لأن المسرح لا يحتاج مثل بقية الفنون الحديثة كالسينما والتصوير إلى آلات متطورة، فقد نشأ طفلًا مع وعي الإنسان بنفسه، فالبشرية تحتاج بشكل كبير إلى التعبير عن ذواتها، وفي إيران فإنه بجانب التعبير تبقى الأهمية التعليمية التي بدأ بها المسرح، بل إنه كان ضمن الطقوس الدينية التي يتم أدائها في الفترات التاريخية القديمة، ليلحق بالتطور رغم تلقيه للعثرات، إلا أنه ما يعود ويقوم ليثبت أنه ما يزل قادرًا على المواجهة.
تاريخ البدء
تعد من أقدم الآثار التي تبين قدم المسرح في التاريخ، هي قطعة الفخار التي يعود تاريخها إلى الألفية الثانية قبل الميلاد، نقش عليها صورة لشخصين يقومان بتأدية الرقص الجماعي وعلى وجههما قناع بشكل ماعز جبلي، حيث كانت العروض التمثيلية ضمن الرقصات كجزء من الطقوس الدينية قديمًا.
كما كان يتم تأدية رقصات تمثيلية حول النار، إلى جانب مرافقة الممثلين للجيوش أثناء حربهم للترفيه عنهم، كما انتشرت في المجتمع الإيراني القديم سرد القصص التي كان يحكيها الراوة، ولإضافة عنصر التشويق كانوا يقومون بحركات مسرحية، وهو ما كانت إرهاصات لظهور المشرح بشكله الحديث.
أما العروض المسرحية فلم تكن في البداية تقام على خشبة المسرح بل كانت تقام في الساحات العامة، وتؤكد الحفريات الأثرية وجود مسارح في همدان وكرمان من القرن الرابع قبل الميلاد، قام باستخدامها عدد من الممثلين الذين رافقوا الإسكندر المقدوني، في تقديم الاحتفالات و العروض المسرحية.
العصر الإسلامي
عندما دخل الإسلام إيران فقد تم منع المسرح، وهو ما تسبب في توقف هذا الفن إلى القرن الرابع الهجري، ثم نهض بعد ترجمة المسرحيات في إيران، إضافة إلى تقديم الفارابي وابن سينا بتعريف ملخص عن المسرح اليوناني بشكل نظري، عن طريق ترجمة كتاب “بوطيقا” لأرسطو وشرحه، إضافة إلى تشجيع ملوك ذلك الزمن على كتابة مسرحيات خاصة، وكانت كثير من المسرحيات البسيطة تقام في المقاهي ويغلب عليها جانب التقليد للناس من مختلف الطبقات.
كما ظهرت تأثيرات خارجية لهذا النوع الأدبي، حيث ساهم بعض الوافدين للإيران في تطور المسرح مثل الغجر واليهود، بل كان أكثر الراقصين في هذه المسرحيات منهم، حيث لم تستطع اتجتذاب فنانين إيرانيين في هذا الوقت، أما بخصوص المسرح الإيراني فقد برز فيه السود بشكل خاص، خاصة أنه في ذلك الوقت كان هناك تبادل تجاري كبير بين إيران وبين سواحل إفريقيا.
تطور المسرح وبدأ يلاقي كثير من الاهتمام من جانب الطبقات العليا خاصة في العهد الصفوي، كما شهد هذا العصر بداية ظهور الفنانات في العروض المسرحية بعد أن كانت مقتصرة على الرجال فقط، وتطور الأمر في العصر القاجاري حيث تكونت فرق نسائية مسرحية قدمت عروضها في المجالس النسائية والرجالية أيضًا.
وفي عهد الملك آقا محمد خان القاجار كانت “طهران” هي مركز الفنون المسرحية، وكانت أهم فرقة مسرحية ظهرت في هذا الوقت هي فرقة “مؤيد” التي أنشأها أحمد مؤيد رجل الأعمال الذي أحب المسرح، وقرر تأسيس فرقة مسرحية.
المسرح الحديث
خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر برزت الحركة المسرحية الجديدة داخل إيران التي اتخذت شكلًا أكثر وضوحًا يماثل المسرح الحالي، وكانت لهذه النقلة عدة أسبابا أبرزها استقدام الممثلين الأجانب من الخارج الذين ساهموا في نقل خبرتهم للمسرح المحلي، إلى جانب استمرار حركة الترجمة، كما ساهمت الصحافة بما فيها من المقالات النقدية، والإشارة لدور العرض، والحديث عن المسرح الأوروربي، بشكل كبير في تطور ذلك الفن، بل ظهرت أول مجلة مختصة بأخبار المسرح وحده حملت اسم “تياتر”.
وكان أول من ألف مسرحية إيرانية على النمط الأوروبي ولكن بروح إيرانية هو السيد “ميرزا فتح علي آخوند زاده” في النصف الأول من القرن التاسع عشر الميلادي، كما مارس النقد أيضًا ليصبح أول ناقد إيراني مسرحي، ومن أهم أعماله المسرحية “حكاية يوسف شاه، النجوم المخدوعة.
