مثّلت إيران “غُصةً في حُلقٌوم” النظام العالمي منذ بداية الإعلان عن برنامِجها النووي عام 2002 وشُرُوعها في امتلاك طاقة نووية ما قدّ يُؤهِّلها لامتلاك سِلاح نووي مما سيُغيِّر خريطة توازانات السياسة والتسليح على الساحة العالمية لا سيما في منطقة الشرق الأوسط.
وبدأت “مسيرة التفاوُضات والعُقُوبات”، من تقرير الوكالة الدولية للطاقة الذرية عام 2005 والذي نصّ على عدم تمكُن الوكالة من التأكُد من صِحة ادعاءات إيران بعدم انتوائها تخصيب اليورانيوم لتصنيع قُنبُلة نووية، لتنهال العقوبات على إيران من كُل حدبٍ وصوب، ففرض مجلس الأمن حُزمة عُقوبات في 2006، و2007، و2008، و2010 تقتضي تجميد أُصول شركات ومُؤسسات وأفراد، وحظر الاتجار في مواد لها استخدامات مدنية وعسكرية، وحظر مبيعات أسلحة.
وعُقُوبات الولايات المُتحدة الأمريكية في 2007، و2010، ثُم يشهد عام 2011 السنة الأكبر في عُقُوبات أمريكا على إيران، وتشهد العُقُوبات إجراءات ضد قِطاعي الطاقة والمصارف الإيرانيين والشركات الأجنبية العاملة معها، وعُقُوبات ضد الحرس الثوري الإيراني، و2013 ضد قطاعي السيارات والعُملة الإيرانيين.
وتُستكمَل العُقوبات بإجراءات الاتحاد الأُوروبي بحُزمة في 2007. و2010، و2011، و2012 طالت عُقُود الاستيراد والتصدير مع قطاع الطاقة الإيراني وحظر بيع الأسلحة وتجميد أُصُول أموال وأقراض وحظر الاتجار في الذهب والمعادن مع إيران.
جراء هذا الحِصار الذي شمل قِطاعات الطاقة والمصارف والتسليح وأُخرى داخل الجمهورية الإسلامية، بدت إيران أكثر استعدادًا وتهيُؤًا لتقبُل التضحية بالبرنامج النووي وتنفيذ مطالب القُوى العالمية.
في الرابع والعشرين من نوفمبر عام 2013 في چينيڤ، وافقت إيران على اتفاقية مؤقتة مع الاتحاد الأوروبي ودول ما يُعرف بمجموعة 5 + 1، تقضي التزام إيران بخفض أنشطتها في تخصيب اليورانيوم، وعدم تنشيط مفاعل “آراك”.
في مقابل التزام الاتحاد الأوروبي ودول مجموعة 5 + 1 برفع العقوبات التي يقدرها البيت الأبيض تأثيرها بما يتراوح ما بين ستة وسبعة مليارات $. ورفع الحظر عن الصادرات الإيرانية من البتروكيماويات والواردات الإيرانية من السلع والخدمات المغذية لقطاع صناعة السيارات وواردات الذهب وغيرها من المعادن النفيسة.
وبعد مُفاوضات وُصِفت بأنها “ماراثونية”، حيث 20 جولة من المُفاوضات استمرت أكثر من عِقد، وُقِعَ اتفاقًا وُصِفَ بأنه “تاريخيًا” بين إيران ومجموعة 5 + 1 الكُبرى في الرابع عشر من يوليو / تموز عام 2015 في ڤيينا، وهو الاتفاق النهائي الشامل، ليشمل السماح لإيران بتصدير واستيراد أسلحة، والإفراج عن جُزء من الأرصدة المُجمَّدة في الخارج في مُقابل منعها من تطوير صواريخ نووية وقُبُولها بزيارة مُفتشي وكالة الطاقة الذرية لمواقعها النووية، وتخصيب اليورانيوم بكميات ونِسب مُحدَّدة لفترة من 10 – 15 سنة.
سنوات العُقُوبة الدولية
في ظِل هذا الوضع ظلَ البحث قائمًا حول “ماذا حدث في الداخل الإيراني جراء تِلك العُقُوبات؟”، وتكشفت الأوضاع عن حقائق فعالية العقوبات وتأثيرها بالسلب على الوضع العام في إيران.
