قديمًا، كانت هنالك وسائل مُتعددة لترسيخ الحدث السياسي، إبراز المنجز، نشره بين الناس، إذاعته وسط العامة، لترهيبهم – ربما-، لإشعارهم أنّهم تحت قيادة حكيمة، وأنّه رجل مُدرك، واعِ، عالم بخبايا الأمور قبل واضحِها – جائز -، لتوثيق الحدث، وما حققه من إنجاز شخصي طوال فترة الحكم حتى يُشار له أنّه فعل ذاك وهذا – وذلك أغلب الظن بل ويقترب من اليقين الثابت-.
مثلاً في العراق انتشرت الألواح المسمارية القديمة، في مصر القديمة انتشرت المعابد، النقوش على الجُدران، النقوش على المسلات، لتعريف الدنيا بما كان عندهم من زراعة، ميزان للعدل، حب الآلهة، تصور للحياة الأخرى بعيدًا عن الحياة الدُنيا، ومن بين أشهر النقوش والذي كان له الفتح في معرفة الدُنيا الفرعونية القديمة، حجر رشيد الذي تم إكتشافه أثناء الحملة الفرنسية على مصر.
وكذلك لدى إيران نقش دولي، جعل منظمة اليونسكو في عام 2006 تضمه إلى قائمة مواقع التراث العالمي داخل إيران وهو نقش بيستون.
غالبية النقوش كانت تقع في أماكن صخرية لعدة أسباب، من أكبرها وأهمها الحفاظ عليها من الخراب، فنقش بيستون – ومعناه مكان الله – يقع في جبل بيستون على مبعدة 35 كيلومترًا من محافظة كرمنشاه في إيران. النقش كان صاحب فضل، النقش له عظيم الأثر، عاون ومد يد المساعدة في فك رموز النصوص المسمارية القديمة. النقش كان مكتوبًا بثلاث لغات مختلفة للكتابة المسمارية : اللغة الفارسية القديمة، اللغة العيلامية، اللغة البابلية.
الإمبراطورية الفارسية كانت عظيمة الإتساع، غير محددة الأركان، وبالتالي توالى عليها العديد من الحُكام، فبعد أن ترك قورش العظيم البلاد وفاضت روحه، خلفه ابنه قمبيز الذي كان يريد أن يكون خير سلف لوالده. هاج، ماج في البلاد . كان يرى أن مصر هي أُولى الأراضي التي لابد من الإستيلاء عليها.غزا مصر, نجح فيما رمى إليه. لكن فترة حكمه لم تدم أكثر من 4 سنوات ليموت وهو عائدًا من مصر طريدًا، بعدما حلّت النكبة ببلده فارس.
بعد فترة مناوشة، صراع على الحكم، يأتي داريوش الأول أو دارا أو داريوس ليحكم البلاد وهو ابن العشرين من عمره، يحكم بلاد فارس لمدة تزيد عن جيل كامل – أي ثلاثين عامًا- يغزو فيها البلاد المجاورة، يساعد الجيران، يسهل طرق البريد، ينظم ولايات إمبراطوريته الواسعة، يحاكم الأنذال، يقضي على المتمردين والأوباش.
أما النقش فهو وثيق الصلة بكل هذا، ذلك لأن من أمر بنحته في الصخور هو داريوش الأول، لماذا؟؛ ليتخذ من النقش سيرة ذاتية له، يسرد فيها وعليها الأحداث التي أعقبت وفاة قورش وقمبيز، ليصبح هذا النقش من أكبر المخطوطات والنقوش الصخرية في العالم أجمع، المتبقي من فترة تاريخية مهمة في إيران، وهي فترة عهد الأخمينيين.
النقش عبارة عن تماثيل إرتفاعها سبعة أمتار، تماثيل منحوتة في قلب الصخر، طولها يزيد عن عشرين متر، عبارة عن أعمدة بالخط المسماري تعرض ما حدث في الإمبراطورية الأخمنينية تلك، وتشرح انتصارات داريوش.
أما إختيار المنطقة فلقد أحسن داريوش إذ جعلها موطن لنقوشه، نظرًا لأنّه مكان جغرافي جيد ومرتفع عمّا حوله من مساحات، وأن هذه المنقطة مقدسة بالنسبة للإيرانيين؛ نظرًا لأنّها كانت موطنًا للآلهة، فكأنّما أراد بذلك أن يضع نفسه في مصاف هذه الآلهة، ينحشر بذاته داخل قدسية المكان.
بعد النحت وخلافه، أمر داريوش أن يتم نحت الصخور أسفل النقوش تلك حتى لا تتعرض للخراب على يد الأوباش واللصوص، بل أمر بتغطيتها بطبقةِ عازلة للحفاظ عليها لأطول وقت ممكن، لتظل هذه النقوش راسخة، ثابتة، موجودة حتى الوقت الراهن، دليل قوي على مدى عظمة وقدرة الإنسان الخلاقة في إبداع الفنون، دليل على عهد مهم في التاريخ الإنساني ككُل، فالتاريخ صار يهم العالم لا إيران فقط أو أي دولة أخرى لها منجز حضاري براق.