وقف حسن روحاني، رئيس الجمهورية الإيرانية، يوم الأحد الماضي، في كلمةٍ له أمام البرلمان الإيراني، قائلًا بكل جرأةٍ وقُوة وچلاءٍ واضح: “هناك دولة جوار ثرثارة في المنطقة، وتتحدث بشكلٍ غير منطقي، ليس لدينا مشكلة معها؛ فلتتوقف السعودية عن قصف اليمن، وعن توسل علاقات صداقةٍ مع إسرائيل، لا نريد من السعودية أكثر من ذلك، حينها لن تكون هناك مشكلةٌ مع السعودية، ويمكننا أن نقيم معها علاقاتٍ جيدة”.
هل حمل الجُزء الأخير من هذا الخطاب تمهيدًا لمد الأيادي الإيرانية وتقديم باقة وُرُود للمملكة لكي تتم عملية المصالحة بين اثنين من كُبريات الأنظمة في منطقة الشرق الأوسط ؟.
يبدو أن في وسط هذه اللباقة بندقية، لم يكُن خطاب روحاني ودودًا بالمرة، بل كان غليظًا وجافًا لا يحمل أي صِفة تصالُح أو وُد أو حتى على استعـداد بالتنازُل عن أي ثابت أو مُكتسَب إيراني في المنطقة، بل غلبت سِمة الأنفة والنظرة الفوقية الاستعلائية على السُعوديـة، وهذا يظهر في الطلب الإيراني بأن التنازُل والتراجُع عن بعض سلوكياتها هو ما مُتوجَب على السعودية أن تقومَ به لكي تتصالح مع إيران.
وهذا ما يتفق مع تصريحات روحاني، في أواخر نوڤمبر الماضي، في حوارٍ له مع التليفزيون الإيراني، إن السعودية تُقدم بلاده كعدو للتغطية على هزائمها وفشل سياساتها في المنطقة وأوضاعها الداخلية المتأزمة. وأن السعودية حققت فشلًا متتالي في العراق واليمن وسورية ولبنان. وتُريد تغيير هذا الواقع عبر إلباس إيران صفة عدو المملكة.
نُلاحِظ أنه في مارس 2016، وُجِّهت دعوة من عادل الجُبير، وزير خارجية المملكة العربية السعودية، بصدد شُروط المملكة حول إعادة العلاقات بين المملكة السعودية وإيران، وهي أن تتوقف إيران عن التدخُل في الشؤون الداخلية للسعودية ودول الجوار، وأن تمتنع عن زرع الخلايا الإرهابية في المنطقة؛ هذا إن كانت ترغب في علاقات طبيعية.
ويذكر تقرير لصحيفة عاجل الإلكترونية، أن مصدر إيراني مطلع أكد أن الرئيس، حسن روحاني، أوعز إلى وزير خارجيته، محمد جواد ظريف، بترتيب الأوضاع لفتح حوارٍ جادٍ وبنّاء مع السعودية، ومعالجة المشكلات التي تعترض هذه العلاقات شريطةً أن تُرسَم في إطار المصالح الإيرانية العليا والأمن القومي الإيراني والسُعودية ليسن مُستثناَة من هذه القواعد والمصالح.
تجددت الدعوة، في أغسطس 2016، صرّح عادل الجبير مجددًا، أن في حالة رغبة إيران بالتصالُح مع المملكة فعليها تغيير سُلُوكها، وتُصبِح بلدًا عاديًا، وتكُف عن ثورتها ورغبتها في تصدير المشروع الثوري خاصتها، وأن بلاده لا ترغب في وُجُود توتُر مع الجانب الإيراني، وأن سُوء العلاقات ليس بسبب الثورة الإيرانية 1979، بل لأن إيران انتهجت أفعالًا غير لائقة مع المملكة عبر التدخُل في أمورها الداخلية، والحج، والهجوم على السفارة، وأن الأفعال هي من ستحكم الطريقة التي ستُغيِر بها السعودية علاقاتها مع إيران.
