروين ولكن إنتاجًا على مستوى العالم. وبلغ عدد المتعاطين والمدمنين كلاهما قُرابة 9 مليون إيراني، ويبلغ حجم المُخدرات المُتعاطاة سنويًا 500 طن، كما أكد نائب رئيس دائرة مكافحة المخدرات.
وترتفع حالات الطلاق لتصل إلى نسب 21 % زيادةً عن العام قبل الماضي 2016 بنسبة تصل إلى 9.3 %، فتحدث 19 حالة طلاق كل ساعة، في ظل اتفاع وتقدُم سن الزواج حتى تصل إلى 40 عام عند الرجال. بالإضافة إلى ارتفاع نسب عدم الزواج في الرجال والنساء على حدٍّ سواء، بنسبة 37.8 %، 30.5 % على الترتيب. وهذا بالضرورة يُفضِّي إلى سُوقٍ غير شرعية محرمة واسعة في أمور العلاقات بين الرجال والنساء، من الدعارةِ وأبناء الفِراش.
وعلى إثر هذا الفقر المدقع، حسب منظمة الهلال الأحمر الإيرانية، فإن بعض العوائل تضطر لبيع أطفالها ما بين 120-300 دولار، كما أصبحت واحدة من كُبريات أسواق بيع الكُلى البشرية حول العالم، كما أشار تحقيق أجرته صحيفة “لوس أنجلوس” الأمريكية، فإيران البلد الوحيد الذي يُقِر قانون بيع الكُلى؛ إذ توجد مؤسسة حكومية تنظّم عملية بيع الكُلى وشرائها؛ إذ تضع مبلغ 4600 دولار سعرًا للكُلية الواحدة.
إذ قام الأطباء العاملون في هذه المؤسسة بإجراء نحو 30 ألف عملية جراحية منذ سنة 1993، جرى خلالها زرع الكُلى بهذه الطريقة. ولكن هذا لا يمنع من وُجود سُوقٍ سوداء تتنامى في تجارتها رغم ظاهر التنظيم فيها ولم تكتف بالكُلى فقط بل امتدت إلى ما هو أكثر من عُضو. فأصبحت إيران أرضًا “لتسليع البشر”، في تقريرٍ أصدرته وزارة الخارجية الأمريكية، 2016، احتلت فيه إيران المرتبة الأولى عالميًا في الاتجار بالبشر.
تحليــل
حاولنا أن نُظهِر أكبر قدر من حياة هذه الطبقة التي تقبع في أسفل هرم المجتمع الإيراني، لكن الغريب قليلًا أن هذه الطبقة واسعة أُفقيًا للغاية حتى أنها تحوز ثُلُثي المجتمع إجمالًا، تعيش هذه الطبقة جابذةً كمثلث برمودا، لأية مجموعة أو فئة أو شُخُوص يريدون النظر إلى أعلى ولكنهم يمتلكون ما لا يؤهلهم أن يمدوا إليه أبصارهم.
إذ أن البون الهائل في مدى فقر وعوز وتردي حال وانهيار هذه الطبقة يعكس بالضرورة القطعية أن النظام الإيراني وإن كان يُنادي بمدى طغيان الغرب، وفساده، وثقافته الرأسمالية البائسة، وهذا الخطاب الذي لم ينفك عنه منذ أن أتى على سُدة حكم البلاد، منذ عام 1979، ولكنه واقعًا فيها يُنفِذها بحذافيرها، أنه نظام أوليغارشي -حُكم الأقلية- عسكريتاري رأسمالي في أعتى صُوره، يُطبِّق هذه الثقافة فأنتج تمايُزًا عارم فسحق الطبقة الوسطى تحت سنابكه، وصنع طبقة شديدة الثراء لا تعلم مصرفًا تُنفِق فيه أموالها، وطبقةً أُخرى قابعةً أسفل أزمات صافعة لا تلبث أن تخرج من واحدةٍ حتى تصطدم بالأُخرى.
ما بين دعوة القائم على صفحة أطفال طهران الأثرياء والذي خرج قائلًا أنهم يقومون باستمرار بتجاهل الكارهين، الذين حسب وصفهم، يغارون فقط من الحياة التي يعيشها شباب إيران الأثرياء. وما بين مقالة مواطنٍ إيرانيّ يُدعى، علي رضائي، يبلغ من العمر 42 عامًا، ويعمل في مجال تركيب أجهزة التكييف، تعليقًا على ترخيص الحكومة الإيرانية لبيع الكُلى، : “إذا تمكنت من بيع كليتي فسأسدد ديوني، أنا مستعد لبيع كبدي حتى”.
هذان الموقفان يكشفان مدى ما أصبحت عليه الجمهورية بصورتها الثورية سياسيًا، والعقدية هوياتيَّا، وهي على مشارف الدخول في إتمام عقدها الرابع في ذكرى ثورتها، التي جاءت وهي تدعي تغيير الأوضاع تمامًا للأفضل.
لم بلتفت النظام إلى محاولة إصلاح نظامه المالي إلا متأخرًا، عندما دعا المرشد إلى “الاقتصاد المقاوم”، في خطابٍ له في أغسطس 2012، بُغية مواجهة الحرب الاقتصادية على إيران ووصول العقوبات إلى ذروتها، عرفها يومئذٍ بأنها نمط ملهم من النظام الاقتصادي الإسلامي، عبر تقويم الاقتصاد بأدواتٍ محلية وعدم ربطه بما وراء الحدود قدر المستطاع، بدعم الإنتاجات الداخلية، ومنع تجارة التهريب المقدرة 15 إلى 20 مليار دولار سنويًا، وتقليل الاستيراد، ولكن هذا النظام الاقتصادي وقع فريسةً لحربٍ بين المعسكر الأُصولي من جهة، والمعسكر الإصلاحي الاعتدالي من جهةٍ أخرى، لأن الطرف الأول أكد أن الطرف الثاني لم يُنفذ البرنامج قط.
إنهم يتصارعون أعلى جبل، والناس عند سفحه، يموتون جوعًا وفقرًا ومعاناةً. سيُصبِح لِزامًا على حكومة روحاني، والنظام الإيراني بالجُملة، أن يُجدّد محاولاته وأن يعزم النية على إصلاح الاقتصاد الإيراني، والأهم من هذا إضفاء مردوده على الجماهير الغاضبة التي لن تتواني في تجديد الكرّة، والخروج على النظام مرةً ثانيةً وثالثةً إذا استمرت هذه الطبقية في الاتساع، واستمر هذا الاقتصاد الضخم لا يذهب إلى جيوبهم، وقد بدت هذه الغضبة تُظهِر بقوة كيف أن الرصيد الخاص للنظام بهُويته نفسها، قد تبدد لدى هذه الجماهير ولم يعد يعبأون قط بهذه الشعارات البراقة التي فقدت بريقها لديهم.
وبهذا سيدخل الإيرانيون مربع النظرية “الماركسية”، القائلة بأن التاريخ عبارة عن طبقاتٍ متناثرة إحداها تستغل الأخرى. إنه صراع المضطهِدون والمضطهَدون، حربٌ كان ختامها انقلاب ثوري يشمل المجتمع بأسره، أو تنهار الطبقتين معًا. وقد أكد النظام الإيراني عن غير قصد هذ الطبقية التي نخرت المجتمع فعليًا.