في البحث عن أسلوب خاص، لم يلجأ “عباس كيارستمي” إلى أي أسلوب جديد، ولكنه احتمى بسينما الواقع، التي جعلت منه أكبر مخرجي إيران والعالم كله، فقط “التفاصيل” الصغيرة كانت هي كلمة السر لينطلق المخرج الإيراني إلى آفاق رحبة، التفاصيل الصغيرة التي جعلته يهتم بأبسط اللحظات، تلك اللحظات التي لن يلتفت إليها أي أحد.
ولادة
ولد عباس كيارستمي في 22 يونيو عام 1940 تحديدًا في مدينة طهران، ثم التحق بكلية الفنون الجميلة بجامعة طهران، ثم عمل بعد ذلك فنانًا كاريكاتوريًا، ويصمم البوسترات، فيقوم بإعداد ما يقرب من 150 إعلاناً، ليساعد فيما بعد بتأسيس قسم الإخراج بمعهد التنمية الفكرية للأطفال والشباب بإيران، بينما كان أول إنتاج له هو فيلم قصير بعنوان “الخبر والشارع” وهو فيلم بسيط للغاية أبطاله طفل وكلب، ورغم وجود فريق عمل غير محترف ما عدا المصور، إلا أن عباس استطاع أن يثبت قدميه في مجال الأفلام منذ تجربته السينمائية الأولى، بعد التجربته الأولى أكمل كيارستمي طريقه في الأفلام القصيرة، غير أنه استطاع القفز إلى عالم أكثر رحاية من خلال فيلمه “كزراش”.
سينما الطفل
رغم تنوع أفلامه جمعها دائمًا عدة خيوط واضحة للعيان، فعباس دائمًا ما يلجأ للأطفال داخل أعماله، يهتم بالحديث عن الحياة والموت على حد سواء، وكالعادة تستهويه التفاصيل البسيطة، وبالبيئة الإيرانية الريفية خاصة، فهو رجل قرر أن يعطي أفلامه خصوصية كبرى لوطنه، فهو نفسه الذي يقول “حينما تأخُذ شجرة مثمرة من مكانها وتزرعها في مكانٍ آخر فهي ببساطة لن تُثمر” لذا فقد آمن أن يربط جذوره بأرضه، ويرى ما الذي ستثمر شجرته، فلم يغادر إيران بعد الثورة الإسلامية مثل الكثير من المخرجين آنذاك، وفي الحقيقة فقد أثمرت شجرته أفلامًا من أهم أفلام السينما العالمية، ومن هنا تنبع المفارقة، فالخصوصية الشديدة للأرض، هي ما أعطت أفلام عباس كيارستمي ألقها وتفردها، الذي جعلها تناطح أفلام هوليوود.
كلوز آب
ثم حدثت القفزة التي صنعها “كيارستمي” من خلال فيلمه “كلوز آب” والذي يحكي قصة حقيقية لشخص ادعى أنه المخرج “محسن مخملباف”، كان عباس في هذا الوقت بصدد مشروع آخر، ولكنه ما إن وقعت عيناه على الخبر، حتى أدار رأسه وكاميرته تجاهه وبدأ في العمل فيه بكل طاقته، لم يكن فيلم عباس دراميًا أو مأساويًا، ولكنه كان فيلمًا عن حب السينما بالدرجة الأولى، إذًا هذه تفصيلة أخرى خرجت عن قصاصات الجرائد وأخبار الحوادث، إلى جانب آخر أغفلته أخبار الحكاية، إنه الشغف نحو السينما الذي يجعلك تلقي نفسك في التهلكة حتى لو اقتضى الأمر ادعاء أنك شخصية أخرى.
الموت والحياة
لفت هذا الفيلم أنظار العالم كله ناحية “عباس كيارستمي” ولكنه لم يتوقف عند تلك المحطة، فأنتج ثلاثة أفلام عرفت باسم “ثلاثية كوكر” وهو نفس الفيلم الذي ظل فيه عباس يفكر في علاقة الموت بالحياة، وذلك بعدما زار “كوكر” المدينة التي ابتليت بزلزال عنيف أدى إلى موت 50 ألف شخص، قرر أن يبدأ في صناعة ملحمته عن الحياة، بخط درامي طويل، لن يقول إلا أن الحياة تستمر رغم الألم، ليصبح من أخف الأفلام التي تتحدث عن حدث ثقيل وكئيب مثل هذا.