أُفُق التصالح المُبدَّدة
قد يظهر للناظر أن هاتين الدولتين لم يكونا يومًا يُفكران في الأصل أن يضعا يدهما في يد بعضهما البعض، ولكن هذه هي السياسة أرض الاستثناءات حيث لا مستحيل.
في تقريرٍ نُشِر على موقع المونيتور بالعربية، في أواخر يناير الماضي، أوضح لفتات من هذا الأمر، مثل أن رئيس إيران السابق، أكبر هاشمي رفسنجاني، لعب دورًا رئيسيًا في التقارُب بين البلدين، عقب نهاية الحرب العراقية الإيرانية التي استمرت ثماني سنوات، وأبدى حُكام الخليج رسائل تعزية عقب وفاة رفسنجاني في يناير الماضي.
وذكر التقرير، أن موقع إيراني يُدعىَ “انتخاب”، أشار أن العاهل السعودي، الملك سلمان أعرب عن تعاطفهِ مع وفاة رفسنجاني في برقية تعزية موجَّهة لعائلتهِ فقط، وصّفه فيها بأنه رجٌل “محترم”، وسأل الله أن يلهم ذويه وأسرته الصبر والسلوان. في نفس يوم إرسال البرقية كان وزير الخارجية الكويتي آنذاك، صباح خالد الصباح، يزور إيران مُحمَّلًا ببرقيةٍ هو الآخر مُمرَّرة من دول منظمة التعاون الخليجي، في 12 كانون الثاني / يناير، يُعتقَد أن هذه الرسالة من الأمير الكويتي نفسه، ويُضيِف موقع جريدة النهار اللبنانية أن أمير الكويت كان يسعى للتوسط بين إيران والمملكة السعودية.
وفي تقريرٍ لصحيفة اعتماد الإصلاحية الإيرانية، أشارت أن مسؤولي إيران رحبوا بخفض التوتر مع المملكة وجيرانها، وأنه على الرغم من التشاحن الإعلامي والتشاجُر الدبلوماسي، لازالت الدولتان تؤمنان بضرورة حل مشاكلهما مع بعصهما البعض، مع ممارسة الدبلوماسية سرًا؛ وهذا ما يُفضِّله السياسيون السعوديون، وهذا بالضرورة يُبدِّد حديث الجُبير السابق، ويؤكد أن التصالح ليس فرضية مستحيلة.
كما أنه في أغسطس الماضي، نشرت وسائل إعلام إيرانية، لقاءً حميمًا جمع بين محمد جواد ظريف وعادل الجُير على هامش مشاركتهما في اجتمتع منظمة التعاون الإسلامي بتركيا، تبادلا فيه العناق بالأحضان، وكأن ليس هُناك ثمة شيء أو نزاع بين البلدين.
كما نرى أنه في أغسطس الماضي، قد أكد وزير الداخلية العراقي، خالد الأعرجي، خلال مؤتمرٍ صحفي مشترك مع نظيره الإيراني، عبد الرضا رحماني فضلي، في طهران، أن ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، طلب منه رسميًا، أن يتوسط العراق بين إيران والسعودية، لكبح التوتر بين البلدين، كما سبق للملك سلمان أن قدم هذا الطلب في وقتٍ سابق. رغبةً في تعزيز أمن المنطقة.
وصل الأمر إلى الوساطة الروسية في شأن إصلاح العلاقات بين البلدين، كتب عبد الباري عطوان، في عمودٍ له، على صحيفة رأي اليوم، أن روسيا في إطارها تمددها في المنطقة تسعى إلى تكوين حلفٍ لها، وتكون أضلاع هذا الحلف، فضمت إليها وإيران وتركيا، ولم تكتف عند هذا، بل أرادت أن تحوز في يديها الإمارة الحجازية النفطية الأمريكية في المنطقة.
