تمتلك الولايات المتحدة قدرة فريدة على وضع خصومها المستعصيين تحت تهديد وجودي بشكل سريع وبصورة موثوقة، وذلك بفضل قوتها العسكرية. إن قيادة الجيش الأقوى في العالم تمنحها خيارات متعددة، وخيار تغيير النظام يمكن أن يكون مغريا بالنسبة لواشنطن حيث أنها تحاول العمل من خلال بعض معضلات السياسة الخارجية الأكثر جرأة.
يذكر أن معضلة واشنطن النووية لا تنتهي مع بيونجيانج. وإذا كانت طهران تحاول العودة إلى طريقها الغادر نحو التسلح النووي فذلك سيعتمد إلى حد كبير على مدى جدية البيت الأبيض ومحاولاته لتنفيذ سياسة تغيير النظام.
منع تواجد كوريا شمالية أخرى
كان من المقرر أن تثبت كوريا الشمالية للعالم أنها قامت بعملية ردع لأنشطتها النووية. ومع اختبار تم في 29 نوفمبر لصاروخ باليستي عابر للقارات له أطول مدى حتى الآن، والكثير من المظاهرات المتوقع حدوثها في الأشهر المقبلة، فالبلاد على الطريق الصحيح نحو إظهار استطاعتها صناعة صاروخ باليستي عابر للقارات يمكن الاعتماد عليه نوويا وله القدرة على الوصول إلى الولايات المتحدة وأن لديها ترسانة ضرورية لمواجهة الضربة الأولى.
إن احتمالية إطلاق ضربة وقائية على كوريا الشمالية تقترب بشكل سريع. وفي المقابل، تتزايد الاحتمالات بأن الولايات المتحدة، بجانب البلدان في شبه الجزيرة الكورية وحولها، سيتعين عليهم أن يتقبلوا واقع كوريا الشمالية المسلحة نوويا، والاستعداد بدلا من ذلك لضربة وقائية في حال قررت بيونغ يانغ شن هجوم.
تقوم الولايات المتحدة بدراسة مخاطر شن حملة عسكرية وقائية وذلك لتجنب الدخول في النظام العالمي الجديد المحفوف بالمخاطر. ولكن التكاليف المتعلقة ببدء حرب في شمال شرق آسيا وإغراق العالم في حالة من الركود تجعل هذا السيناريو أقل احتمالا. وعلى الرغم من أنه ورث جدولا زمنيا شبه مستحيل للقضاء على هذا التهديد، إلا أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لن يتعامل بعطف مع كوريا الشمالية بشأن تحقيق طموحاتها النووية على مرأى منه.
وعندما يحين الوقت الذي يحسب فيه حساب هذا الواقع، فربما تقوم إدارته بإعادة صياغة هذه المسألة باعتبارها نتاج عقود من السياسات المهملة وغير الفعالة. ومن ثم سيضع الرئيس عينيه على إيران، متعهدا بتجنب تكرار مثل هذا الفشل الذريع فى السياسة الخارجية الأمريكية.
وفي الواقع، كانت الجهود الرامية إلى تحويل الانتباه من كوريا الشمالية إلى إيران جارية منذ بعض الوقت. وقد أوضح ترامب أنه يرى خطة العمل الشاملة المشتركة، التي تتمثل في الاتفاق الذي قام به سلفه، وأربعة بلدان أخرى، مع إيران لمنعها من السعي إلى نحو تطوير قدراتها النووية ، ضعيفة وغير كافية تماما. وعلاوة على ذلك، أعربت الإدارة الأمريكية عن إحباطها لأن شروط الصفقة تمنع فرض عقوبات اقتصادية ردا على التهديدات الأخرى من إيران.
ومن خلال إقرار خطة العمل الشاملة، كان يرغب ترامب في أن يبعث رسالة مفادها أنه جاد في مواجهة الجمهورية الإسلامية. ومن أجل التوصل إلى اتفاق في المقام الأول، كان على الإدارة السابقة والموقعين الآخرين على خطة العمل المشتركة أن يركزوا المفاوضات على البرنامج النووي الإيراني فحسب، وأن يجنبوا مشاكل أوسع نطاقا، مثل دعم طهران السري للوكلاء من المقالين، وتطوير قذائفها الباليستية وانتهاكات حقوق الإنسان.
وتؤكد الوكالة الدولية للطاقة الذرية والأطراف الأخرى في خطة العمل المشتركة على أن إيران ملتزمة للنهاية بالاتفاق. وفوق ذلك استخدم العاملين الحاليين بالبيت الأبيض مخالفات لا علاقة لها بالاتفاق، مثل اختبار الصواريخ الباليستية، لطمس شروط برنامج العمل المشترك، وتبرير إعادة فرض العقوبات.
