سريعًا ما كان ينزوي سؤال خلافة خامنئي، الذي نُفاجَئ به على حين غِرة مادةً متناولةً ووجبةً دسمة على كافة واجهات المواقع الإلكترونية والمراكز البحثية، ثم ما يلبث أن يختفي، ولكنه يظل سؤالٌ هام وجدير بالبحث والاستقصاء والتحرّي؛ لأن قضيةً كتلك ليست بالهينة، بل هي ستُحدد مستقبل سياسة إيران ومنطقة الشرق الأوسط بأكمله، نظرًا لما أصبحت إيران تمثله في المنطقة.
من سيكون “الولي الفقيه” وتصبح وراءه صورتين عريضتين تجمعان الخميني، وخامنئي؟، ويُصبِح هو خليفتهما في أقوى مناصب إيران قاطبةً على الإطلاق؟.
بداية القصة
مطلع مارس 2015، نشرت صحيفة لوفيغارو الفرنسية، تقريرًا عن تدهور صحة المرشد الأعلى للثورة الإيرانية، علي خامنئي، وأثار بحثها محل استفسارنا هذا.
أعقب تقرير اللوفيغارو، تقارير من وسائل إعلامٍ إسرائيلية تُفيِدُ تدهور صحة المرشد، وأنه قد أُصيِب بمرض السرطان في البروستاتا، وتفشى هذا المرض في جسده، كما أفاد تقرير موقع “عربي 21”.
في عددها مايو/يونيو 2017، جددت مجلة فورين أفيرز الأمريكية، سؤال تقريرنا في تقريرٍ مُفصَلٍ لها، أشارت فيه إلى بُلوغ خامنئي 77 عامًا في يوليو 2016 -أي إنه أصبح 78 عامًا في يوليو الماضي- وأن الشائعات انتشرت حول معاناته من مرض السرطان على مدى عقدٍ من الزمان، رغم أن وكالة “ارنا” نشرت في 2014 صورًا له أثناء تعافيهِ من جراحةٍ في البروستاتا، وتوازى مع تقرير الفورين، تقريرًا آخر لوكالة “Tirbune News Service” يُشير إلى تعامل الحكومة الإيرانية بوضوح مع خلافته على وجه الاستعجال.
في ديسمبر 2015، تطرّق رئيس الجمهورية الإيرانية الأسبق، علي أكبر هاشمي رفسنجاني، إلى هذا الموضوع المحرّم عادةً، عندما أقرّ علنًا بأن مجلسًا داخل مجلس خبراء القيادة، كان يقوم بالفعل بفحص الخلفاء المحتملين. وفي مارس الماضي، وبعد انتخاب أعضاء جُدُد للمجلس لولايةٍ مدتها ثماني سنوات، دعا خامنئي نفسه إلى أن احتماليّة أنّهم سيتوجّب عليهم أن يختاروا بديله ليست باحتماليّة “منخفضة. ”
معلومات يجب أن تعلمها عن الولي الفقيه
ماهيته: هو المرشد الأعلى للثورة الإيرانية، والقائد لإيران، المنوط بـ “ولاية الأمر، وإمامة الأمة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية في زمن غيبة الإمام المهدي، فتكون بيد الفقيه العادل المتقي العالم بأمور زمانه، الشجاع الكفؤ في الإدارة والتدبير”، الذي يتولّى هذا المنصب وفقًا للمادة 107 من الدستور، التي تنص كذلك على تساوي القائد مع عامة الشعب أمام القانون وأيضًا المادة الخامسة من الدستور الإيراني.
صفاته: بحسب المادة 109 في الدستور، فيجب أن تتوافر فيه صفات، كفاءةٌ علمية لازمة للإفتاء في مختلف أبواب الفقه، عدالةٌ وتقوى لاّزمتان لقيادة الأمة الإسلامية، ورُؤية سياسية واجتماعية صحيحة، والتدبير والشجاعة والكفاءة الإدارية والقدرة الكافية للقيادة.
مهامه وصلاحياته: هو أعلى مناصب الدولة قاطبةً، ولديه صلاحيات شبه مطلقة بشؤون البلاد الداخلية والخارجية، بنص المادة 110 من الدستور، التي تُقِرّ أن المرشد الأعلى مسؤولٌ عن تعيين السياسات العُليا للجمهورية، والإشراف على أدائها، وحل مشاكل النظام.
وهو قائد الأعلى للقوات المسلحة، والمسؤول عن إعلان الحرب والسلام، والمسؤول عن تعيين وعزل وقُبُول استقالات: رئيس أركان الجيش، والقائد الأعلى لقوات حرس الثورة الإسلامية، والقيادات العليا للقوات المسلحة، وقوى الأمن الداخلي.
