الأكراد، كلمةٌ تحمل في طياتها أزمانًا مديدة وأحداثًا جِسام، تشخُب دمًا بقدر الذين سقطوا في سبيل إبقائها وعملوا على إقامتها، راودتهم فينة بعد أُخرى حُلم الدولة، والتي كانت سريعًا ما تتبدد وتلقى ذات المصير، ولكننا في معرض تقريرنا هذا لا نبحث في شأن قضية الأكراد وتاريخهم قاصدين بهذا تاريخهم مع الجانب الإيراني -والذي سنتناوله في مبحث آخر-.
لكننا نتناول قضية فشل الأكراد الأخير، وضياع حُلم الدولة والاستقلال للمرة الثامنة. والذي يحمل علاقة مباشرةً مع إيران التي كانت طُرة وفصل مقال القضية الكُردية ولم تُؤثِر فيها الدول المُجاورة كتركيا، ولا حتى العراق نفسها، بقدر تأثير الجمهورية الإيرانية التي خرجت من هذه المعركة مُنتصرة انتصارًا ساحقًا دون أن تُهراق مِحجمة دم.
لماذا استدعيناها؟
قد يتساءل الكثير من القُراء عن السبب الرئيس حول إعادة البحث والاستقصاء في قضية اغتيال حُلم الدولة الكُردية المُستقلة على يد إيران وقد طُوَّت صفحاتها منذ ما يزيد على الشهر.
في 21 نوفمبر الماضي، أفردت مجلة الفورين بوليسي تقريرًا مُعنوَن “طهران تفوز بحرب السيطرة على الشرق الأوسط”، والذي كان يتناول انتصار الجمهورية الإيرانية في السياسة الخارجية وقُوة النُفُوذ على الملكية السعودية في جبهاتٍ عدة، وكُبِّدت فيها السعودية خسائر مادية ودبلوماسية لا تُقدَّر، وأن لإيران يد طولى في صراعات الشرق الأوسط رغم الصعوبات التي حاقت بها، وكانت تصب في صالح السعوية عوامل عِدة للنجاح ولكن المملكة لم تستغلها بسبب الفشل المتوالي لقياداتها كما يصف التقرير، وأن هذا هو الذي يدفع بمحمد بن سلمان مُجددًا في غارةٍ تلو أُخرى على إيران أو مُواليها في المنطقة وإن وصل الأمر إلى إشعال حربٍ جديدة، فرمزية خطوات المملكة السعودية تقابلها منهجية واقعية لإيران.
من ضمن جبهات الصراع التي كانت بين السعودية وإيران، الجبهة العراقية، والتي كان من الواضح أن إيران تتفوق فيها وبقُوة ودون منافس، فإيران تتمتع بأسبقيةٍ سياسية في بغداد.
وحزب الدعوة الإسلامي الحاكم هو مؤيد معروف لإيران، تُسيطر منظمة بدر الشيعية على وزارة الداخلية العراقية، وتبسط إيران بأيديولوچيتها المذهبية والعسكرية على قوات الجيش العراقي والمؤسسات الحكومية، وقد كان الملوك من بني عبد العزيز يبتعدون بسياستهم الدبلوماسية ومنهجهم عن العراق لأنهم يعلمون أنها موطن وامتداد لإيران، لكن هذا لم يكُن ينال من قلب محمد بن سلمان موطنًا فأراد العودة إلى العراق.
وقد زار رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، الرياض في أواخر شهر أكتوبر الماضي لتأسيس المجلس التنسيقي السعودي-العراقي الجديد للمرة الأولى منذ أكثر من ربع قرن، وذكر تقرير البوليسي، أن السعوديين ليس لديهم استعداد لتقديم مزيد من الدعم المالي لأولئك الحلفاء السياسيين المحتملين، فعادت السعودية القهقرى.
