إن الاحتجاجات لها ديناميكيات معدية خاصة بها. وقد تعلمت الأنظمة في مصر وتونس واليمن وسوريا علم الأمراض هذا بالطريقة الصعبة، مثلما تعلمت الأنظمة الإيرانية على مر الأجيال أن تخشى هذه الاحتجاجات.
والمشكلة التي تكمن في المظاهرات هي أن بداياتها لاتوضح شيئا عن تطوراتها المستقبلية. لقد بدأت الاحتجاجات فى مدينة مشهد يوم الأربعاء وأصابت كرمانشاه، التى عانت من زلزال مدمر هذا العام، ومن هناك انتقلت الى العاصمة طهران ومدن أخرى.
ولكن هل سيتم إيقافها عن طريق سلسلة من الاعتقالات واستخدام الوسائل الروتينية لتفريق المظاهرات مثل الغاز المسيل للدموع والاعتقالات والعقوبات الصارمة؟ أم أن الاحتجاجات تكتسب زخما وتكرر المظاهرات المروعة التي حدثت في عام 2009، والتي ما زالت إيران لم تتعافى من آثارها؟
جدير بالذكر أن الاحتجاجات المحلية ليست جديدة في إيران، سواء قبل أو بعد الاتفاق النووي. وقد خرج المعلمون والعمالين في البلديات وموظفو الشركات المملوكة للحكومة في السنوات الأخيرة للاحتجاج والإضراب، وذلك في الغالب لأسباب اقتصادية مثل الرواتب غير المدفوعة أو ظروف العمل القاسية.
ونادرا ما كان هناك شعارات ضد الرئيس الإيراني حسن روحاني، الذي لم يحقق بعد وعوده الانتخابية. واعتراف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل جعل الآلاف من الإيرانيين يخرجون إلى الشوارع. وقد احتج الأكراد والعرب في إيران أيضا من أجل طلب المساواة في الحقوق. وفي كل مرة، تمكن النظام من استرضاء المتظاهرين، وذلك عادة من خلال زيادة الأجور، وعقد المفاوضات التي وافقت عموما على معظم مطالب المتظاهرين أو باستخدام قبضة حديدية ضد المتظاهرين القوميين.
يذكر أن في هذه المرة تبدو الأسباب أكثر عمومية وتلمس الأزمات العميقة والمزمنة في إيران، مثل معدل البطالة الذي لا ينخفض أبدا عن 12 في المائة، وارتفاع الأسعار، وانخفاض الدعم، وارتفاع الضرائب، والفساد، والتورط الإيراني في سوريا واليمن. والأهم من ذلك هو عدم وجود مستقبل اقتصادي، على الرغم من رفع معظم العقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران كجزء من الاتفاق النووي
ولا تعزى الاحتجاجات إلى أي حركة أو فصيل سياسي معين، على الأقل حتى الآن. وقد تكون موجهة ضد روحاني، ولكن شعارات مثل “الموت للديكتاتور” قد سمعت، موجهة إلى المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي. وهذا يعني أن الاحتجاجات منفصلة عن سياقها السياسي.
ويمكن للإصلاحيين، الذين لم يقدموا مباركتهم للمظاهرات حتى الآن، أن يظهروا قوتهم في صفوف الجمهور ضد نظام الحكم الذي يضع قيودا على التقدم وحقوق الإنسان؛ وفي الوقت نفسه يمكن للمحافظين أن يشيروا إلى عجز روحاني، المنافس لهم.
ويمكن كذلك أن يستفيد كلا الجانبين من هذه الاحتجاجات. ويمكن أن يستخدمهم روحاني كاستفادة لضرورة تحسين حالة حقوق الإنسان والنهوض بالإصلاحات الثقافية “للحفاظ على استقرار الحكومة”.
وفي الوقت نفسه، يمكن للقيادة المحافظة في الحكومة استغلال الاحتجاجات كذريعة لتحييد سلطة روحاني. وعلى الرغم من أن المعركة بين جانبي النظام، إلا أنه من المفارقات أن الاحتجاجات تربط بين النخب الحاكمة في كلا الجانبين في جهد مشترك لمحاولة التوصل إلى تفاهمات من شأنها أن تهدئ حالة الحنق الشديد.
