في تقرير سابق يمكنكم الاطلاع عليه من هنا، أشرنا إلى أن الوضع الذي آلت إليه الاحتجاجات والتظاهرات في إيران أسهم في إظهار وإبراز التقارع والاحتدام بين المحافظين والإصلاحيين في ظلال هذه التظاهرات، في ظل انحسار الإصلاحيين عن المشاركة في التظاهرات أو حتى التصريح بدعمهم لها، ومشاركة المحافظين بشكل أو بآخر في هذه التظاهرات عبر دعم غير ظاهر، ولكن كانت الأيام تحمل أحداثا ووقائعا تعمل على تأييد قضية مشاركة المحافظين أو الدعوة إليها أو التحريض للنزول فيها، وذلك في إطار ما سنستعرضه في التقرير الحالي، عبر واقعتين نحاول الوصول منهما إلى حقيقة أمر مشاركة المحافظين في الاحتجاجات الإيرانية، وماذا فعل النظام الإيراني صدد ذلك.
واقعة اعتقال أحمدي نجاد
طارت في الأفق سريعا، أنباء اعتقال أحمدي نجاد، وهذا ما نقله موقع “إرم نيوز” في تقريرها عن مصادر إيرانية، السبت الماضي، أن نجاد اعتقل من مدينة شيراز، مركز محافظة فارس، جنوب البلاد.
أضافت هذه المصادر، أن الاعتقال كان مسبّب، في أن نجاد أطلق تصريحات، في مدينة بوشهر جنوب إيران، وصّفت بأنها محرضة وداعية إلى انخراط الإيرانيين في التظاهرات اعتراضا على سياسات روحاني وحكومته. آخذين في الحسبان أنها أضافت أن أمر الاعتقال جاء عبر أمر مباشر من علي خامنئي، مرشد الثورة الإيرانية.
نفى المتحدث باسم جبهة “الصمود المتشدد / جبهه بايداري” التي يتزعمها أحمدي نجاد، ناصر سقاي بيريا، وقوف نجاد وراء الاجتجاجات الشعبية ضد النظام منذ 28 كانون الأول / ديسمبر الماضي، وأضاف قائلا بصراحة متناهية: “من الواضح أن جزء من الاحتجاجات يعود إلى وجود خلاف على مبدأ النظام، وأن الناس لديهم مشاكل في سبل العيش، والمسؤول في الحكومة يجب أن يكون واضحا مع الشعب”. وقد نفى محامي أحمدي نجاد، عادل حيدري، الأنباء الواردة عن اعتقال موكله من الأساس، وأنها غير مطابقة للواقع.
نضع في الاعتبار أن المكتب الإعلامي لخامنئي أصدر تصريحا مفاده أن المرشد الإيراني قال: “الذين كانوا يتولون سلطة البلاد، وكل الإمكانات كانت بيدهم بالأمس، يجب ألا يتحدثوا ضد البلاد، بل العكس عليهم الرد على الادعاءات التي تطلق بحقهم مع تحمل المسؤولية”.
بالإضافة إلى أن المرشد الإيراني ذاته، كان قد وصف نجاد، في الـ28 من ديسمبر الشهر الماضي، بـ”المعارض”، دون ذكر اسمه على وجه التحديد، عقب مشادات بين نجاد ورئيس السلطة القضائية، صادق آملي لاريجاني. رغم أن السلطات الإيرانية الرسمية لم تؤكد أو تنفي أمر هذا الاعتقال.
واقعة أفراد لقوات الباسيچ
تناقلت وكالات أنباء ومواقع إخبارية عدة، ما عرضه موقع “مجلس المقاومة الإيرانية” على موقع “YouTube”، تسجيلات لعناصر في قوة الباسيج وهم يحرقون هوياتهم العسكرية، وتم بثّها على مواقع التواصل الاجتماعي، معلنين انحيازهم للاحتجاجات الشعبية التي تجتاح البلاد، رفضا للفساد، والبطالة، وللمطالبة بإسقاط النظام القمعي.
ويصرّح الکثیرون من هذه العناصر المنشقة في هذه المقاطع، إنهم لم ينتسبوا إلى الباسیج لکي یقتلوا شعبهم، ودعوا سائر العسکریين من الحرس الثوري، والجيش النظامي، إلى الوقوف إلى جانب الشعب في احتجاجاته ومطالبه، وأكدوا أنهم سأموا من أكاذيب قادة النظام، وتغطيتهم على مسلسل الفساد الحكومي، ونهب المال العام من قبل كبار المسؤولين والمقربين من المرشد وقادة الحرس. وهذا حسب تصريحاتهم.
