لقب الشاعر حافظ الشيرازي “بلسان الغيب وترجمان الأسرار” وهو اللقب الذي يعكس مكانة حافظ منذ القدم، وليس في العصر الحديث لدى الإيرانيين، حافظ ليس مشهورًا داخل إيران فحسب، بل امتدت شهرته لتصبح عالمية، إذ ترجمت دواوينه إلى عديد من لغات العالم، إلى جانب كثير من الندوات والدراسات التي يتمحور موضوعها حول “حافظ وشعره” وكأن دراسته لن تكن كافية أيضًا، وربما ذلك هو نفس الأمر الذي جعل اليونسكو تعتمده واحدًا من أهم كتاب الأدب على مر التاريخ.
حياته
لا يوجد أدلة قاطعة حول تاريخ ولادة حافظ الشيرازي، غير أن التاريخ المتداول هو ولادته عام 726 هـ في مدينة شيراز، وقد لقب حافظ الشيرازي ب”حافظ” وذلك لحفظه القرآن الكريم بقراءاته الأربع عشرة، أما الشيرازي فهو نسبة إلى مدينة شيراز، وقد تعلم في شبابه العلوم الدينية إلى جانب الأدبية، ليصبح نابغًا فيها وهو لم يتعد عقده الثاني بعد.
لم يبتعد “حافظ الشيرازي” كثيرًا عن البلاط الملكي، إذ حصل على منصبا كبيرا وقت حكم الملك جمال الدين ابواسحاق، والذي اشتهر بالعدل والانصاف، كما أحب الملك العلماء والأدباء، فحصل الشيرازي على الاهتمام، وفي مقابل ذلك أطلق هو القابا عديدة على هذا الملك مثل “سماء العلم والحياء”.
غير أن في فترة حكم “الأمير مبارز الدين” كانت فترة ظلم وتعصب في الدين فرفض حافظ الشيرازي طريقته في إدارة شئون البلاد، لذا قام ولداه مسعود وشجاع بإسقاطه من الحكم، فأعجب بهما الشيرازي لنبذهما التعصب واهتمامهم بالشعر والشعراء، أما الوقت الأخير في حياة شاعرنا فقد وافق هجوم أمير تيمور على شيراز بعد مذابح أقامها داخل أصفهان، غير أنه أعجب بالشيرازي وشعره فحظى من جانبه بالرعاية والتقدير.
عن شعره عابر الزمن
ما الذي يمكن أن يتسبب في أن تحيا الأشعار أبدًا أو الأدب بشكل عام؟ هو أن تستطيع هذه الأعمال أن تظل معبرة عن روح أي عصر مهما اختلف هذا العصر، وحافظ المولود في القرن الرابع عشر الميلادي يقفز شعره عبر القرون المختلفة، ليظل معبرًا عن روح أي عصر، فهو لا يكتب للحظة راهنة، بل هو يكتب عن اللحظة الإنسانية، تلك التي لا تتغير مع مرور الوقت، حتى مع تغير أولويات البشر وطرق معيشتهم، إلا أن الألم والحلم والرغبة تبقى واحدة، يكتب “حافظ” عن الفرقة والنفاق والرياء والصراعات الظاهرة، كما يحاول التعبير عن الحب والعشق والمسامحة والرضا والتصوف وكذلك حب الحياة، يكتب “حافظ” عن كل شىء وأي شىء بروح حساسة، وذهن متقد.
يقول الشيرازي:
لنا الله يا أصحاب القلوب، فهذا القلب يفلت من يدي ** وَيْليْ فهذا السرّ المکتوم سوف يشتهر
كما لا يلزم حافظ نفسه باتجاه ثابت، فهو رغم ما عُرف عنه من تصوف لا يقصر كتابته في هذا الجانب، بل ينطلق إلى كل الآفاق الرحبة ملقيًا ما في قلبه ومحيله إلى سطور، فتصل أعماله إلى كثير من الجرأة التي قد لا نعهدها على كاتب يبدو محافظ، وهو الأمر الذي يجعله دائمًا على ربغة في أن يملأ شعره بالأفكار المرحة، كذلك يطعمها بالموسيقى الظاهرة فتصبع كأنها أغنية، أما مفرداته فهي جديدة دومًا، وكأنه يصنع تركيبات خاصة به، إلى جانب التشبيهات الجديدة التي يلتقطها بحسٍ واعٍ، وشعور حساس، حيث يكتب:
انظر كيف تبتسم شفاه الأرض هذا الصباح
رقدت بجانبي ليلة أمس، مجددًا!
