الأمر دائري. الشجرة تكون بذرة. تترعرع بالشمسِ والماء. تُثمِر في الربيعِ حتى يأت عليها الخريف. الخريفُ يهدمُ روحها العطرة. يسري في أعضائها الشيخوخة إلى أن تنفلت منه لتعاود الحيوية في الربيع مرة أخرى. العملية تستمر إلى أن تكل فينهد حالها للأبد – تنكسر، تُخلع، أو تذوي -.
وهذا هو حال “نهر زاينده” الذي تحدث عنه بطل رواية” المستنقع” للإيراني جعفر مدرس صادقي والتي صدرت طبعتها العربية من ترجمة غسان حمدان.
فالنهر مُتدفق الحيوية، فتيّ، لاتتعب مياهه من الجري وتجديد حياتها. يأتي عليه اليوم الذي تسقط فيه أسنانه، تجف ينابيعه، تُعاكسه الطبيعة في مجراها، فتجعله ينتهي به المطاف – وهو المصب- إلى مستنقع. والمستنقع كما يُعرفه أصحاب الجغرافيا أنّه منطقة منخفضة، المياة فيها راكدة، لا تتحرك، آسنة، يكثر فيها النباتات العشبية الكثيفة، وغالبًا ما يتخلل هذه المياة الطحالب، يكثر البعوض، تسمع في أركانها نقيق الضفادع ليلاً، والمستنقع يكون حدًا فاصلاً ما بين منطقتين، الماء من ناحية وعلى الجانب الآخر اليابسة، وهكذا كان الحال داخل نفسية بطل الرواية الصغيرة التي تقع في زهاء مائة صفحة.
شاب ذات روح مُتفسخة ما بين أصفهان، الموطن الأصلي، المنشأ، الحياة الطفولية، العائلة، حب المراهقة، الجري بالفتاة المحبوبة إلى شاطيء النهر، النهر الذي هو علامة فارقة في حياته، علامة مُتحكمة فيه، كائن يتحكم في مجريات أموره. وما بين طهران البلد التي لا تؤذيه، البلد التي يُحاول داخل دهاليزها وحواريها البحث عن عمل يليق به.
هذا الشاب يحكى قصته أو بالأحرى أحلامه أو إذا أردت – عزيزي القاريء- التوصيف الصحيح له فإنّه يقص علينا إحدى عمليات التلاحم الحتمي ما بين أحلامه – وتشمل كُلاً من أحلام النوم واليقظة- والواقع المتفسخ الذي يعيشه، الواقع بين مدينتين.
هذا التفتت قد وضح بشكل كبير في حياة الشاب، والذي صارت حياته من تدفق وسريان طبيعي كالنهر، إلى ركود وعفن وروائح عطنة لا ترتاح لها الأنف كالمستنقع تمامًا. فوالده يُخبره ” كُل حياتنا في هذا المستنقع، إنّ وجودنا وكُل ما نملكه موجود فيه، كل المياة التي دهنّا بها أجسادنا انصبت فيه” . كأنّه تدليل على أنّ حياته تدور في فلكها الخاص بها، لينكسر جذعها في النهاية ويغوص في هذا المستنقع الآسن مياهه.
فالشابُ في أصفهان. أصفهان فيها النهر- نهر زاينده- الذي كان يذهب إليه مع أبيه كُل صباح – دون عِلم أمه-، حتى أنّه في أيام الشتاء يواظبان الذهاب دون الخشية من أي شيء وحتى من قسوة الطقس. أصفهان شهدت موت والدته غمًا بسبب تصرفات أبيه. فأخذت حياة الشاب تنهار وحياة والده كذلك. أبيه هو الآخر يموت كمدًا وغمًا على زوجته.
وهنا جعفر صادقي يرسم لنا موته بطريقة ميلودرامية تبرز مدى تفانيه في عمله، وعشقه لزوجته. فالزوجُ يموتُ عَلى ماكينة الخياطة، داخل الدكان الذي كان يُصر على الذهاب إليه بعد وفاة زوجته، كأنّه إشارة على محاولة التلهي داخل طرقات الحياة لنسيان ما حدث لها، ولكنّه في الوقت نفسه كان يبرز مدى عشقه لزوجته المتوفاة بطريقة متوارية، فهو ينغمس في العمل ولكنّه يزداد حزنًا حتى يموت كمدًا.
أصفهان التي أخذت ابنة عمته تلف عليه أحابيل الحب، تدور حول قلبه – فلقد كان وجهها يحمر قبل ذلك، وقبل ذلك يعني قبل موت والده وتركه الدُكان-، حتى تزوجها. الزواج كان لمصلحة، فالفتى مفتت، طائش، مُهدم الروح. زوجته وأخوها – ابن عمته- يفتحان الدكان بعدما تم تبديل نشاطه من الخياطة إلى محل خردوات.
