برغم الاصطلاح المتداول الذي يجعل الأدب الساخر قريبًا من الكوميديا والإضحاك، وهو الأمر المرتبط به بالفعل، إلا أنه ظل دائمًا قريبًا من السياسة أيضًا، يستخدم لكي يصبح أداة مقاومة، وأحيانًا يضعف لقوة سيطرة الدولة فيقل استخدامه أحيانًا خوفًا من بطش الحكام، ولكنه رغمًا عن ذلك يبدو الأداة الأكثر استخدامًا على مر العصور، للتعبير عن دور الأدب الحقيقي في صناعة وعي الشعوب.
ما قبل الإسلام
كان للأدب الساخر في إيران وجودًا متأصلًا في عصر ما قبل الإسلام، حتى وإن لم يكن هناك تقعيدًا واضحًا لهذا النوع الأدبي، ولكن نبرة السخرية كانت واضحة في كثير من هذه الأعمال، مثل “الشجرة الآثورية، ذكرى زريران، وأناشيد زرادشت في كتاب افيستا قسم گاتها”، نجد ظهور أشكالًا معينة من السخرية، التي لم تكن ذات اتجاه واضح وصريح.
العصر الإسلامي
في عصر التقليد والثورة على التقليد ظهر تأثير المغول على الأدب الفارسي، إلا أن الروح الإسلامية بقيت ظاهره في الأعمال، وتميز في هذا الوقت كثير من الشعراء، والذين كان منهم الشاعر الشاعر الساخر عبيد الزاكاني وهو شاعر من بنى خفاجة الساكنين في قزوين، اشتهر بسبب نقده للأحوال السياسية والاجتماعية بطريقة ساخرة لاذعة، وكان أبرز ما كتبه هو “الفأر والقط”، وهي حكاية تمثيلية تصور الوضع الاجتماعي في عصره، كذلك كتب أعمال أخرى أبرزها “أخلاق الأشراف، مائة موعظة، رسالة الإنشراح، رساله تعريفات.
أما في النصف الأول من القرن الرابع عشر الهجري مع الثورة الدستورية، فقد ظهرت حركات مطالبة بالإصلاح، تنوعت ما بين حركات إسلامية، أو حركات يسارية، ولأن الأدب جزء من المجتمع فقد تأثر بكل هذا، بل صار أداة للتعبير عن هذه الرغبة، وهو ما جعل الدكتور “محمد مصدق” يكتب العديد من الأشعار والمقالات، والتي كان من أبرزها “الخزعبلات” وهي مجموعة مقالات ساخرة كتبها لنقد الأوضاع آنذاك.
كذلك برز اسم “صابر طاهر زاده” وهو شاعر وأديب ساخر كبير في بلاد القوقاز كتب بالفارسي، بسبب حبه لإيران، كما برزت في تلك الفترة صحيفة “جرند وبرند” التي أصدرها “علي أكبر دهخدا” والتي تعد من أكبر الجرائد الساخرة في هذا الوقت، ومع بزوغ نجم هذه الجريدة، تسلل الأدب الساخر ليصبح داخل جرائد مختلفة ومتنوعة من خلال المقالات التي تنشر بها أو القصص والمسرحيات، لتتنوع الموضوعات المستخدمة بداخلها ما بين المواقف المسلية، والسخرية الدينية أحيانًا، وكذلك السخرية الاجتماعية.
الحرب العالمية
مع الحرب العالمية الأولى وحتى بدايات عهد سلطنة رضا شاه، كانت كثير من المقالات الساخرة السياسية محط اهتمام الجرائد، غير أن مع اشتداد حكم الشاه، فإن كافة الأقلام قد توقفت خوفًا من العقاب، ليتجه الكتاب إلى الموضوعات الفلسفية والأخلاقية، غير أنه في بداية الحرب العالمية الثانية رفعت الرقابة يدها من جديد عن الصحف، الأمر الذي تسبب في ظهور المقالات السياسية الساخرة، ومع حالة الحرية التي عاشها الكتاب، تخلى كثير منهم أيضًا عن التلميح واتجه للنقد السياسي المباشر، الأمر الذي ترتب عليه سخرية سياسية مباشرة من خلال الكاريكاتير أو الكتابة.
