لقد أدى إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي اعترف فيه بالقدس، ثالث اقدس بقاع العالم، عاصمة لإسرائيل، إلى إثارة موجة إدانة عالمية بالإضافة إلى إشعال حالة الغضب في فلسطين والعديد من الدول الإسلامية.
وعلى إثر هذه الخلفية، كان رد فعل إيران له أهمية خاصة، نظرا إلى أنها أكثر الدول الراديكالية المناهضة للولايات المتحدة ومناهضة لإسرائيل في المنطقة، حيث أنها تخضع لحكم الإسلام، وهو عنصر ملازم للهيكل السياسي للبلاد، كما تمارس مستوى عالي من التأثير في المنطقة.
اغتنام الفرصة
يذكر أن خطوة ترامب جاءت في وقت غريب عندما كانت السعودية وإسرائيل، أعداء إيران، يمهدان الطريق نحو إقامة علاقات أوثق وبشكل صريح أيضا مع بعضها البعض. وقد أدت المصالح المتقاربة بين البلدين إلى ظهور تحالف غير رسمي وغير معلن بينهما يهدف إلى مواجهة النظام الإيراني والإطاحة به إن أمكن.
وقد وصف الإسرائيليون والسعوديون وترامب باستمرار إيران بأنها منبع الشر بالمنطقة. لكن ما يثير الاهتمام هو أن قرار ترامب بشأن القدس قد يؤدي إلى عرقلة جهود السعوديين والإسرائيليين التي تهدف إلى تصوير إيران والتأكيد على أنها مشكلة الشرق الأوسط.
وكما كان متوقعا، انتهزت إيران الفرصة للعودة بمسألة القدس (القدس) على رأس المشاكل التي يواجهها العالم الإسلامي. وفي 11 ديسمبر، حملت الافتتاحية بصحيفة “صبح صادق”، وهي الجريدة السياسية الناطقة باسم الحرس الثوري الإيراني، وجهة نظر الدولة الإيرانية العميقة، تحت عنوان “عودة فلسطين باعتبارها مشكلة العالم الإسلامي الأولى”.
ونقلت الصحيفة عن حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله اللبناني قوله إن تحرك الولايات المتحدة بمثابة إعلان بلفور الثاني، والذي كان يتمثل في البيان العام الذي اصدرته الحكومة البريطانية خلال الحرب العالمية الأولى والذي قاد إلى تشكيل إسرائيل عام 1948.
وتقول الافتتاحية إن اعتراف الأميركيين بالقدس عاصمة إسرائيل يمكن أن يدفن الآمال المتعلقة بإقامة دولة فلسطينية دائمة.
وتضيف الافتتاحية أن “تحرك ترامب أصبح ممكنا نتيجة خيانة فلسطين من قبل العديد من قادة الدول الإسلامية”. وفي إشارة واضحة إلى السعوديين، تؤكد الافتتاحية أنه “من خلال وجود علاقات سرية وعلنية مع النظام الصهيوني، قام [هؤلاء القادة] ببيع الفلسطينيين المضطهدين إلى الصهاينة بشكل مخزي”.
وتختتم الافتتاحية بأن خطوة ترامب ” دليل على أن المفاوضات مع النظام الصهيوني لن تجدي نفعا” وأن “على الفلسطينيين العودة إلى الانتفاضة والنضال الجهادي من أجل الحصول على حقوقهم في الوجود والعيش”.
الأهداف السياسية
إن الحكومة الإيرانية ستقوم دون شك بالسعي إلى تصعيد هذه المسألة بالكلمات، التي تعود في جانب منها إلى العقيدة الدينية، وستسعى كذلك لتحقيق ثلاثة أهداف سياسية.
أولا، تأسيس موقفها في العالم الإسلامي كدولة رائدة في دعم الفلسطينيين، وفكرة أن القدس للفلسطينيين، ومواجهة الولايات المتحدة وإسرائيل.
ثانيا، وضع السعوديين في موقف دفاعي محرج. وفي السنوات الأخيرة، ومن أجل مواجهة إيران، سعت المملكة العربية السعودية للعمل بجد من أجل تقديم نفسها كزعيم وممثل للعالم الإسلامي.
اولآن، بالنظر إلى أن مواجهة إيران تمثل الأولولية الأولى والرئيسية للسياسة الخارجية، يجب على السعوديين العمل جنبا إلى جنب مع أكثر إدارة معادية للمسلمين في تاريخ الولايات المتحدة، وكذلك العمل مع إسرائيل. وفي أعقاب تحرك الأمريكيين بشأن القدس، ستتاح لإيران فرصة ذهبية للمناورة حول تلك العلاقات وتصوير السعوديين خائنيين للعالم الإسلامي.
ثالثا، حشد العالم الإسلامي ضد إدارة ترامب، التي تواصل باستمرار انتهاج سياسات صارمة ضد طهران.
الخطة المتقدمة
تعتمد فعالية هذا النهج على مستوى تصرفات وردود أفعال إسرائيل والفلسطينيين. وقد دعا إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إلى انتفاضة ثالثة في الضفة الغربية والقدس.