كما تم ترجمة العديد من المسرحيات الأجنبية وعرضها على مسارح إيران، وهو ما كان له أكبر أثر في التعرف على الثقافة الأوروبية أيضًا، واشتهر مسرحيات “موليير” بشكل كبير داخل إيران، خاصة لأنها كانت تحمل الكثير من الانتقادات الأخلاقية والمجتمعية، فقد كانت الأنسب للروح الإيرانية، التي تريد تغيير الواقع، وتحسينه، وكانت اللغة الفرنسية في ذلك الوقت منتشرة بكثيرة في إيران، أما أكبر مترجم فرنسي في ذلك الوقت فقد كان “علي أكبر خان”.
دور المرأة في المسرح
ظل تهميش المرأة في المسرح لعقود طويلة، إلى حين عهد الأسرة الفهلوية في إيران والذي بدأ منذ عام 1921م حيث عادت المرأة لتأدية العروض المسرحية بعد فترة من التهميش، عادت المرأة لتتمكن من حضور المسرحيات، كما حازت على دور أكبر في الإخراج والكتابة المسحرية، وليس في الأداء فقط، وأول امرأة كتبت مسرحية هي صديقة دولت آبادي، أما أول امرأة ظهرت على خشبة المسرح فهي ملوك حسيني.
كما تطور المسرح في هذا الوقت بشكل كبير، فلم يعد قاصرًا على التقليد بل شهد حالة من التجديد، وظهر العديد من الكتاب المرموقين، الذين أثروا هذا الفن بكتاباتهم.
الثورة الإسلامية
عاني المسرح بعد الثورة الإسلامية من بعض التخطبات نظرًا لدخول مرحلة جديدة من هذا المجتمع، ولكنه ما لبث أن ثبت قدميه ولكنه صار مقتصرًا على انتقادات الواقع الاجتماعية والمشاكل اليومية إلى جانب المسرحيات التاريخية، كما تميزت المسرحيات بالجانب الكوميدي، والساخر في الوقت نفسه.
وبرغم عدم وجود كثير من المسرحيات التي تركز على المضامين السياسية المباشرة التي تنتقد الأوضاع واقتصارها على المساندة للأفكار حينها، إلا أن الافت هو ظهور كثير من الأعمال المعبرة عن الروح الإيرانية نفسها في الجاوانب الإنسانية، كما تحولت اللغة لتصبح بسيطة وأكثر لحمة بالجماهير بعدما كانت تقدم للطبقات الأرستقراطية، إلى وجود عديد من المهرجانات السنوية التي صارت ترعى المسرح، كما ظهرت مسرحيات الشارع.
غير أنه في الوقت نفسه ظهرت حركات تطالب بإلغاء المسرحيات من جانب من وصفوا نفسهم باسم “الشباب المسلم” وإن كان ذلك تم بالتوازي في نفس الوقت التي ظهرت فيه مؤسسات ترعى ذلك الفن.
حرب العراق
أما في فترة حرب العراق مع إيران، فقد استخدم المسرح من أجل الترويج لمشاعر الوظنية، والتأكيد على روح التضحية والفداء، وهو ما جعل كثير من المسرحيين يستلهموا روح البطولة والأسطورة الإيرانية لإلباسها ثوبها الحداثي، ومع نهاية الحرب، شهد المسرح حالة من الركود نظرًا لعدم رغبة أحد بعد ما شهدته البلاد من أحداث قاسية، وهو ما جعل المسرحيين يحاول استلهام التراث الإيراني والتعبير بشكل أكبر عن الروح الإيرانية من أجل أن تصبح تلك الموضوعات قريبة بما يكفي لإعادة جلب الجماهير من جديد.
كما أقيمت الروش المسرحية من جانب الحكومة، إلى جانب الحلقات النقاشية، وهو ما أعاد للمسرح رونقه بعض الشىء إذ عاد اهتمام الشباب بالمسرح، وظهر ذلك من خلال المسرحيات الأدبية التي تكتب من أجل أن يشتريها الجمهور.
المسرح الراهن
مع انتخاب محمد خاتمي لرئاسة الجمهورية في إيران، وقد بدأت لمسرحيات في الاتجاه إلى القصص الواقعية، كما غلب عليها النظرة العاطفية، وزاد خلال هذا الوقت إنشاء قاعات المسرح، إلا أن مع انتخاب محمودي أحمدي نجاد رئاسة الجمهورية عام 2005 واجه المسرح كثيرًا من الضغوط نظرًا لتضييق الخناق عليه، إلى جانب عدم الاهتمام به، وهو ما تسبب في إهمال وهجر كثير من دور المسرح، بالإضافة إلى تراجع ملحوظ في الكتابة المسرحية، بالإضافة لقلة الإمكانيات، وشكوى كل العاملين في هذا المجال، الذي صار مهجورًا شيئًا فشيئًا.
أما في الوقت الحالي فإن المسرح ما يزل يواجه بعض الأزمات، إلا أنه يظل قادرًا على إبهارنا بين الحينة والأخرى.