- ما قبل الاتفاق:
اقتصاديًا: صارت الأُمور سيئة إلى أبعد درجة بعدما آتت العُقُوبات أُكلها على مواطني الجُمهورية الإسلامية، فقد صرّح “چاكوب ليو” وزير الخزانة الأميركية في 2015 أن الناتج المحلي الإيراني انخفض بنسبة 20 % وأن طهران تكبدت خسائر مالية في ميزانيتها منذ عام 2012 تُقدّر ب 160 مليار $.
واعترف وزير النفط الإيراني في يناير 2013 أن صادرات النفط الإيرانية فقدت قُرابة من 4 – 8 مليار $ من حجمها، فتراجعت صادرات النفط في 2013 لتصل إلى 700 ألف برميل يوميًا فقط. و تكبدت إيران في عام 2012 خسائر لقطاع النِفط لديها تُقدّر ب 26 مليار دولار نظرًا لتهالكه نتيجة النقص الحاد في أدوات الإنتاج اللازمة لعملية استخراج النفط، بل وصل الأمر إلى أن طهران أصبحت لا تستطيع “تكرير” ما يكفي من الوُقُود لتغطية احتياجات البلاد على حسب ما أوردت CNBC عربية، وهذا ما ترتب عليه ارتفاعات في أسعار الوقود.
حتى تبينت النقلة التي أحدثتها العقوبات، فرغم امتلاك إيران واحدة من كُبريات احتياطيات الغاز في العالم، إلا إنها لجأت إلى استيراد الغاز من تركمانستان ودول أُخرى للوفاء باحتياجاتها، وذلك لتهتُك البنية التحتية النفطية في البلاد، وانسحاب الشركات النفطية، وقد توازى هذا مع ازدياد معدلات استهلاك الغاز الطبيعي، فخلال عام 2016 كان يُستهلَك ما هو مقداره 1.6 مليار قدم مكعب يوميًا.
وفي دراسة مُصغّرة لمركز الخليج العربي للدراسات الإيرانية، أن التضخُم بين عامي 2013 – 2015 بلغ مُعدلات قياسية بين 17 – 40 %، مع انكماش في الاقتصاد المحلي عام 2012 وصل إلى 6.8 %، وفي عام 2013 وصل إلى 1.2 %. بالإضافة إلى حُدوث انقلاب من فائض مالي بنسبة 3 % في في موازنة “2010 / 2011” إلى 1 % عجز في موازنة “2013 / 2014”. كما أكدت دراسة المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيچية.
وانخفضت قيمة “الريال الإيراني” بنسبة الثُلثين في مُقابل الدولار الأمريكي، مما أدى إلى موجات من الارتفاعات الحادة في أسعار المواد الغذائية الأساسية والسُكر والفواكه مُتضاعِفة من 3 – 4 مرات على الأقل، في تقرير أعدّهُ الباحث المُتخصص في البيئة الأفغانية / ديديه شودي لموقع هافنتجتون بوست الفرنسية. مما أدى إلى زيادة نشاط عمليات التهريب الخاصة بإدخال السِلع ومواد الغذاء الرئيسية مع الدول المُجاورة.
بيئيًا: استغلت الحُكومة الإيرانية البيئة استغلالًا شاقًا للاستفادة القُصوى من مواردها مما سبَّب زيادة في التصحُر وإزالة قطاعات واسعة من الغابات وانخفاض مُثيِر للقلق في الموارد المائية وهذا أدَّى إلى إهلاك البنية التحتية واحتياج النظام قُرابة 500 مليار $ لإعادة تأهيلها وتطوير قطاعاتها الإنتاجية.
كما ارتفعت نِسب التلوث في أربع مُدن إيرانية وصُنِّفت من أكثر مُدن العالم تلوثًا في العالم، وصارت منطقة الأحواز تتركز بها نسب مُلوثات تفوق ثلاث مرات مدينة بكين ذاتها، وذلك نتيجة ارتفاع مُعدلات السُمية في عمليات استخراج النفط وتكريره، مما يُهدِد المُستقبل البيئي لإيران وللمنطقة ككُل.
معيشيًا واجتماعيًا: تُعاني الجمهورية الإسلامية من بطالة عارمة حيث تتراوح نِسب البطالة ما بين 11 – 25 % على حسب ما أوردت سكاي نيوز عربية، وهي نِسبة قياسية، مع ارتفاع نِسب خَريجي الجامعات سنويًا ولا تجِد الدولة منفَذ توظيفي لهم.