جدير بالذكر أن خطوات فورية، مثل تخفيض الضرائب وزيادة علاوات الرعاية الاجتماعية للمحتاجين، تعد أمور يسيطر عليها النظام. ولكن التغيرات الهيكلية في الاقتصاد مثل بناء مصانع كبيرة لتوظيف الملايين من العاطلين عن العمل وتقليل التدخل الإيراني في البلدان الأجنبية هي عمليات طويلة الأجل ولا تعتمد حصرا على الحكومة.
وعلى سبيل المثال، فرفض ترامب تأكيد أن إيران تمتثل لشروط الاتفاق النووي، والمناقشات حول فرض المزيد من العقوبات الأمريكية قد أدت إلى حالة فتور لحماس المستثمرين والدول الأجنبية لتوقيع اتفاقيات جديدة أو تنفيذ التفاهمات الموقعة مع إيران خلال العامين الماضيين.
وقد نجح روحاني في خفض معدل التضخم من نحو 35 في المائة في عام 2013 إلى 9 في المائة فقط في عام 2017، وأدت زيادة الصادرات إلى فائض قدره 30 بليون دولار في ميزان التجارة، ومن المتوقع أن تجلب صفقات ضخمة مع روسيا والصين وباكستان عشرات المليارات من الدولارات أكثر وتضاعف حجم التجارة مع الاتحاد الأوروبي إلى أكثر من 10 مليارات دولار، ولكن هذه الاتفاقات لم تترجم بعد إلى وظائف ورواتب أعلى.
وقد منحت الإنجازات العسكرية الإيرانية وسياستها الخارجية، ومعظمها في الشرق الأوسط، إيران مركز قوة إقليمية متوسط الحجم. وقد يكون هذا قد عزز وضع إيران على الصعيد الدولي، ولكن كان ينظر لذلك على إنه يأتي على حساب الرعاية الاجتماعية ونوعية الحياة بين المواطنين الإيرانيين الذين يدفعون من جيوبهم الخاصة من أجل القتال في اليمن وسوريا.
ومن المسلم به أن السياسة الخارجية، حتى وإن كانت ناجحة وتعزز “الفخر الوطني”، لا يمكن أن تعوض الفشل في السياسات المحلية، لا سيما عندما يتعلق الأمر بالاقتصاد. وليس شيئا إضافيا أن نتذكر أن إيران نفسها أظهرت كيف أن سياسة الشاه الخارجية قدمت إسهاما هاما في تحقيق الثورة الإسلامية في عام 1979.
وفي الوقت نفسه، بالمقارنة مع الحرب الإيرانية العراقية، التي تكلفت حوالي مليون حياة إيرانية خلال أكثر من 10 سنوات، لم تتحول الحروب الحالية في سوريا واليمن إلى مقابر للجنود الإيرانيين، والاحتجاجات ضدهم الآن تستند في معظمها إلى أسباب اقتصادية وقومية. لذلك لا ينبغي أن نحبس أنفاسنا في انتظار سقوط النظام بسبب تورطه في الحروب الإقليمية.
وقد تجنب النظام الإيراني حتى الآن إغراق الشوارع بالمتطوعين المسلحين من الباسيج، وهي قوة شبه عسكرية من المتطوعين التابعين للحرس الثوري الإيراني. كما أنهم لم يضعوا الحرس الثوري أنفسهم في عمل ضد المتظاهرين. إن التشتت الجغرافي للاحتجاجات في المدن في جميع أنحاء البلاد يمكن أن يخلق انطباعا بأن البلاد كلها مشتعلة، ولكن عدد المتظاهرين في كل مدينة صغير نسبيا ويمكن احتواؤه.
إن استمرار الاحتجاجات يعتمد الآن على الطريقة التي يخطط النظام من خلالها القيام بالخطوات المقبلة، سواء في الصراع السياسي بين النخب الحاكمة أو مع الجمهور.