وعلى نفس المنوال صنع فيلمه “طعم الكرز” ذك الفيلم الذي يكمل هاجس “كيارستمي” نحو الموت، ليحكي عن قصة رجل يدعى السيد “بديع” يحاول الانتحار طوال الفيلم، ليكتشف من خلال طريقه للموت معنى آخر للحياة، ومع نهاية كيارستمي المفتوحة فإنه يقتنص أيضًا أبسط اللحظات، التي لا يشترط أن تقدم أزمة فكرية جديدة، بقدر ما تقدم لك شعورًا إنسانيًا حقيقيًا، ليحصل بسببه على حصل على جائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي عام1997
ولم تتوقف الجوائز عند هذا الحد، ففي عام 1999 عاد كيارستامي بفيلمه “ستحملنا الريح” والذي حصل على جائزة لجنة التحكيم الكبرى “الأسد الفضى” في مهرجان البندقية السينمائي، لذا فرغم كلفته الصغيرة استطاع أن يحصد الجوائز، أما قصته فهي تحكي عن فريق تصوير سينمائي ثلاثي في مهمة لتصوير شعائر وفاة وجنازة امرأة في عمر المائة عام، ولكن الأمر يتغير بعدما تتحسن حالة المرأة، وكالعادة يكمل عباس منهاجه في عدم وضع نهاية فاصلة لما بدأه، وهو الأمر الذي يوضحه بقوله “السينما نصف الكاملة، أو السينما غير الكاملة التي تكتمل عن طريق الروح الإبداعية الخلاقة للمشاهدين”، لذا دائمًا ما كان يفضل أن يترك لعقلك بقية الحكاية، وكأن نصف حكايات “كيارستمي” تتحقق في مخيلة مشاهديه.
اتجاه وثائقي
الخيال ليس فقط هدف عباس، فقد ركز على السينما الوثائقية بشكل كبير، وهو ما دفعه لتصوير فيلمه الوثائقي “أي بي سي أفريقيا” عام 2001، وفيه يكمل فلسفته من خلال نافذة أخرى تطل على بلد جديدة وهي أوغندا، حيث رصد من خلاله ارتفاع نسبة الأيتام بسبب مرض الإيدز، وهي ثنائية أخرى للموت والحياة، ينفذها ببراعة.
أما في عام 2002 بدأ المخرج الإيراني في أسلوب جديد ومختلف عما كان عليه، فقد ركز بشكل أكبر في فيلمه “10” على المشاهد السياسة والاجتماعية داخل إيران، من خلال بطلته التي تتجول بسيارتها خلال 10 أيام داخل طهران، ورغم اختلاف طرق تقديم العمل، إلا أن عباس ظل متمسكًا فكرة السيارة، التي تجد بقوة في كثير من أعماله، وهو لديه في ذلك فلسفة كاملة، حيث يظن أنه المكان الأمثل للحوار، ولمواجهة الشخصيات، وابتعاد الكاميرا من الداخل مما يصنع حوارًا أكثر عفوية.
يأتي عام 2003 ليقدم فيلمه “الخمسة” ويميز هذا الفيلم خلوه من التمثيل والحوار، فكل ما هنالك خمس مشاهد عن الطبيعة! وقد تم تصوير هذا الفيلم بكاميرا يديوية، وفي 2005 و2066 اتجه للوثائقي من جديد وذلك من خلال فيلمه الوثائقي “طرق كيارستمي” الذي ركز في على المناظر الخلابة والجميلة، وهو تركيز لم يهمله أبدًا كيارستمي في أفلامه، بل كانت الطبيعة جزء لا يتجزأ من أعمال كيارستمي منذ بدايتها.
ورغم وفاة كيارستمي في الرابع من يوليو عام 2016 إلا أن فيلمه “24 إطار” لم يتم عرضه بعد له، وهو فيلم فرنسي إيراني شارك في مهرجانات عدة، غير أنه لم يعرض حتى الآن.