وارتفاع مُعدلات الفقر ، حيث أكد مركز الإحصاء الإيراني أن هُناك 47 مليون إيراني لا يتلقون الغِذاء المُناسِب، كما يصل دخلهم إلى أقل من 4300 تومان للفرد – “4 دولارات تقريبًا يوميًا” – من أصل 70 مليون نسمة، أي أقل من إعلان البنك المركزي أن معدل خط الفقر هو 302 دولار شهريًا – مع الأخذ أن هذه الإحصائية كانت عام “2010”.
ولكن في عام “2014” صرّحَ وزير العمل الإيراني “علي ربيعي” أن هُناك 12 مليون فقير رسميًا في البِلاد، ومُعاناة 8 مليون إيراني من سُوء التغذية.
وانخفضت نسبة الدعم على مُنتجات النفط والمياه والكهرباء والخُبز كسلع وخدمات أساسية من 27 % في موازنة “2007 / 2008” إلى 1.3 % في موازنة “2015 / 2016” حسب تقديرات البنك الدولي.
وعلى جانب الحياة الاجتماعية، فقد أثبتت إحصائية حديثة أن هُناك 19 حالة طلاق كل ساعة في المُجتمع الإيراني ورأس أسباب الطلاق تمثل في ترّدي الأوضاع الاقتصادية للمواطنين جراء زلزال العُقوبات المفروضة على إيران.
صِحيًا: تداعىَ القطاع الصحي كذلك، ففي ظِل إصابة 85 ألف مواطن إيراني بالسرطان سنويًا، وإصابة 23 ألف بمرض “السيدا” يتعذر على هؤلاء التحصُل على عِلاجهم في ظِل ارتباطه بمُركبات كيميائية تحول الإجراءات العقابية شديدة التعقيد المفروضة على شركات ومؤسسات أجنبية تتعامل مع القِطاع الصِحي الإيراني من تصدير هذه المواد والمُركبات لإيران.
مع زيادة مرضى القلب في منطقة الأحواز نتيجة المُركبات السُمية سالفة الذِكر بنسبة 30 %.
كما يُعانِي القِطاع الصِحي الإيراني من تهالُك في المُعدّات والبُنية التحتية الخاصة به، ونقصًا حاد في عدد الأسِرّة يُقدّر ب “60 ألف سرير” – كما صرّح نائب وزير الصحة الإيراني – و كذلك الخدمات المُقدَّمة إلى المرضى، بالإضافة إلى مُعضلات في نوعية وكمية الأطباء والمرضى،
ومع تدني مدخولات الأطباء ومعيشتهم ظُروف صعبة، في ظِل الظُروف الاقتصادية الصعبة والبحث عن مصادر أُخرى بدت هُناك خُروقات متعددة من قبلِهم مما أضفى انطباعًا سلبيًا وسُوءً قي أداء الخدمة الطبية والعلاجية، بالإضافة إلى نمو تِجارة الأعضاء البشرية بحثًا عن مالٍ أوفر.
- ما بعد الاتفاق:
يقول الإيرانيون أن “كمٌ هائل من الأواني والصُحون ولكن لا أثر لعشاء”، يستشعر العديد من الإيرانيين بإحباطٍ عام وتراجُع حاد في وتيرة التفاؤل التي انتابتهم يوم توقيع الاتفاق فملئوا على إثرها شوارع إيران مُهللين بإتمام هذا الاتفاق،
الاتفاق في طور عامه الثالث ولا أثر يُذكَر للاتفاق، فالرحى لم تُفرِز طحين.
فطهران تجد صُعوبة في استرداد جُزء من الأُصول المُحرَّرة أصلًا والتي تُقدّر بحوالي 55 مليار $، نتيجة إحجام البُنوك والقطاعات المصرفية الأجنبية من التعامُل مع القطاع المصرفي الإيراني خشية الوقوع تحت طائلة العُقُوبات الأمريكية أُحادية الجانب التي لم تُرفع بعد والتي ستُكلِفهم مليارات الدولارات كغرامات. وتُشيِر تقارير وإحصائيات أن إيران لم تستلم منهم فعليًا سوى 3 – 4 مليارات$.
كما توقفت صفقات إيرانية مع شركة الطائرات “إيرباص” لاقتناء 118 طائرة بقيمة 27 مليار $ لضعف التمويل مع فرنسا، وكذلك صفقة مع شركة الطائرات “بوينج” لاقتناء 100 طائرة بتكلُفة 17.6 مليار $ قام البيت الأبيض بعرقلة الاتفاق بصددها. ولكن هذه الاتفاقيات عاودت طريقها للنور بعد سماح إدارة أوباما بتمريرها آنذاك، ولكن مجيء ترامب إلى سُدة الحُكم حول الموقف إلى الغُمُوض مُجددًا.