رمادٌ بعد نار
تراجع مسعود بارزاني القهقرى عقب صراعٍ طال لعدة أشهُر قاده هُو مُأجَّجًا شُعور القومية ونداء الحُصول على دولةٍ مستقلةٍ ذات سيادة، فعقب استفتاء 25 سبتمبر مباشرةً، والذي أراده بارزاني أتت ثمار حرثه نجيعًا. فقد فرضت الحكومة في بغداد، بدعمٍ من واشنطن وأنقرة وطهران حظرًا جويًا وبحريًا على الإقليم، قبل أن تُطلق حملة عسكرية سريعة للسيطرة على كركوك. وفي غضون ساعات كانت القوات العراقية مدعومة بالحشد الشعبي قد نجحت في السيطرة على مطار المدينة العسكري، وقاعدة «K1» العسكرية، وعدة حقول نفطية إن لم تكن كافتها بعد أن انسحبت قوات البيشمركة الكردية من المدينة دون قتال يُذكر.
ثم استُتبع هذا بتنازل نهائي، فقد اضطرّ بارزاني أن يقبل صفقةً تبناها الاتحاد الوطني الكردستاني برعايةٍ مباشرةٍ من إيران قادها قائد الحرس الثوري قاسم سُليماني، هذه الصفقة كانت بمثابة شهادة وفاة الحُلم الكردستاني، هذا الاستفتاء الذي انتهى بأغلبيةٍ ساحقة تُؤيِّدالانفصال وأُقيِمت الاحتفالات وأُنشِدت الأهازيج في موجةٍ تفاؤليةٍ واسعة، فلم يكن هؤلاء يعلمون أن تجزر موجتهم بعد هذا المد الواسع.
هذا التراجُع أجبر مسعود بارزاني على تقسيم سلطاته بين القضاء والبرلمان والحكومة، وترك سُدة حُكم الإقليم، والتبكير بانتخابت رئاسية، وإنهاء الحُلم الذي عمل على تشييده هو منذ 26 عام وحلم الأكراد أنفسهم منذ ما يزيد عن 15 عام، عبر مُغامرة مجهولة العواقب وغير مدروسة الخُطى، كما يذكر تقرير دويتشه فيله.
وهّد هذا التراجُع أيضًا، انحسار جغرافية الإقليم، عندما أصبحت كركوك النفطية في يد القوات العراقية وخرجت من يد البيشمركة الذين سيطروا عليها منذ 2014، وارتد الإقليم على عقبيه ليعودَ مجددًا إلى الخط الذي تم تحديده في العام 2003، بل أكثر من ذلك إلى الخطوط التي رُسمت عام 1991 إبان التمرد الكردي على نظام صدام حسين، ويخسر الإقليم كافة الأراضي التي زِيد عليها في فترة سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية على مساحاتٍ شاسعة من أراضي العراق.
بالإضافة إلى ضياع حجم الاستحقاقات والامتيازات السياسية التي شيدها الأكراد على طول تاريخهم وخسارة مخزون التعاطف والمظلومية الذي كان ما يُعوِّل عليه الأكراد دومًا في قضيتهم، وتبديد أواصر الاتحاد والترابُط بين الأكراد بعضهم البعض وحدوث شُقة واسعة بعد أن قلب الطالبانيون الطاولة على رأس مسعود بارزاني .
لكن لماذا من الأصل تُعارِض إيران انفصال الأكراد؟
سِياج إيراني أمام استقلال الأكراد
المجتمع الإيراني هو مجموعة قوميات مُختلَطة أشهرها الفرس والأتراك الأذريون والقاجار والعرب والأكراد واللور والسيستانيون والبلوش والتركمان والغيلك والمازندرانيون، وهذا هو مكمن الخطورة فنزعة الأكراد ومطالبتهم بفكرة الدولة قد تُألِب هذه القوميات وتثيرهم وتُطمعهم برغبة الانفصال.
سببٌ آخر، وهو أن الأكراد يعتبرون في المجتمع الإيراني قوميةٌ إيرانية أصيلة، ورغم عِلم الجمهورية أن أكرادها هم آخر فئات الكُرد عامةً مُطالبةً بإقامة دولة مستقلة، ولكنها تتوجس بشدة من الانفصاليين الأكراد الذين من الممكن أن يُثيروا نوازع ومكامن الاستقلال في نفوس مختلف تصنيفات الأكراد، وبالتالي يهددون استقرارها كدولة لاسيما أن الكُرد الإيرانيين منتشرون على طول البلاد.
