إذا كان هوميروس الشاعر استطاع في “الإلياذة” أن يُعبر تعبيرًا شاملاً عن قصة حصار مدينة طروادة. وإذا كانت “ألف ليلة وليلة” قدرت أن تجمع بين دَفاتها العديد من الحكايات وأسفار السندباد عبر البحار والغرائبيات التي تدور في الآفاق، حيث شهرزاد الجامعة بين التشويق وغواية الحكاية.
وإذا كان قُدِرَ لفرجيليوس في”الإنياذة” إفراد اثنى عشر مجلدًا للحديث عن إينياس الطروادي الذي ما إن حط بقدمه على أرض إيطاليا حتى أصبح أبًا للرومان جميعًا، فإن الشاعر الإيراني أبو قاسم الفردوسي قد برع أيمّا براعة في تصوير التاريخ الإيراني القديم بصورة بلاغية قوية داخل “الشاهنامة”.
داخل قرية فاز بالقرب من بلدة تباران داخل إقليم طوس بإيران(أو خراسان قديمًا) وُلد أبو القاسم الفردوسي عام 933م وإنْ كان هُناك إختلاف كبير حول سنة المولد وكذلك ميعاد إفاضة الروح – الوفاة- والتي حُدِدَ تاريخها في 1020م.
عاش في عصر الخلافة العباسية، حيث تجلى الأثر الكبير في تكويناته النفسية السياسية، والنظرة المجتمعية والتي دفعته في طريق يُخلد نفسه من خلاله، بل ويحفظ تاريخ بلاده في فترة مهمة.
قال العرب قديمًا: أن الطفل أبو الرجل؛ أي أن داخل كل طفل توجد ملامح الرجل الذي سيكونه في المستقبل، فلقد كان –شاعرنا – الفردوسي أحد هؤلاء الأطفال الرجال.
في سنوات شبابه أخذ يُكرس وقته للإطلاع على أخبار تاريخ ملوك إيران في المصادر المكتوبة المُتاحة. وبعدما انتهى منها حطت رِحاله على التدقيق والبعثرة في الشاهنامات النثرية المُختلفة مثل شاهنامة أبو المؤيد البلخي وشاهنامة أبو على البلخي وأبو منصوري.
ثم وجد أن أحد الشعراء، وهو شاعر يُقال له “دقيقي” قد شرع في نظم شاهنامته ولكنّه لم يُكملها إذ وفاته المنية حينها، ولا تزال نَفْس الفردوسي مُتعطشة للمزيد من تاريخ بلاده وحكاوي الدهاليز والحواري الخانقة والأزقة، فأخذ يطلع على الروايات الشفهية للحكايات والحوادث الحماسية الإيرانية القديمة، بالإضافة إلى الغَرفِ من الثقافات الأخرى وبخاصة الإسلام وتاريخ العرب.
إلى أن استطاع في النهاية أن يكتب شاهناميته والتي يتراوح عدد أبياتها ستين ألف بيت، متفوقة بذلك عن شاهنامة “دقيقي” والتي تركها ولم ينشد منها سوى ألف بيت تقريبًا.
والشاهنامة تعني كتاب الملوك أو ملحمة الملوك أو كتاب التيجان، وفيها جمع أبو القاسم الفردوسي كل وصل إلى وعيه ووعي أمته من الحكايات والروايات التاريخية والأساطير من أقدم العصور التي استطاع الوصول إليها عن طريق الشفاهية أو الكلمة المكتوبة حتى عصر الفتح الإسلامي لبلاده.
ولقد قَسّم الفردوسي الشاهنامة تقسيمة دقيقة، تَدل أول ما تدل على حِنكة الرجل، ومعرفته الدقيقة بتاريخ بلاده، بل والتحري السليم في سبيل إلى الوصول إلى الحقيقة، حيث قسمها إلى تقريبًا ثمانين ملكًا داخل أربع حكومات:
الحكومة “البيشدادية” وفيها الإختلاط ما بين أساطير إيران والهند وتحتوي 10 ملوك .
الحكومة “الإشكانية” وفيها تنهار الأساطير الهندية وتظهر غيرها إلى أن تتقوض هذه الحكومة على يد الفاتح المقدوني الإسكندر الأكبر، وهي فترة حفلت بـ 10 ملوك.
الحكومة “الكيانية” وهي أكبر الفترات وُجِد فيها ملوكًا حيث 30 ملكًا وإنّ كان الفردوسي لا يعدهم فٌرِسًا بل أجانب لم يتركوا أثر بالغ في الآداب الفارسية.
وأخيرًا الحكومة “الساسانية” وهي فترة وُجِد فيها حوالي 29 ملكًا وفيهاعاد المجد الفارسي مرة أخرى خاصة بعدما حل بالبلاد على يد الإسكندر.
أنفق في جمع حكاياته وتنظيم أبيات الشعر هذه حوالي 35 عامًا، وكانت الطقوس آنذاك أن الأعمال الضخمة التي ينفق فيها الأديب من حياته الكثير، لابد أن يُقدمها إلى ملك من الملوك، وبعدها يُنقده ثمن ما فعله ذهبًا، إنّ نالت إستحسانه.
وهكذا تقدم بها الفردوسي إلى السلطان “محمود الغزنوي”، ولكن السلطان –وبالأحرى دسائس بلاطه- قد سعت ووقفت حائلاً على أن يتم نقد الفردوسي هذا المبلغ الكبير، فأعطاه السلطان مبلغ زهيد من الفضة لا الذهب، فإغتاظ الشاعر ثم هجاه هجاء شديدًا وختم ما قال :
“السماء لن تنسى الإنتقام، فإنكمش أيها الطاغية من عباراتي النارية، وإرتعش من غضب الشاعر ”
وبعدما فعل ما فعل، قِيل أنّه هرب إلى “سيستان” ثم إلى “مازندان” ليهرب من بطش السلطان.
شِيعت أقاويل عن أنّه لم يتسلم المبلغ الهزيل. وقِيل أنّه أعطاه لصاحب خمّارة كان يشرب عنده النبيذ، وقيل بأن السلطان أعطى لابنته المال بعد وفاته وأنّها قد رفضته وأعادته للسلطان.
في الشاهنامة الشِعرية استطاع الحكيم – كما كان يُلقب الفردوسي- أن يجمع التاريخ الفارسي المبعثر على الألسنة، المحفوظ بين الصدور، المخطوط في السطور داخل ملحمة واحدة . حتى أن المستشرق كوويل يقول عنها: ” الفردوسي وجد بلده تقريبًا بدون أدب، فسلّم إليه الشاهنامة التي لم يستطع الأدباء من بعده سوى تقليدها، دون أن يتفوق أحد عليها”.
وإنّ كانت الشاهنامة فعلت ما فعلت، وقال فيها ما قال المستشرق كوويل فإنّ ابن الأثير قال عنها – قديمًا – أنها: قُرآن فارسي.