وحالة السوق لم تتغير فما زال الكساد قائم، ونِسب الفقر لم تتغير كثيرًا عما قد أسلفنا ذكره فيما قبل الاتفاق، والبطالة في نِسبٍ رسمية تتراوح بين 11 % – 14 % تُقارب 2.5 مليون عاطل وإحصاءات غير رسمية تدور حول 3.5 مليون عاطل، على الرغم من أنه كان من المُفترَض أن تُضَخ في السُوق الإيرانية استثمارات أجنبية بقيمة 3.5 مليار $.
حتى أن صندوق النقد الدولي طالب إيران بإعلان الشفافية بصدد وضع بُنوكه، ليتأتى له تفسيرًا صحيحًا لحالة انخفاض التضخُم واستمرار ارتفاع سعر العُملة وعلى الجانب الآخر رُكُود الاقتصاد في البلاد في الوقت ذاته.
حتى البضاعة الإيرانية الرائجة المُمثَّلة في النفط والغاز، فقد اصطدمت إيران بالسُوق العالمي “المُشبَّع” والذي يفيض عن حاجته في الأصل بالنِفط فانهارت أسعار برميل البترول إلى مستوياتٍ غير مسبوقة إلى 30 $.
وفي استطلاع لمركز الدراسات الدولية والأمنية بولاية “ميرلاند”، فقد انخفضت نسب تأييد الإيرانيين للاتفاق بنسبة 63 %.
كيف تعامل النِظام الإيراني مع أوضاع البلاد؟
بدا النِظام الإيراني في فترتي العُقوبات وما بعد الاتفاق لا حيلة له، ويعزو ذلك إلى عدم قدرة الحُكومة والنِظام الإيراني ككُل في التعامُل مع هذه الإجراءات، ففشلت الحكومة في إعداد خطة قويمة ومُتكاملة لهاتين الفترتين لا سيما ما بعد الاتفاق فلم تُعدِل النِظام المصرفي وهو نظام “السويفت الدولي” وهو يتسم بالقِدم الشديد.
وقد كان هذا عامل هام في إحجام المُستثمِرين الأجانب من الوُلوج للسُوق النفطية الإيرانية فجديرٌ بالذكر أن إيران استطاعت تحصيل قُرابة 5 مليارات $ من مبيعات تصدير نفطية ولكن يتعذر عليها الحُصول عليها بصفة رسمية بسبب هذا النظام المصرفي بالإضافة إلى عدم تدخُل حكومة البلاد للإسراع في رفع العُقوبات عن نظامها المصرفي، بالإضافة إلى مناخ الاستثمار الذي يُقابِل أزمات هيكلية أثرت على مُعدلات النمو.
عدم اهتمام النظام بالملفات الداخلية كتحسين معيشة المواطنين أو رفع كفاءة القطاعات الإنتاجية، فآخر الإحصاءات الرسمية لنسبة الفقر في البلاد من قِبل البنك المركزي الإيراني كانت عام 2005 وكانت النسبة 32 %، فكيف الوضع الآن مع عدم تحديد الدولة خط فقر أو مُعدل فقر مُعين في ظِل تخبُط أجهزة الدولة المصرفية وتخريجها نِسب مُتضاربة ومُتناقضة، مع الاتجاه لإجراءات التقشُف والتي تُثقِل كاهل المواطنين.
فقد خرج المُعلِمون قبل ذلك في احتجاجات عارمة لانخفاض دُخولهم أمام حجم التضخُم والغلاء ولكنها قُوبِلت بالقمع والاعتقالات والمُحاكمات، على النقيض يُوجَد اهتمام شديد للملفات الخارجية في الملف السُوري والقضية الفلسطينية وتدعيم حزب الله والمجموعات القتالية الشيعية في العراق وجماعة الحوثي في اليمن والمواجهة الدبلوماسية العنيفة مع السُعودية وتُنفَق أموالًا طائلة في هذا الإطار فتشمل النفقات، مشروعات التسليح العسكري والمشروع النووي والمُعدات اللازمة لإتمامهِ بغرض تصدير مشروع الثورة الإسلامية الإيرانية في المنطقة.