كما أن إيران تستشعر بقُوة أن دولة كردستان الفتية ستُصبِح بؤرة يتدافع إليها أعداؤها ومُناوئوها ليتوطنوا بها ويُشكِّلون خطرًا دائمًا على حدودها، وهذا ما تراه إيران عبر قولها أن هناك نفوذٌ إسرائيلي وسعودي في كردستان، وهذا الذي تعتبره إيران أهم الأخطار التي تواجه أمنها القومي، حيث إن إيران واجهت عدة حملات وصفتها بالإرهابية، وأكدت أنها كانت جميعها منطلقة من كردستان العراق.
وفي تقرير مدوّن على منتدى فكرة التابع لمعهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، أُضيِف سببٌ آخر، وهو أن دولة كردستان هذه كانت ستقطع الطريق على إيران الذي يمُرّ ببغداد ودمشق وبيروت حيث مناطق نفوذها المتوطد، والذي يُسمَّى “الهلال الشيعي”، وهو التعبير الذي استُخدم للمرّة الأولى في العام 2004 من قِبَل ملك الأردن، عبدالله الثاني، وقد عبّر فيها عن خوفه إزاء التوسّع الإيراني في الشرق الأوسط، ورغم أهمية هذا الممرّ لإيران من الناحية السياسية، والعقدية المذهبية، فهو فرصةٌ اقتصادية عُظمى لإيران للتفُلت من العقوبات الاقتصادية الرازحة أسفلها، وإقامة وصناعة فُرص اقتصادية تُذيِب خزانتها المتجمدة.
الصفعة
كانت إيران دومًا ما تأمل تراجُع كُردستان عن قرار الاستقلال الذي حذرتهم منه مرارًا وتكرارًا، وكان هذا الأمل المشوب بالحذر هو إنذارٌ إيراني من غضب الحليم ألا يُؤجَّج، وبدأت هذه المسيرة عبر اعتراض إيران الرسمي على الاستقلال الكُردي ورفضها إياه أو القُبُول به شريطة عدم الاستقلال عن العراق.
لكن استبدت ببارزاني نشوة الانتصار وأغراه انتصار الاستفتاء للمُضي قُدمًا في إعلان نتائجه من جانب أُحادي، وأراد أن يُلبِس حاكميته على الإقليم بإزارٍ شرعي بعد فترةٍ من الحُكم بالأمر الواقع امتدت أربع سنوات، وقُبيل هذه الفترة في الإقليم كان الربيع العربي يزور نسيمه الإقليم فثار الشباب على الأحزاب والحكم والفساد في كردستان ولكن ظهور تنظيم الدولة الإسلامية قلب الطاولة لصالح بارزاني مُجددًا.
واستمر بارزاني وأعلن نتائج الاستقلال، فأعلنت إيران ثاني الخطوات فعلًا، عندما زار رئيس أركان القوات المسلحة الإيرانية تركيا -وهو أول سفر خارجي لرئيس أركان القوات المسلحة الإيرانية بعد الثورة- كي يجتمع بنظيره التركي، وقد بحثا إجراء عملية عسكرية مشتركة ضد إقليم كردستان إذا ما قام بإعلان الاستقلال. وهذا ما نستطيع أن نُسمّيه ما عُنوِن به أحد تقارير منصة ميدان “خطيئة برزاني الكُبرى…هل خسر الأكراد كل شيء“، فبدّدت إيران حُلم بارزاني وكُردُه وقررت أن تُوجِه صفعةً تُردِي الأحلام الكُردية في هُوةٍ سحيقة، وهذا ما عُرِف بنكسة كركوك.
نكسة كركوك
حينما أصبحت كركوك -خامس كُبريات مدن العراق، والتي يُشبهها البعض بـــ “القدس” نظرًا لقُدسيتها لدى الأكراد وحجم النزاعات التي أُقيمت حولها-، في قبضة قوات البيشمركة الفتية -والتي ارتفعت أسهمها بصورةٍ كبيرة في أرجاء العراق بعد التصدي الذي أبرزته أمام مُقاتِلو تنظيم الدولة الإسلامية -عبر غطاء جوي أمريكي بالطبع- منذ عام 2014-، وهذا بالتوازي مع حكم مسعود بارزاني وإصراراه على المُضي بنتائج الاستفتاء وبسفينة الكُرد في عباب بحر الرفض الدولي، اضطرت الحكومة في بغداد أن تُصعِّد لهجتها وفعلها تجاه الأكراد في مناطقهم.
