في مايو الماضي، أثناء الحملة الانتخابية الخاصة بحسن روحاني رئيس الجمهورية الإيرانية في إطار سعيه وراء ولايته الثانية في الحُكم، خاض روحاني صِراعًا وهجومًا شديدين مع نُفُوذ أذرُع مُرشد الثورة الإيرانية علي خامنئي المُمثَّلة في القضاء، وهيئة الإذاعة والتليفزيون، ومُؤسسة “استان قدس رضوي” أكبر مؤسسة وقفية في البلاد.
كان في القلب من كل هؤلاء، قُوة الحرس الثوري الإيراني، ذراع المُرشِد الباطشة التي تخضع بالكامل له، التي هاجمها روحاني بقُوة مُجددًا غاراته عليهم التي بدأها منذ أن كان في فترة ولايته الأولى، ولم تكُن العلاقة مُستتِبة بين الطرفين أو تشهد استقرارًا طويلًا حتى يكون هذا الهجوم القديم الجديد ما يُعكِر ماء النهر. ولكن ما هي أسباب هذا النزاع؟ والهجوم الديمومي من روحاني على أقوى مليشيات منطقة الشرق الأوسط ؟
صِراع روحاني وقُوة الحرس
رأى روحاني أن تطلُعات الحرس الثوري على صعيد التدخُلات الإقليمية في المنطقة، لا سيما سُورية التي يلعب فيها الحرس الثوري دورًا حاسمًا في تحويل موازين القِتال والوُقُوف بجانب النظام الأسدي؛ إما على جانب الجُنُود والضُباط أو على جانب القادة والمُستشارين من أعلى صُفُوف القيادة وزهرتهم والذين تدفع بهم قيادة الحرس في آتون المعركة المُلتهِب.
لا تتوقف أو تنحصر قُوة الحرس داخل إيران بل تشعب وأصبح له أفرُع يُشرِف عليها ماديًا ومعنويًا وحتى تنظيميًا، يُفيِد تقرير البي بي سي عن الحرس الثوري الإيراني، أن رغم قِلة أعداد عناصر حرس الثورة عن قوات الجيش النظامي الإيراني إلا أنه يقف وراء العديد من العمليات العسكرية خارج البلاد، وأن لديه عناصر في العديد من السفارات، لاسيما القاطنة في البُلدان العربية وفي القلب منها بُلدان منطقة الهلال الخصيب؛ فتُنفِذ عمليات استخباراتية وتُقاَم معسكرات تدريبية وتُقدَّم عمليات الدعم للحُلفاء كنظام الأسد، وقوات حزب الله اللبناني، والحوثيون في اليمن.
هذه التدخُلات أضجرت روحاني لا سيما أنها تقف مُسوغًا للتدخل والهجوم الدائمين من قِبل الولايات المُتحدة والغرب على بلاده، وتُمثِل حائلًا ضد انطلاقاته ورغباته في تنفيذ وعوده التنموية التي تُحجِم مِرارًا بسبب أفعالهم.
سببٌ ثاني، وهو برنامج الصواريخ الباليستية والتجارب الصاروخية الذي يعمل الحرس الثوري على تدشينه وتطويره يومًا بعد يوم، ففي مايو الماضي، وفي خِضم الانتخابات الرئاسية والصراع على كرسي الحكم، هاجم روحاني برنامج الصواريخ الباليستية التابع لقُوة الحرس الثوري الإيراني بعد قيامهم بكتابة عبارات مُعادية لإسرائيل على صواريخ كانوا يستخدمونها في إجراء تجارُب واتهمهم بأنهم يسعون وراء تخريب الاتفاق النووي.
سببًا ثالث، التغول الاقتصادي كان منشأ نزاع بين روحاني والحرس، يُسيطِر الحرس على قُرابة 40 % من الاقتصاد الإيراني، ويمتلك شركة عملاقة مُمثلة في “خاتم الأنبياء” والتي يعزو إليها العشرات من المشروعات الدائرة في البلاد وعائداتها أيضًا التي قُدرت بقُرابة 1300 مشروع حكومي ويعمل فيها قرابة 1.5 مواطن إيراني.
ويقول الدكتور كونار چونثون، المختص في الاقتصادات الناشئة، أن القطاع شبه الحكومي يُسيطر على قُرابة 70 % من مُجمل الاقتصاد الإيراني، وأن الحرس الثوري الإيراني يُحصّل ما هو مجموعه 45 – 55 % من إجمالي الناتج القومي الإيراني، أي ما يُقدّر ب 200 مليار دولار، وهي نسبةٌ آخذةٌ في التصاعُد.