مع احتكار فِئة قليلة مُمثَّلة في النظام الحاكم ثروات البلاد لا سيما قُوة الحرس الثوري الإيراني والتي تمتلك نُفوذًا اقتصاديًا وعسكريًا وسياسيًا تُناطِح سُلطات رئيس البلاد ذاته، ويمتلك الحرس قُرابة 20 – 40 % من اقتصاد البلاد بصورة رسمية.
بالإضافة إلى تضخُم الملفات الداخلية لإيران أبرزها، ملف الحريات المدنية والاجتماعية لاسيما حُريات الإنترنت والإعلام وحُقوق الإنسان، وقضية الانفتاح من الناحية المُجتمعية، ورفع القيود، وتحسين أوضاع المرأة، ومواجهة التمييز، وحقوق القوميات غير الفارسية، ومواجهة أزمة البطالة، والانفتاح من الناحية الاقتصادية على الاستثمار الأجنبي والداخلي، ومواصلة العمل على مواجهة الأزمة البيئية، وهي لم تُنظَر بعد بعين الاهتمام أو التخلُص من أعبائها، وكانت هذه الملفات جُملة في برنامج حسن روحاني ووُعُوده أثناء حملته الانتخابية لولايته الثانية في مايو الماضي.
مُنعطَف ترامب
جاء ترامب مُحمَّلًا بأيديولوچيته ويمينيته ليُبدِّد تركة أوباما في اتفاقهِ مع إيران، وليُزيِد طين إيران يِله، فما فتأ ترامب أن يترك مَحفل أو مؤتمر أو تجمُع أو خطاب إلا وهو يصُب اللعنات على الاتفاق وإيران، حتى أن النُعوت التي وصمها ترامب للاتفاق وإيران أصبحت عصية على الحصرّ، ذكر أن الاتفاق النووي الذي أبرمته الولايات المتحدة الأمريكية مع إيران واحد من أسوأ الاتفاقات في تاريخ أمريكا وأنه “مُخجِل” وأن إيران لا تحترمه، ووصف إيران مرةً بأنها دولة ديكتاتورية فاسدة ومرةً بأنها إحدى الدول المارقة، وأن حكومة طهران تجنح للتدمير والموت وأنها إحدى الدول الداعمة للإرهاب.
حتى أعلن في الثالث عشر من شهر أكتوبر الماضي سحب الإقرار بالتزام بلاده مع إيران بصدد الاتفاق، وأن بلاده ستفرض المزيد من العقوبات القاسية على إيران لعرقلتها عن تمويل الإرهاب، ووجه للكونجرس أمرًا بأن لديه مُهلة 60 يومًا لتقرير ما إذا كان سيُعيد فرض عقوبات على حكومة طهران؛ وإذ لم يفعل فسيُنهِي الاتفاق بصورة نهائية وتامة، وأعلن كذلك “استراتيچية جديدة” للتعامُل مع النظام الإيراني بالكُلية، والتي تبلورت حول فرض عقوبات جديدة والتعامُل مع حُلفاء أمريكا لمواجهة أنشطة إيران والتعامُل مع أنشطة إيران العسكرية من نشر الصواريخ والأسلحة ومنع إيران من امتلاك الأسلحة النووية.
فأصبحت إيران تتململ من طول المُكُوث أسفل سنابك الحصار الدولي والعقوبات وأصبح روحاني بعد فوزه بالولاية الثانية رهين وُعوده التي أطلقها في حملته الانتخابية، فأصبحت إيران تُولِي وجهها شطر حُلفاء جُدُد مثل روسيا والصين والاتحاد الأوروبي ذاته للبحث عن مكاسب اقتصادية ومواجهة النزيف المُستمر لمواردها وسيولتها المالية.
في ورقةٍ بحثية لمركز الجزيرة للدراسات، تحت اسم “عامان على الاتفاق النووي“، أشار أن إيران رغبت في توجيه ضربة ردة فعل لترامب، عبر الظهير الأُوروبي، مثل توقيعها اتفاقية مع شركة توتال الفرنسية لتوسيع حقول غاز “بارس الجنوبية” مُقابل حصة تبلغ 50.1 % لشركة توتال و30 % لشركة الصين الوطنية لكي تُحصِّل إيران ما هو مجموعه 4.8 مليار $ لخزانتها؛ يستحث روحاني بهذه الاتفاقية دُول العالم مُجدددًا لينسدلوا على إيران باستثماراتهم ومدفوعاتهم الدولارية ليُحرِكوا بحيرة الاستثمار الراكدة في البلاد.