فما لبثت قوات حيدر العبادي أن انتهت من الحرب في كُبريات مدن العراق مع تنظيم الدولة الإسلامية حتى وُجِّهت بأمرٍ نهائي أن تولي قبلتها شطر كركوك، وبالطبع كان الاعتقاد السائد حينها أننا سنرى صِراعًا واقتتالًا دمويًا بين حلفاء الأمس وأعداء اليوم، ولكن إذ بنا نستيقظ على مدينةٍ كاملة مُسلَّمة بالكُلية لقوات الحكومة الاتحادية في بغداد وتقع المدينة الكُردية وآبارها الغنية بالنفط بعيدًا عن مرمى الأكراد، فماذا حدث ؟.
إنه العقاب السريع الذي أنزلته إيران بقُوةٍ باطشة وسرعةٍ خاطفة على رؤوس بارزاني ومن معه وعلى الأكراد أنفسهم، مفاد هذا العقاب، هو الذي أدرجه تقرير الفورين بوليسي، فتمكنت إيران من استخدام اتصالاتها طويلة الأمد بأسرة طالباني، ومنافسة طالباني وأنصاره مع بارزاني وأنصاره أيضًا، لإجبار قوات البيشمركة الموالية لطالباني على الانسحاب من كركوك في تشرين الأول / أكتوبر، مما مهد الطريق أمام حليفتها الحكومة الاتحادية في بغداد في الاستيلاء على كركوك.
القضية تكمن في أن كُردستان نفسها منقسمة على نفسها كأي جماعة إثنية، ويتسيدها حزبان كبيران تابعان لرجلين من عماليق السياسة العراقية وبالأخص الكردية، حزب الاتحاد الوطني الكردستاني التابع لجلال طالباني، والحزب الوطني الديمقراطي التابع لبارزاني. ولسوء حظ بارزاني.
فقد كانت قوات البيشمركة التي كانت تسيطر على كركوك من أبناء مدينة السُليمانية -موطن ومعقل جلال طالباني ومؤيديه- أي أبناء الاتحاد الوطني الكردستاني الذي تملك إيران معه علاقات وأواصر مُطوّلة مُمتّنة وشديدة، والذين أيضًا يحملون كثيرًا من الغُصاصة ضد نُظرائهم البارزانيين، فوجهت قيادة الحرس الثوري الإيراني قوات البيشمركة بترك كركوك خالية على عروشها لصالح الجيش العراقي، ولو كانت تلك القوات من دهوك وأربيل التابعتين لبارزاني لكان قد تغير الوضع القائم.
تلك العلاقات هي التي أنهت الحُلم الكُردي، وجعلت الطالبانيين ينقلبون على البارزانيين. ويُحمِّل الأكراد وأحزاب المعارضة كحركة كوران الكردية الجانب الإيراني كثيرًا من سبب ضياع فكرة الدولة الثامنة وأنها هي التي أجهضت الحُلم عبر تدخلها الدائم في شؤون العراق كلها وكذلك كردستان، وأن المؤامرة التي بُيِّتت بليلٍ هي من صنيعة يديها.
إيران لا تنفك من إرسال رسالة تِلو الأُخرى إلى دول العالم وفي القلب منها دول منطقة الشرق الأوسط وفي السُويداء هي رسالة للسُعودية، لتُبرِز عضلاتها وقُوتها التي لم تُصبح حدود جمهوريتها تسعها فما فتأت أن انطلقت لدمشق، وبغداد، وبيروت، وصنعاء، فلم تُصبِح المنطقة كما كانت من قبل.
ودولة الأكراد الواهية خير دليل، فقد هدمت المعبد على رؤوس ساكنيه كما فعلت مع جمهورية مهاباد الكُردية -أسّسها مصطفى بارزاني والد مسعود- والتي أُقيمت في غربها عام 1946 والتي لم تستمر إلا أحد عشر شهر ومزقتها إيران، وكما فعلت أيضًا معهم عام 1975 وتخلت عن مساندة قضيتهم كي يرتدع الأكراد وألا يُفكروا مُجددًا بإقامة الدولة التاسعة وهم في فرّط القوة هذه.