وفي حال حدوث مثل هذه الانتفاضة، فمن المرجح أن تكون إيران أقوى وأن الخطة السعودية الإسرائيلية لضرب الحكومة الإيرانية ستفشل. لقد استغرقت الانتفاضة الثانية خمس سنوات (2000-2005)، حيث قتل خلالها أكثر من 3200 فلسطيني و 800 إسرائيلي.
يذكر أيضا أنه إذا استمرت الأزمة الحالية فقضية فلسطين لن تكون محل اهتمام أي زعيم عربى. ولذلك، ففي غياب ظهور حركة في فلسطين، ستكون خطط إيران قصيرة الأجل.
ولكن إيران قد تستهدف المصالح الأميركية في المنطقة نظرا إلى وجود 2000 جندي أميركي في سوريا و 5000 في العراق.
لقد حذرت حركات حزب الله النجباء، وهي ميليشيات بارزة تدعمها إيران والتي كانت طرفا هاما في القضاء على تنظيم الدولة (داعش) كمنظمة في العراق، في 7 ديسمبر من أن قرار ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة إسرائيل يمكن أن يصبح “سببا مشروعا” لمهاجمة القوات الأمريكية فى العراق.
وربما يجادل البعض حول أن إيران يمكن أن تستخدم وكلاءها لشن حرب غير متناظرة على القوات الأمريكية، كما فعلت عندما حافظ الأميركيون على وجود عسكري كبير في العراق. وهذا الأمر بعيد الاحتمال.
إن وجود القوات الأمريكية وإقامتها في العراق في أعقاب الغزو الأمريكي تسببا في تهديدا عسكريا خطيرا للحكومة الإيرانية على خلفية ذلك. وفي الوقت نفسه، ولأول مرة، كان للأغلبية الشيعية العراقية فرصة للاستيلاء على السلطة.
ولم تتمكن إيران من إغفال هذه الفرصة، لأنها تمكنت من توسيع عمقها الاستراتيجي في المنطقة التي تغطي هلال يشمل العراق وسوريا ولبنان. هل كانت هذه الاستراتيجية بكل بساطة طائفية في جوهرها، كما حاول العديد من الخبراء التوضيح؟ لا.
يذكر أن إيران الشيعية كانت، ولا تزال، تدعم الجماعات الفلسطينية “السنية” مثل حماس والجهاد الإسلامي. ويجب تفسير الاستراتيجية الإيرانية في إطار سياسة الواقع، بدلا من الإطار الديني أو القيم الطائفية.
حدود دعم فلسطين
جدير بالذكر أن الحكومة الإيرانية لن تدخل حربا لأسباب أيديولوجية. وهذا صحيح بصفة خاصة فيما يتعلق بالحرب مع الولايات المتحدة. وقد اتخذت إيران قرارا بعدم محاربة الولايات المتحدة. ومن الأمثلة الصارخة على ذلك تطورات عام 1982 في لبنان.
وفي شهر يونيو من ذلك العام، شنت إسرائيل هجوما واسع النطاق على لبنان، مما أسفر عن وفاة آلاف الأشخاص. ووقعت الحادثة التي فطرت القلوب بشكل كبير في سبتمبر عندما سمح وزير الدفاع الاسرائيلي السابق آرييل شارون للميليشيات المارونية المسيحية بقتل اكثر من 800 مدني فلسطيني في مخيمي صبرا وشاتيلا للاجئين. وكان هدف إسرائيل المعلن هو إجبار منظمة التحرير الفلسطينية على مغادرة لبنان.
وانشغلت إيران بالحرب مع العراق، وانغمست في الحماسة الثورية، خاصة بين الشباب. وتم نشر مجموعة من متطوعي الحرس الثوري الإيراني في سوريا للمشاركة في الحرب ضد إسرائيل.
ويقول علي صياد الشيرازي، قائد القوة البرية الإيرانية حينها، في مذكراته: “في 26 يونيو من عام 1981 التقينا بالإمام [الخميني، زعيم الثورة الإيرانية] للتبليغ عما فعلناه في لبنان، [ استمع إلى تقاريرنا وفجأة قال، “إذا كانت القوات التي قمتم بنشرها هناك تنزف قطرة دم واحدة، فلن أكون مسؤولا. أخبرهم أن يعودا فورا. وكنا في حالة ذهول”.
إن ايران ستقوم بالدفاع عن القضية الفلسطينية بالكلمات، وبتمويل الفلسطينيين الذين هم على استعداد للقتال ضد اسرائيل، لكنها لن تتورط فى قتال مع اسرائيل أو الولايات المتحدة حول فلسطين.
وبالإضافة إلى ذلك، لم تنس الحكومة الإيرانية أنه خلال الحرب مع العراق، دعمت منظمة التحرير الفلسطينية الدكتاتور العراقي صدام حسين، وخلال الحرب السورية، أدارت حماس ظهرها لطهران وقامت بدعم الإطاحة ببشار الأسد، المتعاون الرئيسي مع إيران.