لكن قبل هذا اضطرت روسيا لمحاولة توفيق الأوضاع بين إيران والسعودية، ما أعلنه ميخائيل بوغدانوف، نائب وزير الخارجية الروسي، حول استعداد بِلاده للتوسّط لإعادة العلاقات الإيرانيّة السعوديّة إلى صُورتها الطبيعيّة، وقَوله: “لقد حاولنا عدّة مرّاتٍ في السّابق جَمع البلدين على مائدة الحِوار، ولكن هذهِ المُحاولات لم تتكلّل بالنّجاح”.
عاصفة بن سلمان تُبدّد الصُلح
كانت الأمور بين السعودية وإيران، كلما تنازعتها الأحداث واشتدت المناوشات وظهرت آثار الحرب، أُطفِئت، ولا يُهمنا تفنيد كيفيات إطفائها.
ولكن ظهر على السطح الأمير الشاب، ولي العهد، الذي جمع مقاليد الأمور في المملكة في راحة يده، وهو يضع نُصب عينيه هدف تحقيق نصرٍ خارجيٍ يضمن له، أو يُضفِي عليه شرعية الحُصُول على المملكة كملكٍ مُتوَّج فوق العرش قريبًا، في سبيلٍ له لتدجيج سيرته بأية مكاسب أو استحقاقات أو مفاوز يُشهِرها أمام الجميع حينما يسألونه عن مُلوكيته فوق عرش المملكة العربية السعودية.
اتضح أن بن سلمان يريد أن يُطبِّق منهج المعز لدين الله الفاطمي، أحد حكام الدولة العُبيدية -الفاطمية- حينما سُئِل عن حسبه ونسبهٍ، فأشهر لهم سيفه وقال لهم هذا حسبي، وأخرج كيسًا مملوء بالذهب وقال هذا نسبي.
ولكن بن سلمان لم تُفلِح لا سيوفه ولا أمواله، في ظل الانتكاسات الخارجية التي يُحققها على صعيد السياسة الخارجية في كُلٍ من سُورية، والعراق، واليمن، ولُنان، وقطر: وهذا ما جن جُنونه وأراد أن يقضي على إيران التي حمّلها كافة أوزاره وأفشاله، فجنّد الحِد والحديد، والفتيل والقطمير، لمعركة السيطرة والنُفُوذ على الشرق الأوسط، حتى أنه أنفق مليارات المليارات، ودفع بزهرة قواته ومعداته، وتحالف مع إسرائيل بصًورةٍ شبه علنية، واقترف أفعالًا ما لم يكن في المُتخيل أن يفعلها آباؤه وجدوده من بني عبد العزيز، ولم يدع سببًا ولا بابًا إلا طرقه في سبيل الدُخُول في حربٍ ليست بالقتال، طويلة النفس مع الجمهورية مترامية الأطراف.
حتى أن صحيفة “لي أوكي ديلا غويرا” الإيطالية، استعرضت تقريرًا، تُشيرُ فيه إلى مدى المآزق التي وقعت فيها المملكة تحت قيادة بن سلمان، فتلجأ المملكة لتعويض تراجع العائدات النفطية التي أثرت بشكلٍ كبير على الإنفاق العام والرعاية الاجتماعية، دون المساس بالإنفاق العسكري، بالإضافة إلى اعتزامها بيع حصة من أسهم شركة أرامكو كخطةٍ بديلة للخروج من الأزمة بأخف الأضرار إلا أن هذه الخطة أدت إلى نتائجٍ عكسية، وعواقب وخيمة على الأسرة الحاكمة بحسب التقرير.
تصادف هذا مع خروج إيران من 2015 وهي مُحملة بطاقة أوكسچينية تملأ صدرها، تنطلق بسُرعةٍ هائلة لتعويض ما تسببت فيه سنوات الحصار، وهي بالطبع وبالضرورة لا تُريد الوُلُوج في حربٍ بأي شكل من الأشكال، استغلت إيران أخطاء المملكة بذكاءٍ وسرعةٍ شديدتين، وحققت مكاسب في كافة البقاع التي فشلت فيها السعودية، في الحصار مع قطر، وأزمة سعد الحريري في لُبنان، ومأزق اليمن الخانق شديد التأزُم، وسُورية التي أصبحت حديقةً خلفية لها، و العراق التي سيطرت عليها بالكُلية.