وهو المسؤول عن جمعٍ من المناصب: فقهاء مجلس صيانة الدستور، أعلى مسؤول في السلطة القضائية، ورئيس مؤسسة الإذاعة والتلفزيون في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، من حيث تعيين المسؤولين عنها أو عزلهم.
والرئيس الإيراني المنتخب مسؤولًا أمام المرشد الأعلى، فهو المعنيّ بالإمضاء على حكمه أو عزله، كما أن صلاحية المرشحين لمنصب الرئيس ترجع بعد موافقة مجلس صيانة الدستور إلى المرشد الأعلى.
اختياره: يتم عبر “مجلس خبراء القيادة”، بحسب المادة 107 من الدستور الإيراني، وهو الهيئة الدستورية الوحيدة التي تملك الصلاحيات لعزل المرشد بحسب المادة 111، دون أن يتم استخدام هذا الحق منذ تشكيله عام 1979.
وهذا المجلس ومجلس الخبراء هو الهيئة السياسية في النظام السياسي الإيراني، ويضم الآن 86 عضوًا، يتم اختيارهم عبر الاستفتاء الشعبي المباشر لدورةٍ واحدةٍ كل ثماني سنوات. والذين عادةً ما يكونون من الفقهاء، ويُشترَط فيهم أن يكونوا، مخلصين وأُمناء وذوي خُلُقٍ حسن، وأن يكونوا مُلِمين بالفقه لمعرفة الشروط الواجب استيفاؤها لتولي منصب المرشد الأعلى، وأن يكونوا متمتعين بمهاراتٍ اجتماعية وسياسية وعارفين بالأوضاع المحيطة، وأن يكونوا معروفين بولائهم لنظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
وهذه الهيئة يغلب على أعضائها، التيار المحافظ ، وترأسه منذ 1990، آية الله علي مشكيني إمام وخطيب الجمعة بمدينة قُم، وهو مرجعٌ تقليدي مُقرّب من المرشد الأعلى علي خامنئي.
وبقي في منصبه إلى حين وفاته سنة 2007 حيث خلفه الرئيس الإيراني الأسبق هاشمي رفسنجاني إلى حدود سنة 2011، حيث انتخب آية الله محمد رضا مهدوي كني محله. وهذا كما أفاد تقرير “عربي 21”.
الهيئات التابعة له: يتبعه “مكتب القيادة”، الذي ينسق نشاطه كمُرشِد، ومواعيد لقاءاته، وخطاباته، وزياراته الداخلية أو الخارجية. ويُقاَل أن للمرشد الإيراني أكثر من 2000 ممثل ينتشرون في كل الوزارات ومؤسسات الدولة، وفي المراكز الثقافية داخل إيران وخارجها، وفي محافظات إيران الثماني والعشرين.
ولديه أيضًا مجلس “تشخيص مصلحة النظام”؛ كهيئةٍ استشاريةٍ عُليا له، وتشكيل هذا المجلس يتم بأمرٍ من القائد لتشخيص المصلحة في الحالات التي يرى فيها مجلس صيانة الدستور أن قرار مجلس الشورى الإسلامي يخالف موازين الشريعة والدستور، في حين أنه لا يوافق مجلس الشورى الإسلامي آخذًا بنظر الاعتبار مصلحة النظام، حسب نص المادة 112 في الدستور.
خامنئي: هُوةٌ لمن بعده
أعتقدنا أن هذا التوصيف المثالي للقادمين خلف خامنئي فيما سيُصبِح الأمر بالنسبة لهم في حكم هذا المنصب الخطير الذي تتعدى صلاحياته أي صلاحية مهما كانت في البلاد، وقد ارتأينا ذلك لتضافُر عدة مُسببات تُحقق غاية قولنا.
أولًا، اختيار خامنئي نفسه كان حالةٌ طارئة دخيلة على قضية اختيار مرشد الجمهورية، على الرغم من أن عددهم اثنين فقط حتى الآن، كان روح الله الخُميني الذي تولى الإرشاد من (1979-1989)، حالةٌ مغايرة وشخصية مختلفة بكل ما تعنيه الكلمة، وكان ذا حُضًورٍ طاغٍ ومكانة عالية، وشخصيةٍ لها كاريزما قُوية للغاية لا سيما أيضًا مع التفاف الجماهير حوله، وحبهم له، واستطاع أن يحمي بلاده من خطر الانقسام والتشرذُم الذي كان سيطالها تحت قصف الحرب الإيرانية -العراقية (1980-1988) ويُحافظ على لُحمتها قليلًا، وأن يحول لملمة الخلافات الحادثة بين التيارين الاعتدالي والمحافظ وألا يجعلها سببًا في وُقُوع دولة الثورة الناشئة، فلا يُصبِح بأي حال مقارنة بينه وبين خامنئي، الذي وإن كان يتميز بصفاتٍ أو سِمات ستكون أقل بكثير من سِمات شخصية الخُميني.
