استعرضنا في سلسلتنا “قراءةٌ في الدعم الإيراني للحوثيين في اليمن”، جزأين من استقصاء الطفو دون التعمُق وسبر الأغوار قضية ماهية الدعم الإيراني لجماعة الحوثي، في الجزء الثاني استعرضنا قضية صُنُوف الدعم المُوجَّهة للحوثيين، وحصرناها في الدعم المالي، والعسكري، واللوچستي، مع الاعتقاد الجازم لدينا بأن الدعم الإيراني يتجاوز هذه المحاور الثلاث، وحلّلنا هذا الدعم، وكيف تشكل، وحجم كل فِئة منها.
وفي الجزء الأول، استعرضنا قضية نفي النفي الإيراني عن دعم جماعة الحوثي، واستعرضنا فيها أدلةً، واستنباطاتٍ، وقراءاتٍ، وتحليلاتٍ، ورُؤىً لإثبات حقيقة الدعم الإيراني المُستديِم لجماعة الحوثي، وبدَّدنا النفي الإيراني بالجرم المشهود، من أقوال وآراء رؤوس النظام الإيراني أنفسهم وقلبنا طاولة النفي لأرض الإثبات الصلبة.
يمكنكم الاطلاع على التقرير الأول من هُنا.
يمكنكم الاطلاع على التقرير الثاني من هُنا.
في الجُزء الأخير، والذي أردنا بحضراتكم الوُصُول إليه، وإن كان تشكّل أو استبان لدى الكثيرين ضرورة وضعه على طُرة التقارير ومقدمتها، ولكن تبدّى لنا ضرورة قلب الظاهر لباطن، للوُصُول بالقطار إلى نهاية مطافهِ. هو لماذا تُدعِم إيران الحوثيين من الأساس؟، لماذا هذا المُعترَك القائم في اليمن مُستمرًا حتى هذه اللحظة، والحوثيون لم يتلقوا الضربة القاصمة التي تُطنِيهم من قِبل التحالف وتُعيدُ اليمن لحظيرتهم؟، وما الذي شكّل وجهة النظر الإيرانية في ضرورة دعمهم للحوثيين في اليمن، وهذا هو مَناط تقريرنا اليوم.
سنُحاول بأقصى قدر من الإمكان في تجميع الرؤى والتحليلات التي تناولت عِلل وأسباب الدعم الإيراني للحوثيين، ووجهات النظر التي كُوّنت بصدد هذه القضية ذات الشأو الهام.
يُحيِل مركز التأصيل للدراسات والبحوث في دراسته المُبسَّطة عن ماهية الدعم الإيراني للحوثيين والتي نقلها موقع البرهان، إلى ثلاثة أسباب، إحداها الأطماع الإيرانية في اليمن.
وثانيها، -كما تُعبِر الدراسة- سعي إيران الدائم منذ زمنٍ بعيد إلى (تفجير بؤرٍ معادية للدول العربية والإسلامية) كما تفعل في لُبنان والبحرين وسُورية والعراق والآن اليمن.
وثالثها، وهي أن الحوثيين يُمثِّلون عنصر ضغط على المملكة العربية السعودية الداعمة للشعب السوري في ثورته على الأسد، فالحوثيون في هذه الأثناء يمثلون ورقة ضغطٍ إيرانية من خلالها قد تفلح إيران في تخفيف الضغط على نظام الأسد.
نلحظ أن هذه الورقة صادرة عام 2014 أي لم يطرأ عليها أي تحديثات چيوسياسية والمكاسب الميدانية التي حققتها إيران في فترة السنوات الثلاث التي أعقبته، كما أمها صادرة عن مركز التأصيل السعودي، فسُعُودية الخطاب حاضرةً فيه بقُوة وطاغيةً عليه بشكلٍ تعبوي مضامينيّ بصُورةٍ بارزة، وهذا ما يجنح بالورقة لوضع هذه الصُورة من الأسباب والعِلل.
سببٌ آخر نُضيِفهُ قد يكون رئيس على مقدمة أسباب الدعم الإيراني، وهو ما صرّح به الخبير في الشؤون اليمنية، بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، حسن أبوطالب، في تقريرٍ لجريدة العرب عام 2015، وهو رغبة طهران في وضع قواعد جديدة للسياسة في الشرق الأوسط، ومساومة القوى العظمى بشأن ملفاتٍ عِدة وأن تضع يدها على مضيق باب المندب.
وأضاف الباحث المتخصص في العلاقات الدولية، محمد محسن أبو النور، أن دعم إيران لجماعة الحوثي له أبعاد متعدّدة، تتمثّل في الصراع المذهبي بين السُنة والشيعة في المنطقة، بالإضافة إلى الحرب الباردة بين السعودية ودول الخليج من جهة وإيران من جهة أخرى، فضلًا عن سعي إيران لتوسيع نفوذها في المنطقة.