مراجعات إيران
وبناء على ذلك، سيكون لدى إيران الكثير الذي ينبغي أن تفكر فيه في السنة المقبلة حيث تدرس إيجابيات وسلبيات الالتزام ببرنامج العمل المشترك. وبالمقارنة مع كوريا الشمالية، ترى إيران الردع النووي بمثابة ترفا أكثر من أنه ضرورة قصوى.
إن اعتماد إيران على تجارة الطاقة العالمية، وتعرضها الشديد للرقابة على المعلومات الاستخباراتية من جيران متشددين مثل إسرائيل، وقدرة شعبها على تحويل السخط الاقتصادي إلى تغيير سياسي يجعل السعي وراء الأسلحة النووية أكثر خطورة. وفي الوقت نفسه، يقدم الهيكل السياسي متعدد الطبقات في البلاد، والأجهزة الأمنية الهائلة، والتضاريس الصعبة، والقدرة على تعطيل حركة المرور في مضيق هرمز، دعما مفيدا ضد محاولات خصومه لإسقاط حكومة رجال الدين.
وبالإضافة إلى ذلك، فتأثير إيران عبر الشرق الأوسط يمنحها نفوذا مع الولايات المتحدة. إما عن طريق المساعدة في المصالح الأمريكية، على سبيل المثال في الكفاح ضد تنظيم الدولة، أو عن طريق إعاقتها، من خلال تهديد السفن البحرية أو دعم الوكلاء المسلحين ضد حلفاء الولايات المتحدة، ويمكن لطهران أن تؤثر على تعاملها مع واشنطن. وقادت هذه العوامل إيران إلى استنتاج أنها يمكن أن تفاوض مع الولايات المتحدة على برنامجها النووي للحصول على إرجاء اقتصادي من العقوبات وتقليل احتمال نشوب صراع عسكري في الخليج الفارسي.
ولكن خطة العمل المشتركة لم تكن فقط حول البرنامج النووي. وضمن إطار العمل كان هناك فهم أعمق بين واشنطن وطهران. وقد فهم الجانبان أنه سيبقى هناك عدد من نقاط الخلاف بينهما عندما يتنافسون في ساحات قتال بالوكالة في جميع أنحاء المنطقة. ومع ذلك، في التوقيع على الاتفاق، خفضت الولايات المتحدة من احتمالات الصراع في منطقة الخليج، مما يعطي تحذير لطهران من أن تتخذ أي خطط سابقة لتغيير النظام بعيدا عن طاولة المفاوضات.
والآن، في محاولة لتشويه سمعة خطة العمل المشتركة بشكل مباشر، تخاطر إدارة ترامب بنزع تلك الضمانات الأمنية ووضع إيران مرة أخرى في طريقة تفكير وجودية يمكن أن تدفعها إلى المسار النووي مرة أخرى.
لقد كشفت سلسلة من التسريبات والاعترافات من قبل الرئيس الأمريكى نفسه خلال العام الماضى عن ازدراء ترامب لكل من يحاول ايقاف جدول أعماله المتعلق بإيران واحترامه للمتشددين بشأن سياسة ايران. وكلما ازداد إحباطه بشأن مأزق كوريا الشمالية، كلما زادت الطاقة التي وضعها الرئيس الأمريكي لحشد أنصار محاولة الحد من التدخل في جدول أعماله بشأن إيران.
وكان لشخصيتين رئيسيتين في الشرق الاوسط تأثيرا كبيرا على هذه الأجندة وهما ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو. وفي الواقع يحرص الاثنين جدا على فرصة تشكيل سياسة أميركية أكثر عدوانية تجاه إيران وذلك بأن يقللا من عداءهما لبعضهما البعض ويتعاونان بشكل صريح.
جدير بالذكر أنه سيتعين على قادة إيران الآن تقييم إلى أي مدى ستصل تعاون القوات الثلاثية الأمريكية السعودية الإسرائيلية لاحتواء بلادهم. ولا تزال إيران تستفيد من الدفاع الأوروبي القوي عن خطة العمل الشاملة. ويواجه البيت الابيض خطر مواجهة كبرى مع قوى القارة بسبب محاولة الغاء الإعفاء من العقوبات من جانب واحد وإعادة فرض عقوبات ثانوية على الشركات الأجنبية التي تتعامل مع ايران. وسيكون فرض عقوبات إضافية أمرا صعبا دون الحصول على دعم من الشركاء التجاريين الرئيسيين لإيران.
ومن هذا المنطلق، فعلى الأرجح ستتعامل طهران بحزر خلال الأشهر المقبلة لتجنب انتهاك صارخ لخطة العمل الشاملة وإعادة توجيه الأوروبيين إلى جانب الولايات المتحدة بشأن العقوبات، حتى أن تزايد المنافسة مع واشنطن يشجع السياسيين المتشددين في إيران. وفى الوقت نفسه سوف تبحث طهران عن سبل لتعزيز علاقاتها المزدهرة مع روسيا لتتناسب قوتها مع قوى التحالف الامريكى السعودى الاسرائيلى.