قُدُوم خامنئي كان استثناءً؛ إذ أنه كان في مجلس الشورى الذي أنشأه الخميني بعد الثورة، وتولى عدة مناصب سياسية وتشريعية في الدولة خلال سنوات حكمه، إلى أن تولى منصب المرشد الأعلى في اليوم التالي من وفاة الخميني 4 حزيران / يونيو عام 1989، بعد أن اختارته نخب النظام الحاكم وريثًا في حياة الخميني.
واستجاب النظام -ممثلًا بالحرس الثوري الإيراني ومجلس الخبراء والمرشد الأعلى – لأزمة هذه الخلافة في عام 1989 بتغيير القانون الإيراني عبر تخفيض المؤهلات الدينية للمرشد الأعلى وزيادة سلطات منصبه؛ ما سمح لرجال الدين من المرتبة الأدنى، بالتأهل لمنصب المرشد الأعلى، وإلغاء منصب رئيس الوزراء وتركيز السلطة التنفيذية في يد رئيس الجمهورية.
إذ أن خامنئي حينها كان رجل دين متوسط، ولقبه آية الله فقط وليس آية الله العظمى، وكان يبلغ من العمر 50 عامًا فقط، ويفتقد للأهلية المعنوية التي كانت لدى الخُميني، وهذا الانتهاك الدستوري كان سببًا هامًا خلُصت إليه إحدى ورقات البحثية لمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، في شباط / فبراير 2015، في أن الدستور قد يتغير كما تغير لخامنئي، وأن عملية الخلافة الرسمية التي أرساها الدستور قد لا تستمر.
وتولى خامنئي منصب الإرشاد الأعلى للثورة الإيرانية بواسطة نُخُبٍ سياسيةٍ مؤثرةٍ ضغطت على (المجلس) للتصويت كما فعل أعضاؤه.
ثانيًا، إحداثات خامنئي، أراد خامنئي أن يُثبِت للجميع نقيض تصورهم عنه وأن يُصبِح مؤهلًا للمنصب الذي كان يُعتقَد أنه فضفاضًا عليه، فأحدث زالزالًا سياسيًا تدريجيًا في البُنية السياسية للنظام الإيراني، كما قالت مجلة فورين أفيرز، أنشأ خامنئي بصورةٍ مُطردةٍ بُنيةً فوقية أمنية، واستخباراتية، واقتصادية معقَّدة تتألّف من أتباعٍ موالين بقوةٍ له ولتعريفه للجمهورية الإسلامية، وهي شبكةٌ يمكن أن تُوصَف بأنَّها “الدولة العميقة” الإيرانية، أمسك بالعصا من منتصفها بين التيارين الاعتدالي والمحافظ، رغم تعهُده في خطاب ولايته بأنه سيُحافِظ على مبادئ الثورة الإسلامية وعدم الانحراف عن مبادئها.
وأبرز مثال على ذلك، تماهيه خلال فترة رئاسة رفسنجاني الأولى للبلاد (1993-1989) معه ودعمه بحذر لأچندته الليبرالية المنفتحة سياسيًا واقتصاديًا ومجتمعيًا، ولكنه انقلب عليه في فترة رئاسته الثانية وشنّ عليه هجومًا ضاريًا أركسه عن متابعة إصلاحاته والتراجع عن أفكاره التحرُرية. وانتصر خامنئي على رفسنجاني في غالب جولات الصراع بينهما مما ساهم في ارتفاع أسهُمه في مؤسسات الدولة.
يُضاَفُ إلى ذلك ما أحدثه في تعامله مع القوة المتاعظمة لرجال الدين في الجمهورية، اكتسب ثقتهم، وحظى بدعمهم، وجعلته حوزة قُم العلمية -أبرز وأقوى المؤسسات الدينية في البلاد- مرجعًا وهذا تطوُر كبير، وواجه مُشكِّكيه وناقديه من رجال الدين عبر “مأسسة” الدين داخل البلاد، ففرض بيروقراطيةً تتحكَّم فيها الدولة من رأس المؤسسة الدينية في قُم، فجُرِّد العلماء الشيعة الكبار بالمؤسسة من استقلالهم المالي، ووُضِعوا تحت سيطرته الضمنية.