بداية الانطلاق
كانت بداية الانطلاق الحقيقية للأدب الإيراني الساخر مع رواية “رحلة إبراهيم بك” التي كتبها زين العابدين مراغهاي، غير أنه تلى هذه الرواية مجموعة من المحاولات الباهتة الضعيفة، ثم حدثت الوثبة مع محمد علي جمال زادة في مجموعته القصصية “كان يا ما كان” التي تعد أيضًا بداية القصة القصيرة الإيرانية، بجانب تميزها نبرة ساخرة ملحوظة.
إلى جانب التجديد الذي صنعها الكاتب فيها، كما كتب جمال زادة أيضًا “دار المجانين”، والتي اعتبرها المستشرق البولندي المعروف ميلوش بورسكي في مقال له بعنوان “النثر الفارسي منذ 1946 م فما بعد” أنها “الرواية الأكثر طبيعية لجمال زاده، حيث تموج فيها بموازنة جيدة السخرية و المزاح و النقد الاجتماعي و المحبة إلى جانب التواضع للناس المحرومين، و تكرّس لغتها التراجيدية حالة عدم الرضا من الحياة الأفضل التي يتمتع بها المجرمين بالمقارنة إلى سواهم”.
كما ظهر خلال هذا الوقت الكاتب الكبير “صادق هدايت” والذي يعد من أكبر كتاب إيران على الإطلاق، وتميز هدايت بالمسحة الساخرة في أعماله، وهو الأمر الذي جعل حسن كامشاد، يوضح ما يتميز به في كتابه “الأدب المنثور الحديث في إيران فكتب عنه “السخرية من المميزات البارزة لهدايت، لا في آثاره الفكاهية و المازحة فحسب، بل و في آثاره الأخرى أيضاً يمكن تلمّس مسحة ساخرة و حزينة” حيث تتميز سخرية هدايت أنها سخرية ممتزجة بالتراجيديا في الوقت نفسه.
السخرية كجزء من الأدب
مع الوقت لم تعد السخرية تهدف لذاتها، إنما تم استخدامها في بعض أعمال الكتاب الكبار، أو في بعض التقنيات داخل القصص، فنرى الكاتب “برزك علوي” وهو من أشهر الكتاب الإيرانيين أيضًا لم تكن أعماله تتميز بالطابع الساخر، إلا أن ذلك الطابع ظهر في قصتين له هما “الأنيق، خمسة دقائق بعد الثانية عشرة”.
أما “صادق جوبك” الذي ولد عام 1916م فقد تميز أدبه بالتركيز على الأزمات السياسية الطاحنة، ورغم قسوة أعماله، إلا أنه لم يغفل تمامًا الطابع الساخر فقد كانت استخدم كثير من الشخوص الفكاهية الساخرة داخل أعماله، لذايكتب رضا براهني عن لحظات السخرية في قصص چوبك “هذا العالم الحافل بالمصائب، تبدو كل محطة ذات شبه بالمهرج في المسرحيات التراجيدية لشكسبير، و الذي يظهر على الخشبة ليلطف للحظات قصيرة السياق المأساوي للمسرحية، و يفشي فيها شيئاً من المزاح و الضحك. و لكن بعد أن يغادر المهرج خشبة المسرح تعود التراجيديا لتواصل فصولها بإيقاعات أشد”.
وكان آخر جيل من الكتاب الساخرين في هذه الفترة هو “بهرام صادقي” والذي نشر قصصه منذ عام 1958م في مجلة حملت عنوان “سخن” وتتبدى رؤيته الساخرة من خلال وصفه لشخصيات عمله والحوارات المستخدمة فيما بينهم.
كما برزت أسماء لازمعة من الجيل ذاته وهم غلام حسين ساعدي، و أبو القاسم پاينده، و سعيد نفيسي، و إيرج پزشك زاد، و إبراهيم گلستان، و رضا براهني.
الوقت الراهن
في الوقت الراهن خفتت جذوة الأدب الساخر، خاصة مع اشتداد القبضة الأمنية داخل إيران، وهو ما يجعل التعبير بسخرية عن الأوضاع موضع رفض من قبل الحكام، مما قد يعرض صاحب الرأي إلى السجن، وهو الأمر الذي صار يتلافاه كثير من كتاب إيران في العصر الحديث، إلا أننا نلمح بشكل خافت مظاهر ساخرة هنا أو هنالك، بشكل غير مباشر، أو داخل الأوضاع الاجتماعية، لأنه مهما يكون فإن وظيفة الأدب هي نقد الواقع، مهما حدث في ذلك الواقع من صعوبات تحول دون حدوث ذلك.