وحتى لو نجح إطار عمل خطة العمل المشتركة، رغم مشقته، فستكون إيران في حالة تأهب لواجهة أية جهود عدوانية أخرى تدعمها الولايات المتحدة لزعزعة استقرار نظامها السياسي. وعلى كل حال، إذا كانت الولايات المتحدة وإسرائيل والمملكة العربية السعودية تعتقد أن الاتفاق النووي معيب في الأساس وأنه يجب أن يجبروا طهران على العودة إلى طاولة المفاوضات، سيحتاجون إلى إيجاد سبل لتهديد استمرار بقاء الحكومة الإيرانية بشكل موثوق. وستنتبه إيران من مجموعة من التهديدات بداية من حملة عسكرية مدبرة ضد ميليشياتها اللبنانية، حزب الله، الى هجوم إلكتروني على بنيتها التحتية الحيوية لتخفيف الجهود الرامية الى زرع الفتنة في الجمهورية الإسلامية.
وحتى لو كانت الولايات المتحدة يمكنها أن تجبر إيران على إعادة التفاوض بشأن الاتفاق النووي، فسمعة واشنطن في احترام هذا النوع من الميثاق مسألة عميقة بالفعل. إن الاتفاق على التخلي عن السعي إلى امتلاك الأسلحة النووية لم ينقذ الزعيم الليبي معمر القذافي، كما تعرف بيونغ يانغ وطهران.
يذكر أن قلب خطة العمل المشتركة سيضاعف من التحديات التي تواجهها الولايات المتحدة في إيجاد حلول دبلوماسية للمشاكل النووية. وعلاوة على ذلك، فوجود كوريا شمالية مسلحة نوويا لن يؤدي سوى إلى تعقيد الأمور. وفى حالة إقناع الولايات المتحدة لإيران بالنهاية الوشيكة لاتفاقية السلام المشتركة، فقد يكون لدى بيونج يانج عميلا يراغب فى التعامل مع طهران.
نعمة المسافة
إن موقف ترامب الأكثر حزما تجاه إيران لا يعتبر أمرا شاذا في السياسة الخارجية الأمريكية. ومنذ بدء تنفيذ خطة العمل الشاملة، وهي الحدث الهام الذي يمكن القول أنه ضروري للحد من خطر الصراع العسكري في الخليج الفارسي وتجميد البرنامج النووي الإيراني، فإن الانتعاش الاقتصادي في الجمهورية الإسلامية وإعادة الانخراط مع الغرب هدد بإخلال التوازن من القوى في الشرق الأوسط. إن إيران، الحرة من أغلال العقوبات، فجأة أصبح لديها المزيد من الطاقة والموارد لإعادة استخدامها في معاركها بالوكالة في المنطقة، وذلك على حساب القوى السنية.
وكانت الولايات المتحدة بدورها ملزمة بتعزيز دعم حلفائها السنيين والبحث عن طرق جديدة لاحتواء إيران، بغض النظر عمن يباشر السياسية في البيت الأبيض.
ومع ذلك، هناك شيء يمكن أن يعتبر تصحيح مفرط في وضع السياسات. إن رغبة ترامب في تأييد الخطة السعودية لتحجيم إيران تجعله بعيدا عن معاصريه السياسيين وأسلافه. وإلى جانب محاولة تشويه سمعة خطة العمل المشتركة، دعمت الإدارة الأمريكية حملات الرياض قصيرة النظر لعزل قطر ومحاولة فرض أجندة السعودية على الحكومة اللبنانية. إن هذه التحركات، التي يفتقد جميعها إلى الدقة، تشير أحيانا إلى وجود أيديولوجية بنيت لاستهداف إيران بأي ثمن.
لكن الولايات المتحدة ليس عليها أن تتحمل عبء النظريات البالية التاريخية والقرون من العداء التي تقود المنافسة في الشرق الأوسط. إنها تمتلك رفاهية المسافة، والتي من خلالها يمكن التلاعب في ميزان القوى إن أرادت. وبعبارة أخرى، في حين ترى إسرائيل والمملكة العربية السعودية أن إيران تشكل تهديدا وجوديا، قد لا ينطبق ذلك على الولايات المتحدة.
إن إزاحتها من الموقف تعطي واشنطن المجال لإدارة إيران من خلال سياسة أكثر حزما تعتمد على الاحتواء الاستراتيجي الذي لا يصل لخطر تغيير النظام، وبالتالي تبقي البلاد بعيدة عن الاضطرار إلى اللجوء إلى تدابير أكثر تطرفا. وهنا يكمن الفرق بين صنع السياسات الاستراتيجية والأيديولوجية. وبما أن لغز كوريا الشمالية يزيد من عمر الردع النووي، فهذا الفرق سيكون أكثر أهمية.