وكافأ مؤيديه بالمناصب السياسية والامتيازات المالية التي حُرِم منها مُنتقدوه. وبذلك تمكَّن خامنئي من إخضاع مجلس خبراء القيادة، الهيئة الوحيدة التي تمتلك سلطةً دستوريةً للإشراف عليه؛ فترك لرجال الدين فقط نُفُوذًا ضئيلًا على إدارة الدولة فتقلّصت بشكلٍ كبير من قدرتهم على التأثير على عملية الخلافة.
أتى خامنئى كذلك على الجهاز الإداري للدولة بصُورتهِ الهيراراكية، فقلَّص وبشكلٍ مُطرد دور الحكومة المُنتخبة في إيران، وركَّز السلطة في مكتبه، وفي كيانات الدولة، التي تقع خارج نطاق رقابة الحكومة. ففي 2011، أنشأ هيئةً مُكلَّفة بحل النزاعات بين أفرُع الحكومةِ المختلفة، وعيَّن رئيسها.
وأنشأ كذلك المجلس الاستراتيجي للعلاقات الخارجية، الهيئة الاستشارية الخاصة به فيما يتعلَّق بالسياسة الخارجية، وأنشأ جهازًا استخباراتيًا موازيًا أصبح أكثر قوةً من جهاز الاستخبارات التابع للحكومة المنتخبة.
وفي حين كان اعتماد خامنئي على عددٍ ضئيل في إدارة مكتبه، وضع خامنئي الآلاف من مُمثِّليه المباشرين وغير المباشرين في الوزارات الحكومية، والجامعات، والقوات المسلحة، والمؤسسات الدينية في مختلف أنحاء البلاد، يُرسل جميعهم التقارير إليه أو إلى مكتبه.
يُصبِح اليوم، أمر الرئاسة، شيءٌ جديد على خامنئي، لاسيما في ظل وُجُود روحاني اليوم على سُدة البلاد منذ 4 سنوات، والذي ينضح منه صُورة أكثر تصلبًا بمنهجهِ الإصلاحي من رفسنجاني، ولديه قُدُرات المناورة والتمرير والإنفاذ، ولديه رغبة في استقلالية القرار، فروحاني يعلم ما فعله خامنئي في مبتدىْ حكمه، عندما همَّش خامنئي الجيل الأول للسياسيين الثوريين، وخاصةً أكبر هاشمي رفسنجاني -آنذاك- رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام، ومير حسين موسوي -زعيم حركة المعارضة الخضراء الذي ما يزال رهن الإقامة الجبرية-.
وفي الوقتِ ذاته أعاد خامنئي تشكيل الطيف السياسي بترقية جيلٍ جديدٍ من السياسيين الضعفاء الذين يدينون له بمؤهلاتهم. وقد كان لخامنئي رغبةٌ إن يُحوِّر سلطة الرئيس، ولقد تحدث خامنئي بالفعل، منذ عدة سنوات، علنًا عن تغيير نظام الانتخابات الرئاسية؛ لجعله برلمانيًا يختار فيه المجلس التشريعي السلطة التنفيذية بدلًا من الشعب. ولو حدث ذلك فلن يكون الرئيس قادرًا على استغلال شعبيته الشخصية لتعزيز موقفه. والبرلمان سيكون له المزيد من السيطرة على الرئيس مما سيُقلِّل من احتمال أن يصبح هذا الأخير صانع قرار في عملية الخلافة.
إذًا فسيُمثِّل خامنئي هُوةً سحيقة لمن بعده تكاد تبتلعه، كما أنه سيُعجِز من يقدُم بعده ولا يقوى على القيام بأُمور هذا الدور شديد الخطورة والأهمية، نظرًا للإحداثات التي أسّسها، والتحوير الذي أسراه في دماء النظام السياسي الإيراني، فقلبه رأسًا على عقب، ويُشكِّل هذا سؤالٌ محوري، حول ماهيّة قدرة الخليفة الجديد في تكوين صُورةٍ جديدةٍ تُخالِف سابقيه، ويُصبِح له استقلالية ويبني لنفسه شخصية خلاف المؤسس الأول الخميني،كما كان خامنئي، أم أن هذا صعب المنال، وستتحكم فيه عوامل أُخرى.
*نتعرض في الجزء الثاني لقُوة الحرس الثوري في تشكيل منصب المُرشِد، وأبرز المرشحين لخلافة خامنئي في المنصب، بالإضافة إلى التحديات التي ستواجهه مستقبلًا.