ولكي يُطبِّق روحاني جُزء هام من وُعُودهِ وبرنامجه، ينبثِق هذا من رؤية الاتحاد الأوروبي التقارُبية مع إيران في أنها تسير بُخطىٍ جِدية في تنفيذ الاتفاق في مُخالفةٍ صريحة للمنهج الأمريكي الانعزالي، ويظهر هذا مُجددًا في استثمارات الشركات الفرنسية والإيطالية والألمانية في إيران في مجالات الطاقة المتجددة وصناعة السيارات وبناء الفنادق الفاخرة، بالإضافة إلى التعاون في المجالات الأمنية والعسكرية؛ إذ كشفت وكالة الاستخبارات الداخلية الألمانية في نفس العام عن سعي الحكومة الإيرانية للوصول إلى طريق سري للحصول على تكنولوچيا ومعدات نووية غير مشروعة، تتمتع بمستوىٍ عالٍ من الناحية الكمية، حتى بالمعايير الدولية وذلك من شركات ألمانية. بالإضافة إلى التعاون العسكري شبه الدائم بين إيران وروسيا واستمداد نُظُمها ومُعداتها العسكرية من روسيا لاسيما الأنظمة الدفاعية والصواريخ الباليستية.
في نهاية الأمر، رصدنا جوانب التأثير لحركة العُقوبات على الداخل الإيراني والذي لم يتغير بصورةٍ أو أُخرى حتى بعد إبرام الاتفاق مع مجموعة 5 + 1، وهذا ما يُعطِينا صُورة شبه كاملة عن حقيقة الاتفاق النووي والذي يُصنَّف بهشاشته وتأسيسه على ضوابط ومعايير واهية منذ البداية.
فكلا الطرفين لا يلتزم بالاتفاق، مجموعة 5 + 1 لا تثق في إيران ثقةً كاملة، فتقف مُمسِكةً بالعصا من مُنتصفها، فلا هي تلتزم بدفع حركة المال الإيراني المُجمَّد في صورة أُصُول وأقراض من بنوكها وحتى الآن القطاعات المصرفية الأجنبية تُحجِم عن السُوق الإيراني مخافة العُقوبات التغريمية. وفي الوقت ذاته لا تُريِد أن ينفلت من يدها الحصص الضخمة التي تُخصِّصها إيران للاستثمارات الأجنبية والقطاعات الخاصة لاسيما في مجالات الطاقة، ولا أن تُفوّت فُرصةً أسواقٍ جديدة لمُنتجاتها.
وفي ديسمبر الماضي- نهايات حكم أوباما- أقرّ مجلس الشيوخ قانون تمديد العقوبات على إيران لمُدة عشرة سنوات قادمة -رغم مُعارضة أوباما له- إمعانًا في تشديد الوِثاق على إيران وضمان التزامها بالاتفاق ولم يكُن في الحُسبان قُدُوم ترامب آنذاك الذي أزاد من كأس العقوبات والحِصار.
إيران ذاتها دأُبت على عدم تنفيذ بُنُود الاتفاق النووي في بعض الأحايين، فقامت بتطوير واختبار صواريخ بعيدة المدى تستطيع حمل رؤؤس نووية، وأشارت صحيفة “واشنطن تايمز” أن الإيرانيين يسعون سعيًا حثيثًا لامتلاك قُدرات نووية ويبذلون محاولات غير شرعية في الحُصول على تقنيات تكنولوچية نووية محظورة من الشركات الألمانية.
ودشنت تجرُبة الصواريخ الباليستية في مارس 2016 لأغراض دِفاعية على حد ذِكرها. وكانت هذه رسالة لأمريكا بالأخص تعبيرًا عن غضبها من طول الحِصار وعدم إنفاذ الاتفاق النووي.
وما زال الطرفان يتراشقان حول عدم احترام بُنُود الاتفاقية وعدم الالتزام بضوابطها في ظِل عدم توفر المناخ المُناسِب والظُروف المواتية لتحقيق الاتفاقية مما يُهدِّد بهدمها في ظل تشدُد الجمهوريين في أمريكا وضغط المُحافظين في إيران وتقارُب الأوروبيين، مما يشِي بتبدُد هذه الاتفاقية، وتتخذ العلاقات الإيرانية الغربية بالكُلية مُنحنىً جديدًا.