وهُناك سببٌ آخر، والذي قد يُعَد نتيجةً ولكننا ارتأينا فيه مٌعضلةً هامة، وقد أشار إليه أستاذ العلوم السياسية بجامعة عين شمس، سعد عبدالمجيد، وهو أن إيران لديها رغبة في تحريك نوازع ومكامن الحركات الشيعية المُتمرِدة والتي لا تقبل بسُنية حكوماتها وتعمل على تقوية شوكاتها، وقد نجحت عديد من هذه الحركات في الوقت الآني في الوُصُول إلى مُبتغاها في هذه البُلدان لاسيما لُبنان والعراق.
وفي ورقةٍ دشنتها د. فاطمة الصمادي، تحت عنوان “لماذا تواصل إيران المأزومة اقتصاديًّا دعم حلفائها؟”، نشرتها على مركز الجزيرة للدراسات، فيراير 2015، أوضحت فيها أن إيران تنظرُ إلى أن الحوثيين تيارٌ ثوري، وأن الحادث في اليمن هو حِراكٌ يمني خالص، واستندت إلى مقولة المدير العام لوكالة أنباء فارس: “البلد الذي كان يعدُّ الساحة الخلفية للسعودية والقاعدة، تبلور اليوم تيار ثوري تأسيًا بالثورة الإسلامية في إيران، وتمكن من إزاحة النظام المستبد العميل السابق، وهو الآن بصدد تأسيس حكومة شعبية مستقلة”، حتى أن إيران لم يتطرق إلى بالها يومًا أن تُخفِّض من ميزانيتها ودعمها المادي للحوثيين بل تُزيِد.
هذا ارتباطٌ هوياتيٌّ بحت كما نرى، ارتكاز العقيدة الثورية الإيرانية المُلبَّس برداء المذهبية التي تصل لذروتها في النموذج الجمهوري الإيراني الشيعي، يدفعها دفعًا لمُناصرة أقرانها وإن صغروا عنها نُفُوذًا وجُغرافيةً وسُلطةً.
فتُضيِفُ د. فاطمة أن إيران تُراهِن على أن هذا الوجود خطوةٌ في سبيل تغيير الجغرافيا السياسية للمنطقة. وأن الدلائل أضحت شديدة البيان بصدد قضية تصدير إيران لثورتها، وهذا ما أكده مستشار المرشد للشؤون الدولية،عليّ أكبر ولايتي،صراحةً دون مواربة أن نفوذ بلاده بات يمتد من اليمن إلى لبنان، وهذا ما أكّده أيضًا قائد فيلق القدس في الحرس الثوري، قاسم سليماني، حينما قال إن الدلائل على تصدير الثورة الإسلامية إلى عددٍ من المناطق باتت واضحة للعيان، حيث وصلت إلى كل من اليمن والبحرين وسورية والعراق وحتى شمال أفريقيا.
وفي ورقةٍ أُخرى، للباحثة أمل العالم، نُشِرت كذلك على مركز الجزيرة للدراسات، في أبريل 2015، تحت عنوان “العلاقات الحوثية-الإيرانية: حلف مصلحي بغطاء مذهبي”، أشارت فيه أن التقاء المصالح كان واحد من أهم الأسباب للعلاقة الإيرانية الحوثية، فذكرت نصًا أن “ما يهم إيران في هذه العلاقة هو استنساخ أنموذج آخر في اليمن على غرار حزب الله في لبنان، يكون يدها في شبه الجزيرة العربية قادرًا على تهديد الاستقرار فيها متى شاءت، هذا من جهةٍ، ومن جهةٍ أخرى إيجاد بؤرةٍ لنشر المذهب الشيعي الاثني عشري في اليمن ومنها إلى جهاتٍ أخرى بدون معارضة زيدية”.
وهذا هو رأس أسباب الحرب اليمنية، وعاصفة الحزم التي شنتها قوات التحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية في آذار / مارس 2015، إذ أنهم لا يُواجهون الحوثيون، ولكنهم يوجهون من ورائهم أطماع إيران التوسعية التمدُدية في منطقة الشرق الأوسط.
حاولت مارايكه ترانسفلد، في ورقتها التي أشرنا إليها في التقرير السابق، والتي تم نشرها على موقع معهد كارنيجي، باللغة الإنجليزية وتمت ترجمتها عن العربية، في فبراير 2017، أن تُهوِّن من قدر النُفُوذ الإيراني في اليمن، وأن دعمهم هذا هامشي ولا يُؤثر في آليات صُنع القرار اليمني.