هذا على الرغم من ما يحوزه المنخرطون في الباسيچ من مقومات ومفاوز اقتصادية واجتماعية وسياسية، يكتسبونها بمجرد الانتماء إلى الباسيچ، وهو أحد الأيادي القوية للنظام والتي يبطش بها لحظة عدم استتباب الأمور في البلاد، وقد استخدموا، وكان لهم تأثير هائل في كبح انتفاضة الطلبة عام 1999، وقمع الموجة الخضراء عام 2009. لأن مهامهم تدور حول مواجهة ثلاثة أنواع من التهديدات، الأولى، التهديدات الناعمة ضد النظام الإيراني مثل الحرب الإلكترونية، والغزو الثقافي، وتقويض قيم الثورة ويقم بها الجناح غير النظامي المدني من القوة.
الثاني، التهديدات نصف الجدية مثل الانتفاضات الشعبية دون استخدام السلاح، والتهديدات الاقتصادية والسياسية الداخلية والخارجية من قبل الجناحي النظامي العسكري داخله، والثالث، التهديدات الجادة مثل الانتفاضات المسلحة، والحرب الأهلية، والحروب الخارجية، ويقم عليها قوة الحرس الثوري والجناح العسكري للباسيچ. وذلك حسبما أكّد محمد علي جعفري، قائد الحرس الثوري الإيراني.
ماذا نرى من الواقعتين؟
بالنظرة السطحية للواقعتين السابقتين، نستطيع أن نستخرج أو نستصدر شيئا هاما وهو التصدع الذي بدا أو اللثمة التي حدثت في بنية المحافظين في إطار سعيهم الحثيث لتقويض حكم الإصلاحيين، ونزع الصفة الشرعية التي اكتسبوها جرّاء سيطرتهم على الرئاسة والحكومة، وتأليب الجماهير عليهم -والمحافظون تتشكل منهم البنية المؤسساتية للجمهورية الإيرانية بالكلية تقريبا، كالإرشاد، والحرس الثوري، ومؤسسة الإذاعة والتليفزيون، والقضاء، والحوزات العلمية والندوات، والبرلمان- ولاسيما أن الواقعتين تعودان إلى عنصرين من المحافظين المتشددين، فنجاد محافظ متشدد، والباسيچ أحد أذرع الحرس الثوري، فليست هنالك ثمة حالة من التشدد قد تطغى بصورتها أو تظهر في رمزين سواهما.
في حالة نجاد، فهنالك تفسيرٌ لها، وهو أن نجاد قد أدخل نفسه في معترك سياسي منذ الانتخابات الرئاسية الإيرانية الأخيرة، في أيار / مايو 2017، وبات يشن غارات على روحاني وسياساته في إدارة البلاد، وباتت تصريحاته مؤرّقة للنظام الإيراني ذاته، لاسيما أنها تصدر عن من هو مثله، والذي كان رئيس الجمهورية السابق قبيل روحاني، نجاد عندما كان في بوشهر وأطلق تصريحاته التي اعتقل على إثرها، صرح قائلا: “بعض المسؤولين الحاليين يعيشون بعيدا عن مشاكل الشعب وهمومه، ولا يعرفون شيئا عن واقع المجتمع”، وأن ما تعانيه إيران اليوم هو سوء الإدارة وليس قلة الموارد الاقتصادية”.
ونجاد يرى أن “فريق حكومة حسن روحاني يرون أنفسهم أنهم يملكون الأرض، وأن الشعب عبارة عن مجتمع جاهل لا يعرف، والشعب ساخط على هذه الحكومة؛ بسبب احتكارها للثروة العامة”.
كلمات نجاد هذه لا تعني شيئا سوى أن نجاد كان يريد أن يحقق مكسبا سياسيا ميدانيا كان أو رأيا عاما في صفوف الجماهير، ولكن عندما حدثت القفزة في المطالب من حقل الاقتصاد إلى ميدان السياسة كما أشرنا في أكثر من مرة، اشتط غضب النظام ممثلا في المرشد الأعلى، وقوة الحرس الثوري، رغم توافق الطرفين -نجاد والنظام- في تشددهما المحافظي، وتجافيهما للمسار الإصلاحي لروحاني بل ومناوشته في أكثر من مرة وأكثر من منحى لردعه عن هذا الطريق، ولكن هذا لا يعني مطلقا أن يقبل النظام فكرة أن تنهار هوية الجمهورية من الأساس، ويتغير التركيب البنيوي لنظام الثورة، ويؤسّس نظام آخر على أنقاضه وهذا ما لا ستسمح به جمهورية ولاية الفقيه البتة. وأن المعارضة للإصلاحيين مطلوبة ولكن بحدود.