التصعيد وصفحةٌ من الماضي
منذ أيام روحاني الأُولى في حُكم الجمهورية الإسلامية لم يرُق له أن يكون ظِلًا لرئيس، ولا أن يكون تحت يد المُرشد، ولا أن يُحقِّق التماهي والمواءمة مع قُوة الحرس الثوري كما فعلها من قبله، الرئيس السابق، أحمدي نجاد.
في 2014، عبرّ روحاني بجُرأةٍ وصراحة للحرس وقادته أن السياسة ليست مكانهم المناسب وعليهم ألا يتدخلوا في السياسة؛ في رغبةٍ منه أن يُبعِدهم أو يُثنيهم عن إفساد مُخططاته الانفتاحية والتوافقية الجديدة مع دول الغرب، وهذا أمرٌ لم يرتضوه كثيرًا، إذ تبين لهم أن مؤسسة الرئاسة لديها رغبة في استقلال القرار.
حتى أن المرشد الإيراني، علي خامنئي، بذاته تدخل لإطفاء نار النِزاع التي كانت تستعر بين روحاني والباسداران -قيادة الحرس الثوري الإيراني- ولكي يقوم بدور الوسيط بينهما في نفس العام، إذ كان روحاني يشرُع في تقليص دور الحرس من ناحية النُفُوذ الاقتصادي والتدخُلات الخارجية وذلك عن طريق تقليص عدد المُناقصات والعُقُود الحكومية الممنوحة لشركات تابعة للحرس الثوري أو عائلات قياداته لا سيما مجمع “خاتامولانبيا” آنذاك.
قي 2016، تمكن روحاني من استخلاص موافقة من مجلس الشورى على قانون لمكافحة تبييض الأموال والإرهاب، وعلى حد ذكر تقرير جريدة المدن، هذا لم يكن كافيًا للحد من سُلطة الحرس على المصارف الإيرانية والبنك المركزي.
صارت بعض المكاسب والانتصارات الصغيرة والمتوسطة التي حققها روحاني في فترة ولايته الأُولى وأكسبته شعبية جيدة ؛دافعًا لوُلُوجه مُجددًا لكرسي الرئاسة لفترةٍ ثانية، استشعر المواطنوان الإيرانيون مدى فساد الحرس الثوري وسيطرته على قطاعاتٍ عدة، وحمَلوه تردي الأوضاع المعيشية والاقتصادية وتبديد موارد إيران وإنفاقها على حُرُوبِ خارجية لا طائل لها، كما تبين لهم أنه أضحى دولة داخل الدولة بعدما ولت الدولة الإيرانية ذاتها -مُمثلةً في رئيسها وحكومتها- قِبلتها شطر الحرس الثوري الإيراني الاقتصادي العملاق ليقوم بحمل تبعات الاقتصاد الذي حُوصِر بفِعل العقوبات منذ عام2005- 2009، فعملت الجماهير على البحث عن واجهة وقُوُة قادرة على مُدافعة الحرس، وهذا ما رأوه قليلًا في روحاني خلال فترة رئاسته الأُولى، وتأكد هذا لهم عندما وعد روحاني أثناء حملته الانتخابية بإطلاق العنان للنمو الاقتصادي باستكمال الاتفاق النووي وتحرير البلاد من العُقُوبات الدولية.
وهذا ذهب بروحاني إلى أن يُصعِّد خطابه ومنهجه كليهما على الحرس الثوري ويفتح النار عليهم في أكثر من جبهة، إذ صرّح أن الحرس الثوري كان المستفيد الرئيسي من عمليات الخصخصة المختلفة، وهُرُوبًا من حجم العقبات والعوائق والخسائر التي مُنِّي بها الاقتصاد الإيراني بدأ الحرس الثوري يبحث عن وجهات جديدة لتنشيط اقتصاده.
بينما كانت عيني روحاني على اقتصاد الحرس الثوري ذاته، فخُفِّضت ميزانيته لاسيما تخفيض ميزانية شركة الحرس البارزة “خاتم الأنبياء” في يوليو الماضي ، وأُسنِدت العديد من المشروعات الحكومية الضخمة كانت حِكرًا على شركات الحرس، حتى أنه قد أُلقِي القبض على العديد من قادته للاشتباه في تورطهم في قضايا فساد.
فألقى جهاز المخابرات بالحرس الثوري ذاته القبض على العديد من مسؤولي الحرس الثوري السابقين للاشتباه فى فسادهم، وأُلقِيَ القبضُ على اثنين من الخبراء الاستراتيجيين في وسائل الإعلام يتبعون الحرس الثوري، وهُمِّشَت شركة “خاتم الأنبياء” في مشروعين رئيسيين للنفط والشحن، لصالح مُقدمي عطاءات من فرنسا وكوريا الجنوبية.
كما ذكرت صحيفة كيهان الحكومية، أنَّه قد أُلقِيَ القبض على شخصيتين إعلاميتين تابعتين للحرس الثوري، وهما رضا غولبور ومحمد حسين رستمي، واُتهما بالتعاون مع المخابرات الإسرائيلية.