رغم أنها عدَّدت أوجه العون والمدد الإيراني للحوثيين، وهذا ما صنع هُوةً واضحةً لدى القُراء، إذ أن الباحثة لم تُطرِأ أي تحديثات على الوضع الحوثي في اليمني، وعُلُو كفة الجانب الإيراني في اليمن عقب طول عملية عاصفة الحزم، وعدم نجاح قوات التحالف في دُخُول صنعاء، وأضحى الوضع أكثر سوءً عقب الأزمات الإنسانية المأساوية القائمة في البلاد جراء النزاع الحوثي -العربي. وهذا ما ذكرته الباحثة عندما قالت: “تغرق السعودية، الخصم الإقليمي لإيران، في حربٍ يتعذّر عليها الفوز فيها، وتتكبّد خسائر مالية فادحة”.
وأن الموقف بات في عدة أشهُر قليلة، مختلفًا تمامًا، من بداية عام 2017 إلى نهايته، غدت إيران تُحكِم سيطرتها على بُلدانٍ عدة، وساهمت في رفع أسهُم الحوثيين في صنعاء، وأضفت عُنصُر النِدية على الأرض اليمنية للحوثيين مُبدِّدةً بذلك الاحتفاء السُعودي قبل دخوله الميدان اليمني من الأصل بأن المعركة مع الحوثيين بسيطة وهُوية المنتصرين فيها محددةً وجليةً للغاية، وهذا ما تغير بالكُلية الآن.
ولكن الباحثة توصلت إلى نتيجةٍ شديدة الأهمية، عندما ذكرت نصًا: ” لكن فيما تزيد الولايات المتحدة تدخلها في اليمن، ويرفع البيت الأبيض من حدّة خطابه ضد إيران، قد يتحوّل اليمن إلى ساحة معركة للتشنّج المتصاعد بين واشنطن وطهران، ويُحشَر الحوثيون في الزاوية الإيرانية”، وهذا على إثر قعقعات التناحُر الإيراني الأمريكي، في عهد ترامب.
أخيرًا، هذا ما يجعلنا نعود بالزمان قُرابة ثماني سنوات، عندما دوّن د. رودجر شاناهان، زميل بحث زائر في جامعة آسيا والمحيط الهادئ بسيدني، ورقته لمعهد كارنيجي، المُعنوَنة باسم: “تسيُّس الشيعة في الشرق الأوسط”، نستخلص منها ما ذكره حول البُنيان الشيعي الأيديولوچي الإيراني المتجاوز للحدود بطبيعتهِ، وأن إيران نجحت في توظيف الثقل الديموغرافي للشيعة في اكتساب واقعيةٍ وميادين ومناصب وسُلُطات.
وهذا هو فصل المقال في سببية العلاقة بين إيران والحوثيين، ودعمهم الهائل لها، عندما تجنح إيران للعمل وسط هذه الجُغرافية السياسية المحيطة بها والتي لا تتقبلها من دُوُلٍ ترتبط معها بعلاقاتٍ سيئة، وتتسم هذه الدُول يمذهبيةٍ سُنية لا تتفق مع البعث الهوياتي الذي أحيته الثورة الإيرانية عبر “إسلاميتهـــــا” كما تدعي.
فلجأت إلى دعم التنظيمات الشيعية في بُلدان الشرق الأوسط، وهم من سيضمنون لها موطأ قدم في هذه البلاد، وستُصبِح حكومات هذه البُلدان بعد سنين عددًا تُغيِر وجهتها وستتقرب سياسيًا واقتصاديًا مع الجمهورية التي كانت معزولة.
والحوثيون كانوا أحد هذه التنظيمات الهامة التي تميزت بموقعٍ چيوسياسي هام من الدرجة الأُولى بامتياز، من حيث مضيق باب المندب، وجوار السُعودية أشد البُلدان عداوةً لإيران، فوضعت إيران ثقلها هُناك -وفي الوقت ذاته ثُقلًا لا يُساوي بأي صورةً من الصُور الثُقل السُعودي الهائج الذي وضعته السُعودية في اليمن- وأخذت تُقرِب الحوثيين منها وتُغدِق عليهم وتُهمِي لهم وتبسط الأرض من تحت أقدامهم، والحوثيون وكأنهم التقطوا الفُرصة، فقوت إيران شوكة الحوثيين وأجزلت عليهم صُنُوف الدعم والعون والمساعدة من كل حدبٍ وصوب، ورمت بهم مناوئيها في الخليج، فأضحى الوضع القائم، الذي من النظرة الأُولى يُظهِر أنه لم يُحقِّق نجاح لأي طرف من الطرفين سواء الحوثيين ومن ورائهم إيران، أو السعودية وأقرانها في التحالُف العربي.
لتستمر الحرب قائمة في اليمن، ويستمر الدعم الإيراني للحوثيين كحليفٍ هام لإيران.