الزوج الشاب وزوجته ابنة عمته يجلسان عند عمته ريثما يُحاول الحصول على مكان للسكن، يبحث في النهار، يرى العديد من الشقق ذات الغُرفات الواسعة ولكُنه يرفضها كُلها. يُطلق زوجته بعدما أخذ نصيبه مالاً من الدكان وتركه لهم. أصفهان تؤذيه. أصفهان قد تحولت داخله إلى نصف مستنقع.
الراوية تبدأ في طهران حيث مكان البحث عن عمل. تبدأ وهو جالس في غرفة ضيقة تضمن ثلاثة شُبان. الأول حميد، شخص مُهندم، في طهران يعمل، وهندمته وزينته لأنّه يُريد زوجة. خشايار الذي لا يعمل، المُتوهم في نفسه أنّه شاعر يقول عنه بطل القصة الذي يروى لنا حكايته :
” خشايار كان شاعرًا مثل كُل الشعراء شَعره طويل وله شاربان طويلان يُغطيان شفتيه كان يقول أنّه تزوج من الشعر وأنّه كان كما يقول زوج الشعر”.
خشايار صاحب أحلام اليقظة والتي فيها يُريد أن يكون فردوسيّ العصر – الفردوسي صاحب الشاهنامة- ويكتب تاريخ إيران داخل شعره. البطل نفسه يجلس على طاولة الشاعر الصغيرة، ويكتب أحلامه التي أصبحت تتلبسه كُل يوم.
وهنا يمكنك عزيزي القاريء أنّ تفترض إفتراضات عديدة حول كتابته لأحلامه وكوابيسه المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بنهر زاينده .هل هي من أجل التدوين فقط، تدوين من أجل التدوين؟ هل لأنّ والده أصبح سمة أساسية داخل أحلامه نتيجة تحفيز العقل اللاوعي وإبرازه له بشكل دائم؟ هل لأنّه يُريد أن يكتب عن نفسه المُهدمة ما بين أصفهان وطهران وبالتالي يُعبر عن المأساة التي يعيشها الشباب الإيراني من الأحلام الكبيرة المُتربطة بالمدن، والتي أول ما تتقوض تكون داخل هذه المدن؟ أم أنّه يفعل ذلك لأنّه يُريد أن يُصبح صاحب سطوة للكلمة ويصير كاتبًا وتُنشر كُتبه –كما وعده صاحب المكتبة التي عمل بها لأيام معدودة في طهران-؟ أم ماذا؟.
الشاب في كُل خطوة من حياته يُقرب بشكل غير حسيّ فيم بين كوابيسه وبين واقعه، حتى خلط بين العالمين وأصبح لا يستطيع الفصل فيم بينهما. أصبح الواقع حلمًا والحلم واقعًا. والده يُشاهده في كل وقت، مع أصدقائه، في كُل حين. والوالد يحكى له عن نفسه، عن طموحاته، عن ماضيه الذي لم يحكه له، ماضيه مع البولندية التي رأها بعد الحرب داخل المقهي، التي كان تغني وترقص إلى أن انتهت الحرب وعادت لمكانها. يحكي عن ماضيه المتحمور والمتحولق حول نهر زاينده. وهنا يكتمل النصف الثاني من المستنقع.
والمؤكد داخل النص الروائي أن الكاتب قد ترك في معماره العديد من الثغرات والمساحات التي من الممكن استغلالها، وبالتالي إفتراض حولها ومنها العديد من الحكايات.
فمثلاً الجُزء الأخير، أو واقع الحلم الأخير، الشاب يغوص ويغوص داخل مياة النهر، كلما غاص أصبحت المياة دافئة.
فما الذي يُمكن حدوثه لو أعدنا خورخي لويس بورخيس من قبره ليُهندم هذا النص وفقًا لمعاييره الفانتازية الخاصة؟
ماذا يحدث لو تمادى الشاب في أحلامه المحكية في أول فصل؟جرى وراء تفنديها وتفصيلها، يُبرز الجانب السودادي الذي كان يُراه دائمًا، ويُحاول ربطه بينه وبين واقعه، كأنّه بذلك يكون كافكاويًا في نصه بطريقة خلابّه وجذابة.
وماذا لو خرج إلينا أنطون تشيكوف ومسك شخصيات الرواية وأخذ تشريحها لعناصره البشرية الأولية وبخاصة حميد المهندم، وخشايار الشاعر الكذاب؟
المؤكد أنّ الإفتراضات كثيرًا، فما رأيك – عزيزي القاريء- لو عرضت عليك أن تتكلم بإفتراضك حتى أراك؟ العذر كل العذر إلى سقراط لتحوير كلامه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جعفر مدرس صادقي روائي وقاص ومسرحي إيراني الأصل من مواليد أصفهان في 19 مايو 1954. درس في كلية الآداب واللغات الأجنبية في طهران. عمل في كتابة التقارير والإستعراضات الأسبوعية والأعمدة، حيث أنّه بدأ العمل كصحفي في بعض الصحف والمجلات الأدبية.