في البداية كان رد الحرس الثوري قوي على محاولات روحاني إقصائه من الحياة في إيران، فشن قائد الحرس الثوري الإيراني، محمد علي جعفري، هجومًا عنيفًا على روحاني، مُصرحًا أن حكومته تستسلم أمام الأعداء، وأن قُوة الحرس الثوري تمتلك بنادق وصواريخ أيضًا، وأضاف أن سيطرة الحرس على اقتصاد البلاد لحماية الثورة وفض التبعية الاقتصادية للغرب، وتعزيز القوة العسكرية لمواجهة أطماع القُوى الخارجية. بل وأدان جعفري عدم التزام حكومة روحاني بتعهداتها المالية تجاه قوات الحرس الثوري.
وصرح غلام حسين غيب برور، قائد قوات التعبئة (الباسيچ) التابع للحرس الثوري الإيراني، أن إضعاف الحرس الثوري ذنبٌ لا يُغتفَر، وأشار أن روحاني يقوم عمدًا بإضعاف الحرس الثوري، وأضاف أنه في حين تقوم أعداء مثل الولايات المتحدة بمهاجمة وإهانة الحرس الثوري، يقوم البعض في الداخل باستهدافه أيضًا قاصدًا روحاني.
ولكن عقب فوز روحاني يولايته الثانية، عُقِدَ اجتماعان رفيعا المستوى مع قادة الحرس الثوري. ونتيجةً لذلك، وربما بعد أن أظهر آية الله خامنئي دعمه لروحاني، بدا أن الحرس الثوري سيخضع للقواعد الجديدة، وهذا كما أفاد موقع لبنان 360 في تقريره.
روحاني، لم يكن الرئيس الأول للجمهورية الإيرانية بعد الثورة، الذي حاول الاصطدام بمؤسسة الحرس الثوري الإيراني، فقد قام الرئيس الأسبق، محمد خاتمي، الذي حكم البلاد من 1997- 2005، في أن يفرض قُيود على نموه وهيمنته المفرطة على الحياة الاقتصادية، والحد من تسلط الشركات التابعة له على المناقصات الحكومية.
وتمثلت أبرز معالم الخلاف بين خاتمي والحرس في إلغائه لترخيص شركة نركسل للهاتف الجوال عام 2004، وإلغاء عقد الأمن الخاص بمطار الخميني الدولي، الذي كان يفترض أن يُوقِّع مع شركة تاف التركية عام 2005. وهُما عقدان كانا سيتحصل عليهما الحرس وقد تحصلا فعليًا على العقدين عقب رحيل خاتمي. ولكن أثناء فترة ولايته الثانية اُغتيِل أكثر من 70 شخصًا جُلهم من المُفكرين وكانت هذه ضربة قوية لمسيرته ولنظامه رغم ما نجح خاتمي في تشييده خلال فترة حكمه بتعزيز مكانته داخل المجتمع الإيراني، اُكتشِف فيما بعد أن الاستخبارات الإيرانية التابعة للمرشد هي التي قامت بذلك بالتعاون مع الحرس وكلتيهما مؤسستين تابعتين للمرشد.
أحمدي نجاد، الرئيس السابق الذي حكم البلاد من 2005- 2013، رغم كونه أكثر الرؤساء الذي فتح الباب على مِصراعيه لتوغُل قوات الحرس الثوري الإيراني، ولكنه أثناء فترة ولايته الثانية كذلك، حاول أن يُخضِع الحرس لسُلطة ورقابة الحكومة، لكنه لم ينجح، وبدلًا من ذلك دخل في مواجهة مع المؤسسة الأقوى في إيران، ووجد نفسه في صراع مع البرلمان ومهددًا بالإقصاء.
وبالتالي ستظل فترة روحاني وولايته الثانية بالأخص، مرصودة تحت الأنظار لمعرفة قابلية سُلطة الحرس للخُضوع لمؤسسة الرئاسة أم لا، ويحاول روحاني أن يُجدد إرث سالفيه من الرؤساء في مواجهة عسكريتارية الحرس الثوري وتحقيق عُنصر إضافي وهو النجاح في تلك المواجهة، ومحاولةً منه لتغيير ديناميكيات العلاقة بين مؤسسة الحرس الثوري الإيراني والدولة ككُل.
وهل سيقبل الحرس تحويل ماهية الشخصية التي يخضع لها من المرشد إلى الرئيس؟، وهل سيُجدد غاراته التحذيرية والتي فعلها من قبل مع خاتمي ونجاد عندما حاولا الاقتراب منهما؟
وهذا سيكون تحديده فترة الولاية الثانية لروحاني، التي يظهر فيها تحقيقه النجاح حتى الآن في عددٍ من جولاتها.