هذا توازى بالضرورة مع التيار الإصلاحي الذي بدأ بتمدد في الجمهورية، والذي يمتلك منظورًا سياسيًا خارجيًا يحاول أن يُحيِكه ويُطبِقه بقُوة دون اهتماماتٍ يوليها لدعاوى التريُث من قِبل المحافظين في جمهوريته، أو دعاوى التراجع من النظام العالمي.
النظرة تذهب إلى أن قضية التصالُح ليست بالعويصة في حد ذاتها، مهما كان حجم الاختلاف القائم بين الدولتين، نظرًا لعالم السياسة الذي نحياه الذي عُرِف بعجائبه وتوافق المصالح فيه، ولا يُمكن أن نُعوِّل على النظرة الفقهية الدينية في هذا الأمر، بأن المذهبية تقف حائلًا صلدًا في سبيل تحقيق المصالحة المُبداة في سنُية المملكة وشيعية الجمهورية.
إذ أن بن سلمان أطاح بقوة، بقضية الدين من الحاكمية في المملكة التي خرجت منها دعوة محمد بن عبد الوهاب، ولا حتى أن يُؤخَذ بالقول السُنّي السائد بأننا عندما ذهبنا لنتوحد مع الشيعة، أرادوا هم تقرُبنا نحن منهم دون التخلي عن مبادئهم، كل هذه عوامل في الوقت الحالي لا يُمكن الاعتداد بها أو التعويل عليها في قضية التصالح.
ولكن إيران بأي حال من الأحوال لن تُفرِط في هذه المكتسبات التي حققتها، وهذا هو السبب الأبرز لعدم قيام فكرة التصالح بين البلدين، فالسعودية تريد لإيران أن تعود القهقرى في المنطقة وتتخلى عن كل هذا، نستطيع أن نقول سابقًا أن كلا الدولتين كانتا ترغبان في تحقيق التصالح، نظرًا للمكاسب التي ستحققها كلا الدولتين من التصالح بينهما، ولكن هذا سريعًا ما يتلاشى فعفوية محمد بن سلمان ورغبته الجامحة في إذعان الجميعِ له وتحقيق نصرٍ خارجيٍ عرمرم على أعتى دول المنطقة نُفُوذًا وسطوة، يُقابِله ثباتًا بالأرض والإمساك بالمواقع واستخدام سياسة القُوة الناعمة والوُقُوف بعيدًا على الحدود لتكبت رغبة المملكة في إعلان نفير الحرب العسكرية ضدها.
ويظل التلاسُن والتشاحُن، والحرب الكلامية هي أساس الحرب بين الطرفين في الوقت الآني، ولا تصالُح سيقم في هذه البيئة المُعبَأة بالخلافات ونيران الحرب.
ونهاية تقول إحدى وريقات مركز الجزيرة للدراسات، “أن التصعيد الحادث اليوم بين السعودية وإيران لا يرقى إلى مستوى إعلان المواجهة المسلحة المباشرة، لكنه بالتأكيد يقول بفشل الدبلوماسية في حلحلة ملفات الخلاف المعقدة بين البلدين.
ومع فشل السعودية في اليمن، تحاول تسجيل إنجازات على صعيد المواجهة مع إيران، وتحاول توظيف التأييد الأميركي لتحقيق بعض المنجزات المحدودة للتغطية على الفشل في اليمن، لكنها ورغم مقدراتها الكبيرة لا تملك المقومات الكافية لشنّ حربٍ ضد إيران، وإيران ستبقى حريصةً على إدامة المواجهة بعيدًا عن حدودها الفعلية، غير راغبةٍ للدخول في مواجهةٍ مباشرةً”.