فتم تهيئة الأمور لتوجيه ضربة مزعجة لنجاد أو ما نستطيع أن نسميه “قرصة أذن” تحمل رسالة ضمنية، عندما شنّ محمد علي جعفري، قائد الحرس الثوري، هجوما على جماعة نجاد متهما إياها بتأجيج الاحتجاجات، بل أن الأجهزة الأمنية ستفتح تحقيقا حول إمكانية تدخل نجاد وجماعته في تحريك المظاهرات وستتعامل معه إن تطلب الأمر. خاصة أن المصادر التي نقلت هذه الواقعة رجّحت أن يلاقي نجاد مصير زعيمي الحركة الإصلاحية، وقادة الحركة الخضراء مير حسين موسوي، ومهدي كروبي، في وضعه تحت الإقامة الجبرية مثلما وضعا منذ عام 2011، وهو الرئيس المحسوب على التيار المحافظ السابق.
حالة الباسيچ ذاتها والتي أكّدت واقعتها، لم تظهر حتى الآن فيها أي تداعيات أو رد فعل من قبل النظام قاصدين مؤسساته الأمنية، ولكن استنادا على المنوال السالف، والذي حدث لنجاد، سنعلم أن عاقبة هؤلاء الجنود الذين تمردوا معتقدين أن ما يحدث في البلاد ثورة، ويريدون القفز من السفينة قبل غرقها، والانضمام لصفوف الثوار، فقد كان رهانهم هذا من أشد الرهانات خسرانا وفشلا، إذ أنهم قفزوا من السفينة المهترئة ليلاقوا الماء دونما يكون بحوزتهم قارب أو حتى طوق نجاة، وهذا ما سيجعل النظام الإيراني ينكّل بهم، وسيجعلهم عبرة لمن سواهم، لاسيما وأنهم ذراعه فكيف يخالفون أمر العقل الذي يحركهم؟!، وسيكون هذا القمع والتنكيل مضاعفا نظرا لضآلة مناصبهم، وكونهم آخر حلقات السلسلة الأمنية وأضعفها.
تشارلز تريب، في كتابه “السلطة والشعب: مسارات المقاومة في الشرق الأوسط”، والذي أخرجه عام 2013، وترجم إلى العربية عام 2016، أشار إلى نقطة توضيحية هامة تفسّر لنا ما فعله النظام مع نجاد، أو ما سيفعله في أفراد الباسيچ المتمردين، وهو أن الأنظمة السلطوية تكون لها ردة فعل عنيفة وشرسة، تكون ناتجة عن قلقها من تأثر أبنائها أو موظفيها العاملين في المستويات العليا من بنيتها كنظام حاكم، من التفكير في المعارضة أو الانضمام لها.
وهذا ما يفسّر لنا أي رد عنيف يقابل به الذين كانوا يتقلدون أو ما زالوا يتقلدون مناصب أو سلطات ومحسوبون على النظام الإيراني، ثم تنقلب رؤاهم ضد هذا النظام الذين كانوا يعملون معه يوما ما.
ونحن نرى بعض المحافظين قد ارتادوا تظاهرات الإيرانيين وركبوها لتحقيق مصالح خاصة بهم كتيار حزبي في البلاد، ولكن سرعان ما تنصل منها جزء كبير من الدعوة إليها أو التحريض عليها، عندما وجدوها تجنح بعيدا، وتطفو فوق سطح الخلافات بين الإصلاحيين والمحافظين من الأساس.
كما أن تواتر هاتين الحادثتين قد أكدتا بالجرم المشهود هذا التناحر بين هذين التيارين، لكنه يبرز أيضا التدارك الذي قامت به مؤسسات الجمهورية العميقة لتكبح جماح تطلعات المحافظين من أبنائها الذين كانوا سيوردون البلاد بأكملها موارد الهلاك، هذا ما تناوله تقرير موقع “الجريدة”، عندما أشار إلى جلسة مغلقة في مجلس الشورى جمعت بين أعضاء التيارين، كانت الجلسة عاصفة وحادة وتدور حول تراشق الاتهامات بين الطرفين، فقام الأصوليون المحافظون باتهام حكومة روحاني بالتقصير في حل مشاكل الشعب المعيشية، في حين اتهم نواب التيار الإصلاحي الأصوليين وأنصار الرئيس السابق، أحمدي نجاد، بتحريك تظاهرات وتجمعات خرجت في النهاية عن سيطرتهم لإضعاف الحكومة المعتدلة. واتهموا كذلك إبراهيم رئيسي، ووالد زوجته، أحمد علم الهدى، بأنهم وراء زعزعة الأمن خاصة في القرى والمدن النائية.
أظهرت هذه التظاهرات كم الشقوق التي يعج بها جسد النظام المؤسساتي الإيراني، وفي القلب منهم المحافظين، وسيحاول الإصلاحيون قدر الإمكان استغلال مثل تلك الحوادث في فضّ الجماهير من حول المحافظين لصالحهم.