ترجمات
ترجمات “حافظ الشيرازي” لم تقتصر على بعض الترجمات البسيطة، بل ترجمه أكبر كتاب العالم، فقد ترجم أعماله الكاتب الإنجليزي “رالف إيمرسون” والذي قال عنه أنه “كتب شعرًا يحدِث به الشعراء” أما الكاتب الألماني “غوته” فقد ترجم أعماله هو الآخر ليقول عنه “ليس كمثل حافظ أحد”.
ورغم أن “حافظ” كتب شعره بالفارسية إلا أن هناك قصائد أدخل بها اللغة العربية، كالقصيدة التي مطلعها ألا يا أيها الساقي أدر كاسا وناولها ** كعشق أسان نمود أول ولي افتاد مشكلها” ونلاحظ كيف بدأ البيت الأول هنا بشطرة عربية، في حين تنتهي القصيدة ببيت “حضورى گرهمى خواهى از او غايب مشو حافظ ** متى ما تلق من تهوى دع الدنيا و اهملها”.
بجانب الترجمة، ألهمت قصائد “حافظ” كثير من الكتاب حول العالم لكتابة أعمالهم، مثل “آرثر كونان دوبل” الذي أخذ كثير من أشعاره وكتبها على لسان بطله الأشهر “شيرلوك هولمز” المحقق المشهور، إلى جانب تأثر الشاعر الأسباني “فيدريكو غارسيا لوركا” به.
تأثير “الشيرازي” امتد أيضًا إلى الجانب الموسيقي، إذ تأثر به الموسيقي الألماني “يوهان برامز” حيث وضع مقاطع لشعره داخل مؤلفاته الموسيقية، أما الملكة فيكتوريا (ملكة بريطانيا السابقة) فقد أوضحت أنها تعد كتاباته مرشدًا روحيًا لها.
اهتمام إيراني
بعكس المعادلة المعروفة أن جدة الشاعر لا تعني بأي حال من الأحوال محبة شعبية جارفة له، حيث يهتم الجماهير دائمًا بالأدب البسيط استطاع “حافظ الشيرازي” أن يكسر هذه القاعدة، حيث حظى باهتمام شعبي من جدة وعبقرية أعماله، وهو أمر لم يتحقق إلا لقلة من الشعراء.
وتعد أهم المظاهر المتعلقة بذلك، هو حب الإيرانيين للاحتفاظ بأعماله، فلا بيت يخلو من ديوان حافظ، سواء في كتاب، أو معلًا كأحد الأبيات التي يمكن أن تزين الحائط، وبحسب التقاليد قديمة، فإن الإيرانيين في الأعياد الدينية وغيرها يستخدمون الديوان بكونه جزء من معرفة الطالع، حيث يفتح شخص متقدم في السن أو من عرف عنه صفاء النية بفتح صفحة عشوائية من ديوان الشاعر الكبير ليقرأ من الشعر ما وقعت عيناه عليه، وذلك بصوت عالٍ، فيفسر إشارات الشعر لصاحب الفال، أما المتدينون فيقرأون الفاتحة لروح حافظ ثم يقبلون الديوان، ويدعون له ولأنفسهم، ثم يفتحوا إحدى صفحات الديوان ليعرفوا ما يخبرهم به.
استخدام أشعار حافظ في الطالع لا يقتصر أيضًا فقط على الماسبات الدينية، إذ ينتشر بيع أشعار “حافظ” ويشتري الجمهور ورقة تحتوي على شعره، وكأن تلك الأبيات هي التي تخبرهم عن طالعهم.
فشعر حافظ ملئ بما يمكن اعتباره نصائح متفرقة، حيث يكتب:
إنني أنصحک، فتذکر نصيحتي واعمل بها ** فإنها تذکرة طيبة من شيخ لي في طريقتي.
لا تغتمّ بهذا العالم، ولا تطرح نصيحتي عن بالک ** فلطيفة عشقي هذه قد استفدتها من مريد سالک