(1)
المناظر الطبيعية من حولنا فن، الموسيقى التُي تُثير داخل النفس من الأحاسيس المُتشعبة والمختلفة فن، لانِزاع بأنّ صورتك الفوتوغرافية فن ؛ لأنّها بخلاف توثيقها للحدث، أرشفته داخل خلايا المخ، فإنّها تحوى داخلها عناصر جمال مُعينة سواء كانت ضحكتك نفسها، المنظر الخلفى المُحتضن لك، الزمان، المكان، وغيرها من العوامل المؤثرة في جعل الصورة الورقية أو الرقمية بين يديك كتأطير دال على الفن.
الفن في جميع حالته هو مِثال للجمال، تعبير عمّا من الممكن أن يكون عليه الجمال، الفن يبعث الفرحة، الجمال – أحد الروافد – يُثير السعادة وكما يقول كانط وشوبنهاور في تعريفهما للجمال:
” الجمال صفة للشيء الذي يبعث في أنفسنا اللذة بصرف النظر عن نفعه، ويُحرك فينا ضربًا غير إرادي من التأمل، ويشيع لونًا من السعادة الخالصة”.
قديمًا في إيران، تواجد دزينة من مُحبي الفن، باعثي الجمال، مستخدمي الريشة للتعبير عمّا تموج به النفس من مشاعر وأحاسيس مضطربة أو سوية، خالقي الروح في الورقة وبعض الأحبار لخلق حياة مُتكاملة ومن بين هؤلاء الخطاط والرسام رضا عباسي .
(2)
رضا عباسي أحد فناني إيران، الذين أضافوا – وما يزالون بالتحليل والدراسة – إلى الفن الإيراني معنى جديدًا له.
ولد رضا نحو عام 1565م، أما البلد الذي صرخ فيه الصرخة الأولى بعدما نَزل من بطن أمه، فهنالك اختلاف كبير عليه، ففريق من البحث والمهتمين بسيرة الرجل يقول أنّه وُلِد في كاشان، وفريق آخر يعلنها صراحة بأنّه لا، لم تعرف كاشان مولد عباسي وإنّما مدينة مشهد – ثاني أكبر المدن بعد طهران – وهذا راجع إلى اسمه الذي كان يختلف في التوقيع به من جانب، وبسبب بعض أعمال والده التي كانت لصيقة بالمدينة الثانية عن الأولى، ولكن الأرجح والمؤكد أنّه وُلِد وأغرق الحياة بالعديد من رسوماته ولوحاته الفنية.
ومثل كُل بلاد العالم، من انتشار المذاهب الفنية المختلفة، وُجِد ذلك داخل الأراضي الفارسية، ومن بعد المدارس التي أنتمى لها رضا عباسي هي المدرسة الصفوية. أما تسميته بـ”عباسي” فلها حكاية، ذلك أنّه قضى حياته في العمل في بلاط الشاه الصفوي عباس الأكبر، وهذا الشاه مثله مثل أي حاكم في ذلك الزمان كان حريصًا على الترف، وإصطفاء الفنانين والخطاطيين والمعماريين وجعلهم حظوته، ومن المقربين إليه، ليتفع بعلمهم، ويستعملهم فيم يُريده داخل مملكته، وهكذا أصبح رضا، رضا عباسي.
مثله مثل سلفادور دالي، وبابلو بيكاسو، وغيرهم من الفنانين العالميين، وهو لا يقل عنهم نهائيًا، كان يُسجل عباسي آراه وأفكاره الفنية داخل مفكرته ( عجالاته التخطيطية)، يتحدث عن آراءه، استخدامه لخطوط مُعينة دون غيرها، الألوان الزاهية التي ظهرت في بعض لوحاته وتدرجاته في استخدامها، مما جعله يكتسب شهرة عالمية واسعة الإنتشار.
وعلى غير العادة – في ذلك الوقت – كان عباسي يُوقع على أعماله بكل التفاصيل، في أي يوم رسم رسمته، وفي أي زمن، والأهم من ذلك اسمه .
(3)
وإليكم قراءة موجزة في إحدى لوحاته للتدليل منها عمّا فعله عباسي وإبداعته المتنوعة.
مثلاً : لوحة Young Portuguese (الشباب البرتغالي)
والتي هي بورتريه رسمه في عام 1634 نلاحظ فيها الإهتمام بعناصر الطبيعة، حيث تظهر في الجزء الخلفى من اللوحة، أنّها حديقة، روضة، بستان يانع، وهناك بعض النباتات الجالس عليها هذا الشاب، الشجرة التي تظهر أوراقها مكتملة، لربما أراد رضا طمس لونها وعدم إظهاره، وأكتفى فقط بإبراز اللون البُني الفاتح نسبيًا – لون جذع الشجرة-، ذلك ليظهر التدرج اللوني في العناصر الأساسية لهذا الشاب، وكذلك وما يفعله من سُقي لهذا الحيوان الذي تبدو على ملامحه أنّه جرو صغير- ربما أراد تسطيحه بهذا الشكل، للتأكيد على إكساب هذه الرحمة وتوزيعها على أي حيوان مهما كان -.
هذا الشاب يبدو عليه أنّه جامع للكنوز – مثلاً – أو شيء من هذا القبيل، وفي هذه الكنوز المجموعة تظهر قدرة عباسي البارعة في استيعاب فن المنمنمات حيث هذا الرجل المُتردي زي أحمر الموجود على إحدى هذه الكنوز، يبدو على قسماته أنّه مستمتع بما يفعله هذا الشاب مع الحيوان، ربما أراد الرّسام أن يُضمن نفسه وشعوره الخاص الذي جعله من البدء يرسم هذه اللوحة، فهذا هذا الرجل صغير الحجم والنسبة، صَغيرها، مختلف الألوان، مُبهجها كما هو معروف عن اللون الأحمر لكونه أول الألوان في تراتبية قوس قزح وأكثرها توهجًا، فما هذا الرجل المنمنم داخل المنمنمة إلا إنعكاس له – أو بالأحرى إنعكاس لصورته الشعورية.
اشتهر عن رضا عباسي، أنّه كان يرسم البشر، الرجال والنساء في أوضاع مُتعددة توحي بالكسل والخمول، وهذا ما هو عليه الشاب حيث الإتكاء على الأرض، من وراءه يظهر طنفس يتكأ بظهره عليه، وكذلك يظهر هذا جليًا – بعد التدقيق والتمحيص – أن لهذا الشاب بطن كبير نسبيًا، وأيضًا زيادة واضحة في جسده ككل، كدليل آخر على إحتواء الكسل له.
(4)
الإحتفاء كان كبيرًا برضا عباسي، إحتفاء يليق برسام قد أضاف بألوانه الكثير، ومعه طوت صفحة من صفحات المدرسة الصفوية، حيث يوجد في طهران متحف بإسمه، داخله توجد مجموعة فريدة من الفن الإسلامي والذي يعود تاريخها إلى الألفية الثانية قبل الميلاد، وحتى عصور ما قبل الإسلام، وبالطبع العصر الإسلامي.
وفي عام 1635م لفظ عباسي أنفاسه الأخيرة، ليُسلم الراية لمن بعده داخل ميدان الفن، ميدان الجمال، ميدان البهجة والسعادة.